نهاية نموذجية لقيها عبد الحليم خدام، بوفاته في باريس بعد أن صار منسياً. الرجل الذي كانت له صولات وجولات في السياسة الخارجية للأسد الأب، خاصة في الشأن اللبناني، رحل بعد رحيل زمنه كاملاً. هناك أجيال تنتمي إلى ما بعده ولا تعرف عنه شيئاً، والأجيال التي واكبت نشاطه السياسي لا تحتفظ له بذكرى إيجابية. لم يكن الأمر ليختلف لو أنه مات في سوريا، في كنف السلطة التي خدمها، إذ لم يُسجّل لها طيلة تاريخها الاكتراث بفقدان أحد من مسؤوليها، باستثناء وفاة حافظ الأسد وابنه باسل من قبل. هي سلطة تقول للجميع ألا كبير لديها سوى من هم في حلقتها العائلية الضيقة، والمسؤولون “الكبار” خارجها تزدحم ديارهم بالمعزّين عندما يموت لهم مقرّب وتقفر عندما يموتون هم، وقد اعتاد السوريون على قياس حالة هؤلاء بالمثل المعروف: مات كلب الأمير فاجتمعت الإمارة، ومات الأمير فلم يسر خلف نعشه أحد.
يسهل القول أن قيمة خدام كانت مستمدة فقط من وجوده في السلطة، وأن قيمته ضمنها لا يُعتد بها بدليل عدم تأثير انشقاقه عليها ولو قليلاً. الانشقاق نفسه أتى متأخراً، وأشبه باستقالةٍ لمن أُحيل إلى التقاعد قبل تقديمها. أيضاً من السهل ملاحظة عدم اكتراث القوى الدولية بانشقاقه آنذاك، حيث لم يكن له قيمة خارج الاستهلاك الإعلامي المؤقت عربياً، وكان واضحاً حينئذ تفضيل القوى الدولية التعامل مع أشخاص في السلطة لم يفقدوا صلاحيتهم بعد، مع ميل واضح إلى شخصيات من البنية الأمنية مثل غازي كنعان وآصف شوكت.
في زمنه الذهبي، كان خدام ليحظى على الأقل بالتفاتة خاصة من شاعر مثل مظفر النواب في سياق هجائه القادة العرب، إذ خصّه بتشبيهه بالهدهد في شتيمته “ديّوث الشام وهدهده”. عقد ونصف منذ انقلاب حافظ الأسد أمضاها خدام في وزارة الخارجية، وهي الفترة التي شهدت أهم محطات السياسة الخارجية الأسدية، بما فيها أولاً الانفتاح على المحيط العربي “الخليجي على نحو خاص”، ثم دخول قوات الأسد إلى لبنان وصولاً إلى الوصاية المطلقة عليه، مروراً بالتحالف الناشئ مع حكم الملالي في إيران. في خضم ذلك كله، لم يكن خدام موظفاً عادياً “أو استثنائياً” ينفّذ تعليمات حافظ الأسد بدقة وحسب، فأصحاب هذه النظرة يسحبون من رصيده ما يُضاف إلى رصيد حافظ الأسد ليبدو الاستثناء المطلق.
غداة انقلابه، أتى حافظ الأسد بشخصيات لا وزن لها إطلاقاً لتولي بعض المناصب، وفي ذلك إمعان في الحرص على سلطته من انقلاب جديد واستهانة خبيثة بعموم السوريين الذين يدركون تفاهة أحجام هؤلاء. مثلاً أتى بنقيب المعلمين أحمد الخطيب ليضعه أول رئيس بعد انقلابه، وأتى بمتعب شنان “رئيس اتحاد الطلبة الذي لم يؤدِّ الخدمة العسكرية” ليعيّنه أول وزير للدفاع في عهده”. عبدالحليم خدام لم يكن من طينتهم، وربما شاءت الأقدار أن تضعه تحت الأضواء في مناسبتين سابقتين، فهو كان محافظ حماة عندما قاد مروان حديد انتفاضة ضد حكم البعث عام 1964، وكان محافظ القنيطرة عند اندلاع حرب حزيران 1967، وبه أُنيطت مهمة الإعلان الأول عن سقوطها قبل سقوطها فعلاً، وقبل أن يتبعه وزير الدفاع حافظ الأسد بالإعلان عن سحب القوات منها.
كان حافظ الأسد مُحالاً إلى الخدمة المدنية في إحدى الوزارات، إثر الانفصال عن مصر، عندما وقع انقلاب البعث، ولا يوجد أدنى دليل على مشاركته في الانقلاب. ما أصبح مرجعاً حول “اللجنة العسكرية” ودوره الأساسي فيها أتى متأخراً، وبروايته هو نفسه بعد اغتياله جميع من ورد اسمهم فيها أو زجّهم في السجن. بحسب أغلب الروايات، أُعيد حافظ إلى الجيش عن طريق صلاح جديد الذي كان مديراً لإدارة شؤون الضباط، إلا أن بعض الروايات التي كانت متداولة شفهياً يشير إلى عبدالحليم خدام الذي توسط لدى صلاح جديد من أجل إعادة الأسد إلى الجيش. تلك الصلة الثلاثية تبدو منطقية إذا أخذنا في الحسبان انتماء الثلاثة إلى منطقة الساحل، وقلة عدد البعثيين في تلك المرحلة التي تجعل “الرفاق” على تعارف شخصي وثيق.
هناك ميل مشترك لدى نسبة عالية من السوريين للتنزيل من قيمة الذين عملوا مع حافظ الأسد، أنصار الأخير يعظّمون من قيمته بتهميش كل من عداه، وأعداؤه يرونها طريقة أسهل لشيطنته. في الحالتين، نحن أمام نظرة تكرست منذ منتصف الثمانينات تقريباً، يظهر فيها حافظ كقائد كلي السطوة والمقدرة معاً، وكصائغ أوحد للأسدية بكافة تفاصيلها. هذه النظرة لطالما ساهمت في عدم فهم الطور التأسيسي لمرحلة الأسد، وفي عدم فهم تمايز الأسد نفسه عن رفاقه الذين انقلب عليهم. إبقاء الأسد الأب على رفاق شاركوه منذ انقلابه، أو في التحضير له، لطالما نُظر إليه كشيمة شخصية من الوفاء والعرفان لا على سبيل الحاجة إليهم، خاصة قبل بروز وإلحاح توريث السلطة الذي اقتضى إقصاءهم.
لعلنا لا نبالغ بالقول أن عبدالحليم خدام كان مشاركاً أساسياً في تأسيس الحقبة الأسدية الأولى، وفيها تم الانتقال من بلد منشغل بأوضاعه وصراعاته الداخلية إلى سلطة تمدّ نفوذها الإقليمي، وراح يُنظر إليها مع القاهرة والرياض كثلاثي يمثّل الثقل السياسي للمشرق العربي. هذه القراءة لا تعلي من شأن خدام ولا من شأن حافظ وكفاءتيهما السياسية، فنحن لا نتحدث في المقابل عن قادة إقليميين آخرين من طراز رفيع، ولا عن وزراء خارجية أو مستشاري أمن قومي من طراز كيسنجر أو بريجنسكي، ولا بأس بالتذكير ببقاء القذافي رئيساً لأكثر من أربعة عقود رغم صورته الكاريكاتورية في أعين غالبية الناس.
لم يكن خدام شريكاً في السلطة فحسب، بل شريكاً في أحط درجات فسادها كما تنبئنا قضية النفايات النووية التي جرى دفنها بطريقة اعتباطية في سوريا. وهذه الشراكة وحدها لا تفسر لنا رحيل الرجل من دون أن ينطق بأي كلام ذي أهمية عن خفايا حكم الأسد. يصعب الزعم أنه لا يعرف الكثير من الخفايا، مثلما يصعب الزعم أنه كان يخشى كشفها لئلا تبادر السلطة إلى كشف ملفات الفساد الخاصة به، فالأخيرة فوق انعدام مصداقيتها لم تقصّر في الردح له إثر “انشقاقه”. أغلب الظن أن الرجل رحل وفي جعبته الكثير من المعلومات عن صغائر سلطة الأسد، وربما عن صغائر سلطات عربية أخرى كان على تماس معها بحكم منصبه، وهي صغائر مخجلة في الميزان المتعارف عليه لكلمة السياسة، وهذا ما يفسّر لغز صمته واقتصار أحاديثه على عموميات معروفة. الحسنة الوحيدة التي كان يمكن أن يقدّمها لنا “انشقاق” خدام لو أنه كشف لنا ما يعرفه من تلك الصغائر، لكنه أبى أن يفعلها ورحل أميناً للبقاء في جلْده.