لم يكن يأبه للصوت القادم من مذياع المقهى، ولا لمضمون الخطاب الذي يبثه، فقد كان مشغولاً بما يتقصد الجالسون بجواره إيصاله إلى مسامعه من كلام يمسّ شرف أخته، ولما طفح به الكيل دخل معهم في عراك دفاعاً عن شرفه.

كان يعلم أن ما يقولونه صحيح وأنه وأباه وأمه لا يستطيعون النظر في عيني شقيقته لكيلا يروا وضاعتهم فيهما، فلم يكن ثمة سبيل لاطّراح كابوس الجوع إلا بقبول المال الذي تجنيه الفتاة من بيع جسدها.

كان سليل عائلة تعيش في العشوائيات لم يتمكن بسبب فقره المدقع من الحصول على مؤهل يقيم بواسطته أود إخوته الصغار ولم تملك العائلة سوى إمكانات الأنثى الجميلة تكسب بها رزقها.

المهم أن مذياع المقهى كان يبثّ خطاباً ل “سيد المقاومة” حسن نصر الله يتباهى فيه بحفاظه على الكرامة القومية وصموده أمام العدو الصهيوني.

خطاب نصر الله مشحون بمفهوم للشرف لا يكترث له من ضرب صفحاً عن بيع أخته لشرفها، ونصر الله لم يكن معنيّاً بهذه المأساة.

قبل أن يتاجر وسطاء الدعارة في لبنان بأجساد السوريات مستغلّين حاجتهن لحفنة من المال، ووقوعهنّ في أسفل سلم ممارسات هذا النوع من الانحطاط، كانت أنظمة الاستبداد التي تنتج خطاباً مطابقاً لخطاب “سيد المقاومة” قد اغتصبت أرواحنا وحرقت القاعدة الأخلاقية في مجتمعاتنا.

فهي لم تكتف بتشويه تقاليدنا من جهة ودفعنا بعيداً جداً عن أول عتبات الحداثة من جهة أخرى، وإنما تعمّدت سلب شرائح كبيرة من مجتمعاتنا أبسط مقومات الحياة، وأصمّت آذاننا بخطابها المفارق للواقع عن كرامة مهيضة لا تستعاد إلا بتغليب ثقافة الموت على ثقافة الحياة، وشرف مثلوم لا يبرأ جرحه إلا بالتضحية بتفاصيل حياتنا على قربان الجبهة المفتوحة مع عدو هو ركن بقاء هذه الأنظمة وعماد استمرارها

إذا كان الاغتصاب في سنّ مبكرة دافعاً من دوافع البغيّ للانحراف، فإن نظام الإجرام معادل موضوعي لكائن عظيم القدرة متجبّر مارس فعل اغتصاب للدولة والمجتمع، والبغايا لسن إلا معادلاً موضوعياً لمجتمع امتهنت كرامته من قبل هذا المجرم.

لطالما مثّلت إسرائيل في الأدبيات العربية أنثى تمتلك عضواً ذكرياً سمّياً اغتصبت به أرضاً عربية، ولكنّ أنظمة الاستبداد بشعاراتها الجوفاء حوّلت فعل الاغتصاب هذا إلى ممارسة داعرة تمثّل فيه تلك الأنثى طالب المتعة، وتمثّل فيه الأنظمة القوّاد الذي يبيع الشرف والكرامة والأرض لها وهو يتلطّى خلف دالات بلا مدلول في تطبيق صريح للمأثور القائل إن أكثر متحدّث عن الشرف هنّ العاهرات وقد وجدت في ضعفنا فرصة لعدم الاكتفاء بالوساطة وإنما لأخذ حصتها من انتهاك شرفنا.

رغم كل ما تتحمله أنظمة الإجرام من مسؤولية فإن حديث إحدى المومسات مع ذاتها وهي تضع احتمالات ثلاثة لتبرير انحرافها وهي :

  • بعت نفسي لأعالج والدي المريض وأنفق على دراسة أشقائي
  • بعت نفسي لكي أقتني لأهلي بيتاً بعد أن تصدّع سقف بيتنا المتهالك.
  • بعت نفسي لأنني أعاني رضّة نفسية سببها عنف جسدي تعرّضت له إبان طفولتي.

لم تهدئ من روعها فتابعت هذا المونولوج -الذي لم يفلح باحتمالاته تلك في تخليصها من الدرن الذي يثقل روحها وجسدها -بمواجهة صريحة وشفافة مع الذات بصياغة احتمال رابع:

  • بعت نفسي لأنني رخيصة وكان هذ هو الاحتمال المطابق لواقع الحال.

لأنظمة الإجرام مساهمة في انحراف الفتيات، ولتجار الأجساد دور كذلك، ولكنّ مسؤولية كبرى تقع أيضا على كواهلنا لأننا لم نفلح في تجذير قواعد خلقية متينة تكرّس الشعار القائل: “تجوع الحرة ولا تأكل بثديها”.

حالة السوريات المتعيّنة هذه نموذج مصغّر لهذه الصورة وال استخذاء الذي وسم ردة فعلنا شبيه بحال الشاب الذي لا يملك سوى الهروب وغضّ نظره كلما طالع وجه شقيقته لأنه لا يستطيع غسل شرفه ولا منعها من ممارسة الرذيلة.

لهثنا وراء حداثة لم نملك أدوات اللحاق بها؛ لأننا مثقلون بتقاليد لم نستطع لا الانسلاخ منها، ولا صياغتها بما يناسب غايات الحداثة، وتركنا شرفنا يمتهن على يد المغتصب الذي يتمظهر مرة بصورة كيان محتلّ وأخرى بصورة فرد منحلّ، وعلى يد القوّاد الذي يتكشّف مرة بوجه نظام مجرم وأخرى بصورة سمسار جسد.

رئيس التحرير