مراجعة: مناف الحمد

تعريف بالمؤلف

عبد العزيز ساخدينا: أستاذ في الدراسات الإسلامية في جامعة جورج ماسون فير فاكس في فيرجينيا، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تورنتو، له عدد من الأبحاث في التشريع الإسلامي، والأخلاق الإسلامية، وعلم الكلام الإسلامي. اهتم في المرحلة الأخيرة بالعلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان، والعلاقة بين الأديان.

يتألف الكتاب من مقدمة، وأربعة، فصول، وخاتمة.

مقدمة الكتاب

في مقدمة الكتاب إشارة إلى ما نتج عن انهيار نظام القطبين بعد الحرب الباردة من توتر كان في بؤرته الصراعات بين الجماعات الدينية، وما أفرزته هذه الصراعات من تكوّن صورة نمطية لدى الغرب عن الإسلام قائمة على عدّه دينًا قائمًا على العنف، ومفرخًا للإرهاب.

وقد ساعد في اكتمال هذه الصورة انصراف المؤسسات البحثية في الغرب عن تضمين أثر الدين، وقيمه في الأبحاث التاريخية، وفي العلوم السياسية. وهو انصراف يجد جذره في إرث التنوير الأوروبي الذي أعمى الباحثين عن دور القيم الدينية في حياة البشر، وفي ذكريات راسخة عن استغلال الدين من جانب السياسيين، ورجال الدين؛ لتسويغ العنف السياسي منذ الحروب الصليبية، والحروب الكاثوليكية البروتستانتية، والمجازر التي ارتكبها المسيحيون الأوروبيون بحق اليهود.

وقد بادر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن إلى التصدي لدراسة حالات تاريخية كان للقيم الدينية فيها دور فعال في حلّ الصراعات، وقد نتج عن هذه المبادرة وضع أسس لمشروع حلّ الصراعات الذي تطور إلى برنامج سمي (برنامج الدبلوماسية الوقائية).

كتاب (عبد العزيز ساخدينا) هو إحدى الثمار اليانعات لهذا البرنامج الذي يحاول أن يرصد دور القيم الدينية في حلّ الصراعات بدلًا من إذكائها، والكتاب يحاول سدّ ما يسميه الكاتب (فجوة القيم) بين الإسلام والغرب انطلاقًا من قناعة فحواها: أن القرآن يشدد على قيم الكرامة الإنسانية، وحرية الضمير، وحبّ الله مخلوقاته جميعها، وهي قيم لا تقوم قائمة للتعددية الديمقراطية من دون الاعتراف بها.

الفصل الأول: البحث عن ديمقراطية تعددية في الإسلام

في هذا الفصل يلخص الكاتب الإنجازات التي يزعم أن العمل حققها، وهي:

– تحليل الجوانب المنطقية للوحي.

– تحديد السياق التاريخي للوحي.

– توضيح المعاني القرآنية من خلال مرجعية بين/ نصية.

– شرح النصوص باستخدام الأحاديث النبوية.

ويعرض الافتراضات المسبقة التي يقوم عليها أي عمل تأويليّ استنادًا إلى علماء تفسير مسلمين محدثين:

– لا ينبغي أن يفرض المؤول رأيًا على النصّ.

– يجب أن يكون التقصّي المعجميّ سبيلًا كافيًا لفهم المصطلحات.

– ينبغي أن يستند تحرّي المعاني إلى استخدام الأدوات الأصولية بمثل التمييز بين العموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، وليس إلى مقارنة الآيات التي تناقش موضوعًا واحدًا فحسب.

– ضرورة تبنّي منهج النبيّ وأصحابه في تفسير الآيات.

الفصل الثاني: الناس أمة واحدة

يؤكد الكاتب في هذا الفصل أن القرآن يعترف بالأديان الابراهيمية الأخرى، ويعدّها تعبيرات ناجزة عن استجابات للكائن المتسامي، ولا ينظر إليها بوصفها ذات شأن أقلّ من الإسلام، وأن هذا الاعتراف يمكن أن يساعد في استيلاد قيم أخلاقية يقوم عليها تديّن إنسانيّ يؤسّس نظامًا عادلًا في الأرض.

ويقترح الكاتب إحلال التفكير الأخلاقيّ محلّ التفكير التشريعيّ والاعتقاديّ؛ من أجل تأسيس لغة كونية للكرامة الإنسانية.

إن التعددية الدينية في القرآن مفهوم أساس فيه، وليس مقحمًا، والآية في سورة البقرة يمكن أن تكون دليلًا على ذلك:

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([1]).

فهي تؤكد ثلاث حقائق:

– وحدة الجنس البشري.

– خصوصية الأديان التي جاء بها الأنبياء.

– دور الوحي في حل الخلافات التي تحصل في المجتمعات المؤمنة.

وهي لا تنفي التناقضات بين الأديان المختلفة في ما يتعلق بالاعتقاد الصحيح، والممارسة الصحيحة، ولكنها تؤكد الحاجة إلى الاعتراف بوحدة الإنسانية، وضرورة العمل في سبيل التوصل إلى تفاهم بين أصحاب الأديان.

ثم إن صيغة الفعل في الماضي (كان) لا تعني أن الآية تتحدث عن وضع منقضٍ، وإنما هي تقرّ حقيقة قائمة، ودائمة؛ لأن الفعل (كان) في العربية لا يتضمن بالضرورة مدلولًا زمانيًا، وإنما قد يكون محض رابطة بين الموضوع والمحمول.

إن حجر الزاوية في مفهوم التعددية الدينية القرآني هو الاعتراف بالحرية الدينية، وما حدث من انحراف عن هذه الحرية التي يقرّها القرآن إنما كان بدافع السيطرة على الشعوب الأخرى الذي صاغ له فقهاء مسلمون تأصيلًا شرعيًا؛ خدمة لرغبة الحكام.

ويؤكد الكاتب _استنادًا إلى آيات أخرى_ أن القرآن ينصّ على أن البشر يُحاكمون يوم القيامة على أدائهم الأخلاقيّ، لا على انتمائهم الدينيّ بمثل الآية:

«إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»([2]) .

ومفهوم الفطرة في القرآن _وهي فطرة مشتركة بين البشر_ يمنح أساسًا لإجماع بين أتباع الأديان المختلفة على قيم وأهداف عابرة لالتزاماتهم الدينية المتغايرة.

أما فكرة الخلاص الذي يدّعي كل دين أنه السبيل الوحيد إليه، فالكاتب يستدلّ برؤى قديمة، وحديثة؛ من أجل تأكيد أن القرآن يعترف بادعاءات الخلاص للأديان الأخرى، وأنه لا ينصّ على أنه مبطل للكتب السابقات.

فالمعتزلة من القدماء عدّوا أهل الكتاب مسؤولين عن سلوكهم الذي تأمرهم به أديانهم المعترف بها على الرغم مما أصابها من تحريف.

و(الطباطبائي) ([3]) من المحدثين رفض الرأي القائل: إن الله وعد بالخلاص لأتباع دين معين، ورأى أن أي شخص يتبنّى اعتقادًا ما، ويسلك سلوكًا موافقًا لاعتقاده مستحق رحمة الله، وحمايته من عقابه.

أما ما يمكن أن ينشأ بين الأديان من توترات تنتهك التعددية الدينية؛ بسبب رفض الاعتراف بالأديان الأخرى التي يمكن أن يجد من يحرضونها نصوصًا تؤيد رؤيتهم الأحادية من مثل السورة:

«قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين».

فإن هذا النصّ _وفق ساخدينا_ لا يعبر إلا عن تعبير خبريّ، وهو تعبير لا يفعل شيئًا أكثر من إثبات علاقة إيجاب أو سلب بين مسند ومسند إليه. وثمة آيات تؤكد أن الإسلام ليس مقتصرًا على الرسالة المحمدية:

«إنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا»([4]).

فهي تؤكد اعتراف الإسلام بمجتمعات الأديان الأخرى، وهو اعتراف لا يتناقض مع عدّ الأمة الإسلامية خير أمة.

والآية التي دأب الإقصائيون من الإسلاميين على استخدامها؛ لتأكيد رؤيتهم: «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين»([5]) لا تصلح للاستدلال بها على الرؤية الإقصائية _في رأي ساخدينا_؛ لأن كلمة الإسلام فيها لا تعني سوى الخضوع، ولا تدلّ على دين محدد.

والدليل على ذلك هو أن الآيتين اللتين سبقتاها استخدمتا الكلمة بهذا المعنى اللغوي، وليس بالمعنى الاصطلاحيّ للإسلام.

وفي هذا الفصل يؤكد الكاتب وجود مشكلة كبرى في صوغ هوية المسلم على أساس دعوى خلاص حصرية؛ لأن هذه الصيغة مناقضة لروح الديمقراطية القائمة على الاعتراف بالتعددية الدينية، واحترام حقوق الآخر المختلف.

وهو يقول: إن هذه المشكلة تحلّ بالفهم العميق للخطاب القرآنيّ العالميّ الذي يدعو الإنسانية إلى الاستجابة لطبيعتها الأصلية القائمة على التمييز الموضوعيّ بين الخير والشر، وهو تمييز يجعل كلّ فرد مسؤولًا عن المساهمة في تحقيق العدالة على الأرض.

ثم إن رؤية الإسلام للعلاقات الدولية تقوم على أساس تشارك المجتمع العالميّ والاهتمام الأخلاقي العابر للثقافات بالمساواة، والسلام، والعدل.

ويقدم الكاتب اقتراحات للمفكرين الإسلاميين منها: ضرورة الأخذ في الحسبان السياق التاريخيّ للآيات قبل محاولة تفسيرها بوصفها نصوصًا مفردة؛ لأن الوحي موجّه دائم إلى البشرية، ولذلك يجب أن يكون قابلًا للتكيف مع أحوال الحياة، وما يصاحبها من تحولات.

ويضرب مثلًا على محاولات فقهاء قدماء تعبر عن إدراكهم ضرورة تكييف النصوص بحسب المستجدات، والمثل هو كتاب الطبري: (اختلاف الفقهاء)، وخصوصًا الفصل المسمّى: (كتاب الجهاد، والجزية، وأحكام المحاربين).

وفيه عرض لاختلافات واضحة بين المجتهدين الكبار في قضايا التعامل مع الآخر المختلف دينيًا، وهي اختلافات تكشف استجابات متغايرة للأوضاع الطارئة.

واستنتاجًا من هذا يخلص الكاتب إلى أن الأحكام الفقهية السابقة لم تعد صالحة للنظام الحديث للعلاقات الدولية، وغير قادرة على الاستجابة للمهمة الملحة المتمثلة بالاعتراف بالتعددية الدينية التي تعدّ حجر الزاوية للعلاقات بين البشر.

ويسلط الكاتب الضوء على المقاربة الأصولية للتعددية الدينية التي انتهجت مسارًا ذا شقين؛

الأول: إدخال إصلاحات اجتماعية، وسياسية؛ لمنع مزيد من التدهور الداخليّ للحياة الدينية الإسلامية.

الثاني: هو مقاومة التأثيرات الثقافية، والفكرية الغربية في المجتمعات المسلمة.

وهذا الشق الثاني يفضي إلى معارضة النظم السياسية، والاجتماعية، والمدونات القانونية التي فرضت خلال قرن ونصف قرن الماضيين.

وبرزت واضحة أزمة هذه الاستراتيجية في حرب تحرير الكويت، فقد عاد علماء دين مسلمون إلى أحكام الجهاد القديمة؛ من أجل الاستناد إليها في التعامل مع أهل الكتاب، وهي أحكام وضعت إبّان الحرب بين المسلمين والمسيحيين.

ويمكن رؤية أزمة هذه الاستراتيجية في برنامج حزب التحرير الذي يقوم على ثلاث مراحل لتطبيق الإسلام. وهو برنامج لا يقدم أيّ عرض مفهوماتيّ لوسائل تطبيق التراث التشريعيّ الإسلاميّ في سياق دولة وطنية تعددية حديثة في إطار النظام العالمي الجديد.

إن تعامل هؤلاء الأصوليين كان انتقائيًا مع تراثهم، وقاصرًا مع النظم الحديثة، أما القصر؛ فلأنهم لم ينتبهوا إلى الافتراضات الأخلاقية الكونية التي تنطوي عليها هذه النظم، ويمكن أن تقدم قواعد عقلانية صالحة لحكم المجتمعات المسلمة، وغيرها.

أما تعاملهم الانتقائيّ مع التراث الإسلامي، فهو يتضح من خلال إغفالهم السبيل التي يوضحها القرآن لحلّ الصراعات بطريق إزالة الانتهاكات الأساسية لحقوق الناس كلها، ففي الآية:

«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين»([6]) تشديد على الإصلاح، وعلى أن صنع السلام لا يكون من دون القضاء على أسباب الصراع، وعلى أيّ انتهاك للعدالة والإنصاف.

ونظرًا إلى الطابع الكوني لمفهومي العدالة والإنصاف، فإنه يمكن الاستدلال من هذه الآية على أن الحلّ القرآنيّ للصراعات ليس قاصرًا على المؤمنين فحسب، وإنما يمكن تطبيقه على الصراعات في السياق الأوسع للنظام العالمي الحديث.

ويطلق الكاتب على أزمة المقاربة الأصولية اسم (الأزمة الإبستمولوجية) التي يعانيها التقليد الذي كان قادرًا يومًا ما على تقديم حلول منطقية للمشكلات التي تواجه أتباعه.

ويثني الكاتب على محاولة (الترابي) في كتابه (تجديد أصول الفقه) الذي يدعو فيه إلى توسيع مفهوم الاستصحاب ([7]) في الممارسة الفقهية؛ لأن مهمة هذا المصدر التشريعي هي الربط بين ما هو مرغوب فيه في الحاضر، وما يستحقّ الاحتفاظ به في الماضي.

ومقاربة الترابي بحسب الكاتب تقوم على إدراك للطبيعة الكونية للقيم الأخلاقية بمثل العدالة والإنصاف.

ويتفق الكاتب مع النتيجة التي يخلص إليها الترابي، وهي أن المشكلة الرئيسة التي أعاقت التقدم في تحقيق أهداف الحركة الإسلامية في العقود القليلة الماضية هي غياب الترقية للمنهجية التشريعية الكلاسيكية.

 

الفصل الثالث: الأسس الأخلاقية لحرية الدين

يستهل الكاتب الفصل بالآية:

«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»([8]) التي يعدها إحدى الآيات التي تؤكد مفهوم التعددية الدينية القرآنيّ.

ويقول: إن أمثلة كثيرة في سيرة النبيّ، وصحابته تشير إلى تكريس هذا المفهوم الذي تتضمّنه الآية، ولكنه يشير أيضًا إلى إجراءات تمييزية اتُخذت بحق غير المسلمين، واستندت إلى أحكام فقهية.

ويدعو الكاتب إلى تحليل سياقيّ للأحكام الفقهية الإسلامية؛ لكي يمكن تحديد العلل الفاعلة التي حكمت منهج الفقهاء في صنع هذه الأحكام.

فعلى الرغم من أن الإسلام لم يتبنّ اعتقادًا بحرمان اليهود والمسيحيين من الخلاص إذا لم يعتنفوا الإسلام، فإن الطموح إلى الهيمنة العالمية في ظلّ التشريع الإسلامي قد أدى إلى إنتاج ثيولوجيا معادية للتعددية.

وما لم يُعترف بالمفهوم القرآني لحرية الضمير بعدّها جزءًا من الفطرة التي ميّز الله بها الإنسان، فمن غير المجدي الحديث عن نموذج إسلاميّ للتنظيم البشري الذي يتنافس فيه الناس في أعمال الخير، ويكون مبدأ أخلاقيًا للتعايش بين متنوعين.

والكاتب يقف في صف الرؤية القائلة بوجود معايير أخلاقية كونية، ويقول: إن المفهوم القرآنيّ للكرامة الإنسانية يدعم هذا الموقف كما هو واضح في الآية:

«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»([9]).

ويدعم هذا الموقف النموذج القرآنيّ للمعرفة الأخلاقية الذي يقوم على الاعتقاد بأن الله لا يترك البشر من دون توجيه مركوز في الفطرة التي فطرهم عليها كما تشير الآية:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (الروم: آية 30).

بطريق آلية القياس يدعو الكاتب إلى الربط بين الأمر الإلهي بالعدالة، والإدراك العقلانيّ أن العدالة خير؛ من أجل صوغ أحكام محددات، ثم البحث عن مبادئ يمكن تعميمها، ومن ثمّ تطبيقها على حالات جديدة.

ومن ضمن معزّزات موقف المعايير الأخلاقية الكونية مفهوم التعارف في القرآن الذي يقرّ بالسياقات الاجتماعية والتاريخية للمفهومات الأخلاقية، لكنه يصرّ على ضرورة استنباط نموذج كونيّ من تنوع الشروط الإنسانية.

يسلط الكاتب الضوء في هذا الفصل على مفهوم الخير العام في القرآن الذي يجد جذره في خلق الله الناس من نفس واحدة، ولولا هذا لما أدركوا ضرورة إقامة العدل بينهم.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»([10]).

«وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا»([11]).

وهذا الخير العام لا يمكن أن يتحقق إذا حاول أحد فرض اعتقاداته على غيره؛ لأن ذلك سيفضي إلى منع نشوء فضاء عام لخبرة بشرية دينية متنوعة.

ويشير الكاتب إلى النظام السياسيّ الذي أسسه النبيّ في المدينة، ولم يمنع تأسيسه الاعتقادُ بإله واحد؛ لأنه استطاع أن يربط بين الكونية المتجاوزة المتجسدة في ضمير الإنسان من حيث هو، والعلاقات الأفقية في المجتمع.

ويسهب الكاتب في سرد تاريخيّ يوضح الانحراف عن النموذج النبويّ في القيادة الدينية والسياسية الذي بدأ بالانتقال إلى مجتمعات زراعية مستقرة، وهو انتقال خلق مشكلة اندماج السياسيّ بالدينيّ.

وهو انحراف استمرّ خلال الخلافتين الأموية والعباسية، وقد مال بعدهما الفقهاء إلى شرعنة أيّ نظام سياسي يضمن قدرًا من الحماية للمؤسسات الإسلامية؛ ولأجل هذا فشلت الدولة في تحسين التماسك الداخليّ، ونتيجة فشلها كان غياب المفهوم السياسي للمواطن.

ويحدد الكاتب مشكلة في المقاربات الشائعة للنصوص المقدسة هي التباس الهدف من التعددية في الإسلام، فهل هو تحديد مكان للإسلام في مجتمع متماسك، أم تبنّي رؤية إسلامية كونية لمجتمع عابر للثقافات والإثنيات؟.

وقد حجبت الرؤية الثانية التي كرسها القرآن بوساطة مفهومه للكرامة الفردية، والحرية الشخصية، وكرّسها النبيّ بسلوكه القائم على المساواة؛ بتراكم طبقات التفسيرات التقليدية؛ وبسبب من تجاهل الأحكام القرآنية المتعلقة بالمجتمع المدنيّ.

هذا المجتمع المدنيّ لم يقم من دون مفهوم الفطرة الذي يحدد المسؤولية الفردية، والالتزامات الأخلاقية المشتركة، ومن دونه يصعب فهم التحول الاجتماعيّ والمؤسسيّ من مجتمع القبيلة إلى مجتمع عالميّ تتحدد فيه الهوية الفردية والاجتماعية بوساطة التزامات أخلاقية مشتركة.

إن مفهوم الفطرة لا يسمح بأي ادعاءات بالتفوق، ما عدا التفوق في السلوك الأخلاقي، فالمفهوم يربط المسؤولية الفردية بالتقوى، أو التنقية الروحية، والأخلاقية.

فالآيات: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاها وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا»([12]). تنصّ على أن النظام الأخلاقيّ القرآنيّ يقوم على السلوك الأخلاقي لكل فرد.

إن العقيدة القرآنية للفطرة تدمج قانون الطبيعة بالأمر الإلهيّ لبناء مجتمع عادل للبشر كبشر. والفطرة أساس كذلك لحرية الدين التي هي شرط مسبق للنظام الأخلاقيّ القرآني.

ففي الفطرة يكمن توجيه إلهيّ سابق للوحي، وتوجيه الوحي يأتي لاحقًا.

من خلال الفطرة يكون الإنسان قادرًا على إدراك الخير والشر.

ومن خلال التوجيه بالوحي يصبح قادرًا على الثبات في مواجهة الكفار، والمنافقين.

وضلال الإنسان مسؤوليته؛ فهو قد أعطي حرية الاختيار في قبول الإيمان أو رفضه، وعليه تحمّل مسؤولية اختياره، فهو الذي سمح لقلبه أن يصبح مريضًا، كما هو واضح في الآيات السابقات.

ويؤيد الكاتب الرؤية المعتزلية للإرادة البشرية التي يوضحها الزمخشري بعدّه الفطرة وضعًا طبيعيًا، بمعنى أن الله خلق في البشر قدرة على اعتناق التوحيد بحرية، وبمحض الإرادة، وهي الرؤية التي يقول الكاتب: إنها منسجمة مع الفكرة القرآنية عن توجيه سابق للوحي، وهو توجيه كونيّ، ومتاح للبشر كلهم.

ولهذا فإن السلطان القضائي لا سلطة له على العلاقة بين الله والإنسان، فالقرآن يحظر إساءة معاملة من لم يقبلوا التوجيه عبر الوحي، فضلًا عن قسرهم على تغيير معتقداتهم:

«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ»([13]).

ونبه الكاتب في هذا السياق إلى ضرورة التمييز بين محاربة الفساد في الأرض الذي تأمر به الآية:

«إنما جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»([14]).

وهو وصية إلهية من أجل حماية المجتمع؛ وبين قسر الناس على تغيير معتقداتهم الدينية.

فالردة عن الإسلام لا تحمل المعنى نفسه الذي تحمله كلمة (أبوستاسي) في الإنكليزية؛ لأن الأخيرة تعني التخلّي عن دين، واعتناق دين آخر، أما المصطلح «ارتداد» فقد أطلق تاريخيًا على المعارك التي قاتل فيها المسلمون من رفضوا دفع الزكاة للسلطة السياسية بعد موت النبيّ.

فالمرتدون هم من تمردوا على النظام القائم؛ ولذلك فإن التعامل مع ظاهرة الردة يعتمد على أثرها السلبي في النظام العام الإسلاميّ، ويكون تحديد خطرها من اختصاص السلطة القضائية الإسلامية، ويعتمد مدى العقوبة على تقدير خطر الفعل من جانب هذه السلطة.

فالسلطة المدنية الإسلامية لها حق تقدير خطر إعلان الانشقاق الدينيّ عن المجتمع القائم، ووضع تدبيرات مناسبة للتعامل معه.

أما الردة بالمعنى الذي تحمله الكلمة الإنكليزية، فهي ليست جريمة جنائية، فالقرآن يتحدث عن عقوبة المرتد في الآخرة لا في الدنيا:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وأولئك أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»([15]).

الفصل الرابع: المغفرة في العلاقات بين البشر

وفي هذا الفصل يشرح الكاتب كيفية تنظيم القرآن للانتقام الذي وضع له قيودًا تكبح الميل البشري إلى العقاب المفرط، واقترح بدائل من الانتقام، ودورة العنف المحتملة بسببه من مثل العفو والدية.

ويناقش مصادر رئيسة للصراعات بين البشر منها: الحسد، والكبْر، فالكبر يقود إلى سلب الآخرين حقوقهم، وتوليد صراعات نتيجة ذلك، والسبيل الوحيدة لتفادي ذلك هي الاعتراف الفرديّ، والجماعيّ بالآخرين، وحقوقهم، وتطلعاتهم. أما الحسد فهو يلحق الأذى بالمحسود، والحاسد، وعلاجه هو التوبة الصادقة.

وفي فقرة بالغة الأهمية في هذا الفصل، يعرض الكاتب رسالة علي بن أبي طالب إلى مالك بن الأشتر حاكم مصر التي لا يصنف فيها علي بن أبي طالب الناس إلى فئة داخل مجتمع الإيمان، وأخرى خارجه، وإنما إلى أخ في الدين، أو مساو في الخلق، وهو ما يستدل منه الكاتب على وجود أساس لمجتمع مدنيّ إسلاميّ قائم على مفهوم المواطنة المتساوية.

ويعرض الكاتب رؤيته للجهاد في القرآن، وهو _بحسب الكاتب_ جزء من النضال الإنسانيّ؛ لتأسيس نظام أخلاقيّ في الأرض.

وله معنى آخر غير قتال عدو واضح هو النضال ضد الغرائز الإنسانية؛ من أجل المحافظة على درجة عالية من النقاء الروحي.

ومن معاني الجهاد في القرآن أيضًا الجهاد ضد الكفار الذين يهددون بيوت المؤمنين وعائلاتهم:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»([16]).

ولكن الكاتب يفسر سماح القرآن باستخدام القوة في أوضاع محددة بأنه مسايرة للثقافة السائدة في المجتمع القبلي قبل الإسلام، فقد كان الإسلام يستجيب بهذا السماح لأوضاع سائدة في الجزيرة العربية في القرن السابع.

أما تشريع الجهاد الذي نصّ عليه القرآن في الآية:

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين»([17]) ، فقد كان استجابة لتهديد تمثله قبائل مكة القوية، وهو تهديد لا بدّ من اتخاذ تدبيرات قوية وحاسمة لردعه؛ لما يمكن أن يسببه من ضرر عام بالنظام الإسلامي.

فالكفار ليسوا هدفًا لاستخدام القوة لأنهم كفار، وإنما لأنهم يضطهدون المسلمين، ويهددون بإطاحة النظام الجديد، فالكفر المستبطن تهديدًا يصبح مشكلة ذات بعد أخلاقيّ، لا دينيّ فحسب.

المهم أن الجهاد في الإسلام _في نظر الكاتب_ موقف دفاعيّ، وقد تحول على يد الفقهاء إلى استراتيجية هجومية؛ استجابة لرغبة الحكام في التوسع الإقليميّ، وهو ما أهمل النصوص القرآنية التي تؤكد الجهاد الدفاعيّ، ومسوغاته الأخلاقية.

إن الجهاد المنصوص عليه شرعًا هو أداة لحماية النظام السياسيّ الإسلاميّ، وتحقيق تكامله، وأي جهاد يقود إلى دمار للحياة البشرية، ويلحق الضرر بالسلام، والعدل ليس جهادًا قرآنيًا.

في مناقشة الكاتب مفهوم التمرد في الإسلام يعرض آراء الفقهاء المؤيدة لاستخدام المتمردين للقوة بناء على عدالة قضيتهم، وآراء الفقهاء الذين يؤكدون حق الدولة في استخدام القوة ضد المتمردين إذا تعرضت لتهديد يضر بالمصلحة العامة.

في رأي الكاتب إن الفقهاء أهملوا مبدأ العدالة التصالحية الذي يقوم على معالجة أسباب التمرد، وهو ما تنصّ عليه الآية:

«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»([18]).

والعدالة التصالحية موجودة في القانون الجنائيّ في الإسلام الذي يضع أربع غايات للعقاب، هي: الوقاية، والردع، والقصاص، وإعادة التأهيل بالتوبة.

والعقاب في القانون الجنائي الإسلامي لا ينفك عن ارتباطه بالدعوة إلى الرحمة والصفح.

وتركز العدالة التصالحية في القانون الجنائي على إزالة أسباب السلوك الاجتماعيّ الوضيع عن طريق الإصلاح.

ويجيب الكاتب عن سؤال هل يوجد مفهوم قرآني لمجتمع جيد التنظيم بالقول: إن الدين هو الملهم للمسؤولية الأخلاقية، ولمعرفة الإنسان قيمة العدالة، وضرورة الكفاح في سبيل تحقيقها.

فقد وضعت الشريعة نظامًا شاملًا قائمًا على العدالة التصالحية التي يتحمّل فيها الجاني مسؤوليته الأخلاقية تجاه الضحية.

وقائمًا على العدالة العقابية التي توقع العقاب على الجاني المستحقّ من دون إغفال أهمية الصفح في استعادة العلاقات الاجتماعية.

وحذر التشريع تحذيرًا شديد اللهجة من قتل النفس من دون مسوغ.

«لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»([19]).

ثم إن الجهاد مسوغ في التشريع لدفع الظلم.

 

خاتمة الكتاب

يعرض فيها الكاتب مخاوف بعض المفكرين الإسلاميين من القيم الغربية، وخشيتهم من أن تفضي التعددية الدينية إلى تنسيب قيم الإسلام، وجعلها رأيًا لا أفضلية له على غيره من الآراء.

ويقول الكاتب: إن هذه المخاوف جديرة بالنظر؛ لأن استيراد المفهومات قد يرافقه استيراد لحمولات أخلاقية لا تناسب المجتمع المستورِد، ولكن هذا قابل للتجنب.

ويدعو الكاتب في الختام إلى فتح باب الاجتهاد، والقضاء على الفكرة السائدة التي تعدّ اجتهادات الفقهاء السابقين مقدسة، لا تقبل التغيير.

فالاجتهاد هو الذي يكرس الطبيعة الدينامية للتشريع.

ويؤكد أن مبدأ التنافس في الخير القرآنيّ يمكن أن يكون بديلًا من الرؤية الإقصائية، وأن يقدم للبشرية رؤية لمجتمع عالميّ، مترابط، يسعى المواطنون في أجزائه كلها لتحقيق الخير العام.

ويقدم مفهوم الفطرة في القرآن إمكان صوغ هوية إنسانية كونية تقصي التمركز حول الذات، وتحقق المساواة الإنسانية بين البشر كلهم.

ويجيب الكاتب في الخاتمة أيضًا عن سؤال:

أليس القول: إن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس مناقض لما قيل عن تعاليم القرآن المتعلقة بالمساواة، والكرامة الإنسانية كله؟

يجيب قائلًا: إن هذه الأفضلية مشروطة بتحمل مسؤولية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

فالمهمة الأساس للإنسان _وفق القرآن_ هي الخلافة، ومسؤولية خير أمة هي إقامة مجتمع عادل يتعايش فيه الناس بسلام وانسجام.

ويشير الكاتب في النهاية إلى إهمال مفهوم التعددية في القرآن الذي بدأ منذ شروع المسلمين في توسيع سلطتهم السياسية، وما رافق ذلك من أحكام فقهية حوّرت مفهوم الجهاد، واخترعت مفهوم دار الحرب التي يجب أن تخضع للسلطة الإسلامية، وهو ما كان على حساب المهمة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن، وهي جعل المجتمع الإسلامي أفضل وسيلة لتأسيس الخير ومنع الشر.

نقد

يجد قارئ هذا الكتاب نمطًا جديدًا في فهم النصّ المقدس في الإسلام، وإن لم يستطع القارئ الإقرار بأبعاد الرؤية التي يقدمها الكاتب كلها، غير أننا نظن أنه لا يمكنه إخفاء إعجابه بجدة هذه الرؤية، وجرأة صاحبها في معارضة الأفكار السائدة، والتفسيرات التقليدية التي تحولت بفعل طول مكوثها في العقل الجمعيّ إلى حقائق مقدسة لا تقبل التبديل، فضلًا عن قبولها بالرحيل.

رؤية ساخدينا رؤية تثير الإعجاب بجرأتها، وينبغي أن تكون موضوع مناقشة مستفيضة، ولكنها تعاني في بعض جزئياتها العلة التي تعانيها الرؤية التقليدية التي تنتقدها.

فتبنّي ساخدينا _مثلًا_ مفهوم الإرادة المعتزلي تبنّ للمفهوم السائد عن فكر المعتزلة في هذه القضية، وهو يغفل الافتراضات الميتافيزيقية المسبقة لبنية الفكر المعتزلي، وما يمكن أن ينتج منها من نتائج قد تلحق تشويهًا بمفهوم التوحيد القرآنيّ.

ثم إننا نظنّ أنها تحتاج إلى توضيح أكثر، وأدلة أكثر؛ لأنها تقدم نفسها بديلًا من منظومة متماسكة، وراسخة الجذور، ليس من السهل معارضتها باستنباط معانٍ جديدات، وبدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وتفعيل بعض الأدوات الأصولية بمثل الاستصحاب، والمصلحة فحسب، فعلى الرغم من أن ما سبق بالغ الأهمية، ولكنه يحتاج إلى شرح مفهوماتيّ أوسع، وإلى تطبيقات أكثر قدرة على إثبات هذه الرؤية.

([1]) سورة البقرة، آية 213

([2]) سورة البقرة، آية 62.

([3])  أحد أكبر فقهاء الشيعة في القرن العشرين، ألف كتاب تفسير مشهور يدعى تفسير الميزان.

([4]) سورة النساء، آية 163.

([5]) سورة آال عمرا، آية 85.

([6]) سورة الحجرات، آية 9.

([7])  أحد مصادر التشريع الفرعية، وهو بقاء الأمر ما لم يوجد ما يغيره. أي: الحكم الذي ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤه في الحاضر والمستقبل.

([8]) سورة المائدة، آية 48.

([9]) سورة النساء، آية 70.

([10]) سورة النساء، آية 1.

([11]) سورة النساء، آية 2.

([12]) سورة الشمس، الآيات 7-12

([13]) سورة ق، آية 45.

([14]) سورة المائدة، آية 33.

([15]) سورة البقرة، آية 217.

([16]) سورة التوبة، آية 123.

([17]) سورة البقرة، آية 193.

([18]) الحجرات، آية 9.

([19]) سورة الإسراء، آسة 33.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة