مناف الحمد

أعرف أن عش الدبابير سيثور، وأننا سنُتّهم من جانب حرّاس الكهنوت الماركسي -الذين لا يقلّون بأسًا عن حرّاس الكهنوت الديني- بقصور الفهم للنظرية التي لا يأتيها الباطل؛ فأنّى للماركسيين أن يقبلوا بالاستبدال بماركس أبا الحسن الأشعري الذي يعدّونه أحد ممثلي تراث أكل عليه الدهر وشرب، وقد استحال في نظر كثيرين منهم إلى علّة من علل الفوَات التاريخي!

ولكنّ ما نراه من فشل للماركسية العربية في تثبيت أقدامها، على الرغم من كل ادّعاءات القبض على قوانين المادة والتاريخ، وما نشهده من ارتداد إلى الوجه المظلم من التراث في مجتمعاتنا، بلْهَ الوجه المعتدل، يتيح لنا أن نقدّم رؤية، نظنها الأمسّ رحمًا بالواقع، الذي لا ندعي -كما يدعي المؤدلجون إمكانية امتلاكه.

كان الصراع بين الفلسفتين: الواقعية والاسمية، في الغرب سببًا في تكريس الفردية التي تعدّ جذر الليبرالية، وعلى الرغم من أن الصراع قد انتهى بانتصار الفلسفة الاسمية التي تنكر وجود الكليات، وتعدّها لا وجود واقعيًا لها؛ ما يجعل علم الفرد، وعمله نسبيين، لا يسعيان إلى التطابق مع موجود مطلق خارجي، فإن الواقعية بعدّها نفس الانسان لا مادية، وقادرة على إدراك الكليات الموجودة وجودًا واقعيًا، قد استعانت؛ من أجل إدراك الكليات، بالمجاز، وبفتح آفاق الخيال الشعري، والشطح الصوفي اللذين لا يمكن أن يكونا إلا تجربتين فرديتين، يمارسهما الشاعر والصوفي.

الكليّ الواقعيّ النظريّ هو القاسم المشترك بين حدي الأفلاطونية المحدثة (أفلاطون وأرسطو)، وإن كانا يختلفان في أن هذا الكليّ مثل مفارقة لدىأفلاطون، وصور محايثة لدى أرسطو، وكلاهما يعدّ الكلي قائمًا بذاته، ينفعل به العلم الإلهي والإنساني.

حدّا الافلاطونية المحدثة، هذان، ظلا القطبين اللذين يحددان بنية الأفلاطونية المحدثة في كل أشكالها الهلنستية، والعربية، واللاتينية، والألمانية، ولكن هذه الأفلاطونية المحدثة قد تجلت في أشكال مختلفة، مع ثبات هذا التقاطب بين الحدين: الأفلاطوني والأرسطي.

أما الشكل الذي أخذه الكليّ الواقعيّ في الأفلاطونية المُحدثة العربية، فقد كان له تجلّيان أساسيان هما:

أشعري يعد هذا الكلي تابعًا لعلم الله، ومتبوعًا لعلم الإنسان.

ويعدّه متبوعًا لعلم الإله، تابعًا لعلم الانسان لدى المعتزلة الذين لم يقيض لمدرستهم الاستمرار.

وقد حدثت هذه النقلة في الكلام الإسلامي بفضل الفاعلية المنسوبة إلى الذات الإلهية التي أضعفت الواقعية المطلقة، ولكنها لم تُزلها؛ لأن تبعية علم الإنسان للكلي تبقي قدرًا من واقعيتها بالنسبة إلى الإنسان، وتبعية علم الإله لفاعلية الإنسان النظرية تُبقي قدرًا من واقعيتها بالنسبة إلى الإله.

إن الكليّ النظريّ الواقعيّ (من حيث ماهيته) يوحّد بين العقل والوجود، ولكنه يصبح جدليًا مثاليًا، أو جدليًا ماديًا عندما يدخل التفاعل بينهما، فإذا تغلب العامل العقلي كان مثاليًا جدليًا هيجليًا في الأفلاطونية المحدثة الألمانية، وإذا تغلبت المادة صار ماديًا جدليًا ماركسيًا في هذه الأفلاطونية.

ومن السهل التدليل على انتساب كل من هيجل وماركس إلى الأفلاطونية المحدثة؛ فتغليب العامل العقلي أو الروحي لدى هيجل هو عينه تقديم المثل المفارقة الافلاطونية، وتغليب المادة لدى ماركس هو عينه تقديم الصور المحايثة الارسطي.

إن المشكلة في جوهرة الكلي النظري هو القفز من العموم إلى الكلية الذي يوصد الباب أمام تكثير أفراد العموم؛ لأنه يصبح طبيعة جوهرية للأعيان التي تمثل أفراد العموم، تُخرج ما عداها مما يمكن أن يستجدّ، وهو يجعل الكلي موجودًا قائمًا بذاته؛ ما يُتبِع العلم لماهيّة موجودة، ويحدّ من الاجتهاد، والمبادرة الإنسانية، وفاعليتها الخلّاقة.

حصل الانتقال إلى الكلي الاسمي في الفلسفة الإسلامية على يد ابن تيمية، بتوسط الاعتزال والأشعرية، اللذين أضعفا واقعية الكلي؛ مما سهل نقض واقعية الكلي، وعدّ الحدود غير مطابقة للماهيّات، وإنما مجرد أسماء من اختراع عقل الإنسان الذي يختار صفات لازمة للأشياء، وليست معبّرة عن ذاتيتها، ويحاول أن يعرّف بها الأشياء تعريفات لا تدعي مطابقة الماهية، ولا جوهرة العموم الذي يظل قابلًا لشمول أفراد جدد، وهو ما يُبقي علم الإنسان في حالة تطور دائم.

إن المدرسة العقدية الأشعرية المهيمنة في العالم الإسلامي (بما انطوت، وتنطوي عليه من إمكانية الانتقال إلى الاسمية التي تحققت على يد ابن تيميّة) هي التي يجب الاشتغال على تطويرها؛ من أجل تحقيق هذه النقلة التي تتطلبها ضرورة فتح الأبواب على مصراعيها أمام مبادرة الإنسان المعرفية التي تتجسد بصراع بين واضعي الرموز، من دون الطموح إلى التوصل إلى المطابقة مع ماهيات يستحيل التطابق معها، والاكتفاء بإبداع التشاكل بين الرموز والمرموزات.

وهي تمثل حقل الاشتغال المتاح؛ لأنها تمثل المعتقد السائد الذي لا يمكن الضرب صفحًا عنه؛ بحكم هيمنته من جهة، وبحكم الاستعداد الكامن فيها للانتقال إلى الإسمية (كما حدث ذلك سابقًا) من جهة أخرى.

كما أن الأشعرية تقترن بالعرفان الذي يمثّل الجانب الروحي الذي يصعب من دونه جَدْل الصلة الحقيقية بين الفرد وخالقه، وهي صلة ننشد مستحيلًا إذا تخيلنا إمكان قطعها في مجتمعات، يمثل التوحيد محور حياة أغلبية أفرادها.

وقد مثّلت الأشعريّة، بتقدمها على الواقعية المطلقة، وبرفضها للمنطقة الوسط بين الموجود والمعدوم، شكلًا فريدًا للتوحيد المحض الأكثر انسجامًا مع الوجدان الجمعي.

فبينما عدّ الاعتزال المعدوم شيئًا؛ ما يخصم من القادرية والعالِمية الإلهية، بقدر ما يكسبه المعدوم من الشيئية، أضاف الأشاعرة إلى القادرية والعالِمية بسلب شيئية المعدوم، وعدّ الإله خالقًا للماهية والوجود كليهما.

وهو ما يمثّل أبرز أشكال التوحيد المحض.

هذا؛ علاوة على أن المدرسة الأشعرية تتميز بفتحها إمكانية تأويل المعطى الشريعي تأويلًا لا يغالي في تضمين هذا المعطى باطنًا فلسفيًا (كما تفعل الفرق الباطنية)، في الوقت الذي لا تقبل فيه بحرفية ظاهرية تغلق الباب أمام التأويل؛ ما يفضي إلى تجميد للمعطى الشريعي، بجعله عاجزًا عن مواكبة المتغيرات.

إن للمنظومات لوازمها التي يصعب أخذها مفصولة عنها، وقد كان الوهم بأن الماركسية (بما تنطوي عليه من استناد لقوانين علمية سائدة في عصرها، ومن قيم إنسانية نبيلة) يمكن أن تؤخذ مفصولة عن لازمها الميتافيزيقي، وهو الكليّ الواقعيّ، أو بإمكانية جعل هذا الكليّ الواقعي طاردًا لكليّ تابع لعلم الإله، متبوعًا لعلم الإنسان (كما هو حاله في المنظومة الإسلامية السائدة)، سببًا من أسباب عدم قدرة متبنّيها على تبيئتها في البيئة العربية الإسلامية، وكان التصفيق والتهليل لمحاولات تعريبها؛ تعبيرًا عن عدم إدراك لعدم كفاية توسيط البُعد القومي في جعلها قادرة على التقولب وفق القوالب السائدة.

هذا؛ فضلًا عن كونها (كأي فلسفة واقعية) تعاني جوانب القصور التي أشرنا إليها من تجوهر للموضوع، وادعاء مطابقة الحد للماهيّة، وجعل العلم النظري مطابقًا للوجود.

إن فتح السكور أمام الممكنات يكون بالبحث عن أكثرها قابليةً للتحقق، وليس بفرض ممكنات على بيئة لا تقبلها، ولا بتكلّف توقيع ممكنات بعيدة التحقق.

ولهذا؛ فعلى الرغم من أن الكليّ الاسميّ لم يكن غائبًا عن الفكر الإسلامي في المدرسة التيمية، فإن عدم قدرة هذه المدرسة على الهيمنة على ساحة الثقافة العالِمة والشعبية، إضافة إلى اقترانها بمنهج فقهي يعدّ أساسًا للتشدد الإسلامي، وموقفها المتشدد من التأويل، يجعل إمكانية محاورة المدرسة الأشعرية، والاشتغال على استيلاد الكليّ الاسمي من رحمها أكثر إجرائية.

أما الواقعية الماركسية، فإن مكوثها طويلًا بين ظهرانينا، من دون أن تتمكن من مزاحمة الموروث (على الأقل)، إذا لم نتهم كليّها الواقعي بما نتهم به كل كليّ واقعيّ، فإن منهجها الجدلي (بوصفه رافدًا من روافد العمل النظري)، هو العدّة الوحيدة التي يمكن أن نستميح ماركس عذرًا بابقائها لدينا قبل أن نطلب منه الرحيل.