بشير عبد الفتاح

بعدما أخفق في إقناع العالم بعدم تدخل بلاده عسكرياً في الأزمة السورية، جنح نظام «الولي الفقيه»، إلى تبرير نشاطاته العسكرية المكثفة داخل سورية منذ العام 2012، من خلال ذرائع عدة على شاكلة حماية العتبات المقدسة والمراقد الشيعية السورية، علاوة على الحيلولة دون إسقاط نظام الأسد. وبمرور الوقت، بدأت تنجلي حقيقة المآرب الاستراتيجية للتدخل العسكري الإيراني في سورية، من قبيل: الحيلولة دون انتقال عدوى ثورات وانتفاضات ما عرف إعلامياً بـ «الربيع العربي» إلى الداخل الإيراني الملتهب عبر سورية المجاورة، وإيجاد موطئ قدم إيراني دائم داخل سورية عبر ترسيخ دعائم تموضع عسكري طويل الأمد في ربوعها، إضافة إلى إيجاد طريق استراتيجي يمتد من إيران إلى البحر المتوسط مروراً بالعراق وسورية، فضلاً عن تعزيز نفوذ إيران في دول العالم العربي وتحسين موقفها التفاوضي مع الغرب بشأن حزمة من القضايا الخلافية، تتصدرها برامج إيران النووية والصاروخية.

غير أن تطور مجريات الأزمة السورية وتحول الوضع الميداني على مسرح العمليات العسكرية هناك ينبئ بفشل إيران، في بلوغ أي من تلك الغايات أو الأهداف الاستراتيجية، رغم تكبدها عشرات بلايين الدولارات، فضلاً عن خسائر بشرية مفجعة تتجاوز الثلاثة آلاف قتيل إيراني، من بينهم عشرات القادة العسكريين البارزين من ذوي الرتب العليا، إضافة إلى آلاف آخرين ما بين جريح أو مصاب أو أسير أو معوق أو مفقود. الأمر الذي لا يبقى لإيران من غنائم حروبها الوحشية وغير الإنسانية والمكلفة في سورية سوى قبض الريح.

ففيما يتصل بالحيلولة دون انتقال عدوى الثورات والانتفاضات الشعبية العربية إلى الداخل الإيراني الهش والمضطرب، يمكن القول إن نظام «الولي الفقيه»، الذي يعاني انكشافاً أمنياً وسياسياً وفكرياً منذ تأجج ما عرف بأحداث «الحركة الخضراء» احتجاجاً على انتزاع الرئيس السابق أحمدي نجاد ولاية ثانية عبر انتخابات مشكوك في نزاهتها عام 2009، قد أخفق في إدراك ذلك المقصد، فمنذ تلك الأحداث الدامية، تملكت «الولي الفقيه» حالة من الهلع جراء تواتر الانتفاضات الشعبية وتعاقب الموجات الثورية التي عمت البلاد للمطالبة بالإصلاح وتصحيح مسار ثورة العام 1979 من خلال تقويض نظام الملالي وإقامة دولة مدنية ديموقراطية متصالحة مع جوارها الإقليمي والمجتمع الدولي قاطبة.

فقبيل أفول العام الماضي، بدأ ذلك الحراك الجماهيري ينحو منحى أكثر عمقاً وأشد تعقيداً من زوايا ثلاث: الأولى؛ الانتشار الجغرافي والمناطقي واسع النطاق، بعدما اجتاح عشرات المدن والمحافظات الإيرانية. والثانية، التنوع الجيلي والمجتمعي، على نحو ما تجلى في انخراط المرأة والأقليات الإثنية والجماعات الصوفية في فعالياته، علاوة على احتدام الصراع بين أجنحة النظام ومؤسساته ومرجعياته على نحو غير مسبوق. أما الثالثة، فتكمن في ارتفاع سقف مطالبه حتى طاول، وللمرة الأولى منذ العام 1979، التابوهات التي ظلت لعقود تشكل خطوطاً حمراء لأي غضب أو حراك شعبي، عبر المطالبة بإسقاط المرشد ونظام «الولي الفقيه»، توطئة لإقامة نظام حكم مدني ديموقراطي. ولا يخفى أن الاستياء الشعبي الواسع من تعاظم الكلفة الاقتصادية والبشرية للتدخل العسكري الإيراني في سورية، شكّل أحد أبرز بواعث الحراك الجماهيري الغاضب الذي يزلزل البلاد منذ شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي.

بدوره، يبقى تأمين التموضع العسكري الإيراني طويل الأمد في سورية حلماً بعيد المنال، حتى الآن على الأقل. فعلى رغم ما تناقلته بعض التقارير الاستخباراتية حول تدشين طهران عدداً من القواعد العسكرية الإيرانية في مواضع سورية شتى، تفصح المعطيات الواقعية عن ضخامة الصعوبات التي تكتنف مساعي طهران للاحتفاظ بتموضع عسكري طويل أو حتى متوسط المدى في سورية، خصوصاً مع تعاظم الممانعة الدولية والإقليمية لهذا الأمر، إلى حد دفع رئيس النظام السوري بشار الأسد نفسه إلى المماطلة والمراوغة في الرد على المطالبات الإيرانية الملحة من أجل إقامة قواعد عسكرية في سورية.

فإلى جانب الرفض العربي والأميركي والأوروبي، والتحفظ الروسي التركي، تقف إسرائيل بالمرصاد ضد أي تموضع عسكري إيراني محتمل داخل سورية، سواء في شكل مباشر عبر قوات وقواعد عسكرية، أو من خلال انتشار ميليشيات موالية لطهران، معتبرة ذلك الأمر خطاً أحمر يستوجب تجاوزه رداً إسرائيلياً ضد كل من طهران ودمشق على السواء. ولمنع حدوث هذا التجاوز، دأب سلاح الجو الإسرائيلي طيلة العقود الثلاثة المنقضية على شن غارات ضد مواقع ومنشآت وأسلحة وتجمعات مقاتلة تابعة لإيران هناك.

ويمكن تلمس انكماش نفوذ إيران في دول عربية طالما ادعت خضوعها للسيطرة الإيرانية، فها هم الحوثيون في اليمن يتلقون الهزيمة تلو الأخرى وتغشاهم الضربات الموجعة على أيدى قوات التحالف العربي والجيش الوطني اليمني والمقاومة الشعبية وسط دعم واضح من مجلس الأمن الدولي، بينما يسعى العراق من خلال الدعم العربي واستحقاقه البرلماني الحالي إلى التحرر من ربقة السيطرة الإيرانية والعودة إلى الحاضنة العربية، فيما تكاد تكتمل عملية استئصال شأفة الطابور الخامس الإيراني في البحرين، كما تتصاعد احتمالات خروج إيران من سورية خالية الوفاض.

أما على صعيد تحسين شروط علاقة طهران مع الغرب، فيبدو أن نظام «الولي الفقيه» عجز عن استثمار تدخله العسكري الكارثي والمرهق في سورية كورقة تفاوضية يمكن أن تساعد على إذابة الجليد مع الغرب أو تحسين موقف إيران التفاوضي معه، خصوصاً لجهة البرنامجين النووي والصاروخي وما يستتبعانه من عقوبات قاسية وعزلة مزمنة على طهران. فأخيراً، وبالتزامن مع انعقاد الاجتماع الحادي عشر للجنة المشتركة للاتفاق النووي في فيينا بمشاركة إيران والولايات المتحدة لمناقشة القضايا الخلافية الخاصة بالاتفاق، والذي شكل فرصة لإجراء مباحثات مباشرة، عمدت الدول الأوروبية إلى تحذير طهران من مغبة «الرهان الخاسر» وكأنه تباين في المواقف الأميركية والأوروبية في التعاطي معها.

وفي محاولة لإقناع واشنطن بعدم الخروج من الاتفاق النووي، اقترحت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فرض عقوبات أوروبية على إيران بجريرة مواصلتها تطوير برنامجها الصاروخي علاوة على تدخلها العسكري السلبي في الأزمة السورية. الأمر الذي دفع نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إلى التهديد باللجوء إلى خيار إلغاء الاتفاق النووي. ما يعني أن إيران لن تخرج من سورية في القريب العاجل بخفي حنين فحسب، وإنما ستسدد كذلك فاتورة استراتيجية لا تقل في فداحتها عن تلك التي تكبدتها جراء تدخلها العسكري خلال السنين الخوالي.

* كاتب مصري