قبل ست سنوات تسللت من سوريا إلى لبنان، تلك كانت زيارتي الأولى والأخيرة إلى بلد له مكانة خاصة لدى كل سوري. أعلم أن الحديث عن “مكانة خاصة” يثير شجوناً لدى لبنانيين طالما تمنوا لو كانوا في حلّ من أية خصوصية تربطهم بالجار السوري، لذا يتوجب توضيح أن الخصوصية التي كان ينظر بها السوري إلى لبنان غير مرتبطة بعهد الوصاية، هي على الأرجح موروثة منذ الانقلاب البعثي الذي فرض على سوريا نمطاً استبدادياً من العيش، فأصبح لبنان في مخيال كثير من السوريين بمثابة النافذة الأقرب إلى سجنهم الكبير.

الخصوصية المرتبطة بالوصاية تسللت لاحقاً إلى نفوس بعض السوريين، وامتزج فيها الحسد والمقدرة على إذلال لبنان الذي أراد أن يكون مختلفاً. هي خصوصية أسدية، والذين عادوا انتفاضة استقلال لبنان بغالبيتهم اتخذوا موقفاً مشابهاً من الثورة السورية. ثمة شيطنة كانت تحدث خلال عقود يختصرها مصطلح “اللبننة” سيء الصيت، وبموجبه يتحول لبنان من النقيض إلى النقيض، من النموذج الأفضل قياساً إلى ما حوله إلى النموذج المخيف بمآله. أتت الحرب اللبنانية لا لتكون فرصة ثمينة للتوسع الأسدي فحسب، بل كي يُقال للسوريين: انظروا إلى ما حلّ بلبنان، أتريدون مصيراً مشابهاً؟

سأسترجع لاحقاً ذلك التخويف من اللبننة؛ أقمت في عاليه قبل الانتقال إلى بيروت، وصادف أن يُرسل لي مكتب السيارات سائقاً يشرح لي في الطريق ما كان يحدث أثناء الحرب. كانت أحاديث من نوع: كنا نتمركز هنا وكانوا هناك، مرة هاجمونا من هنا، هذا البناء مهدّم من وقتها. كان يتحدث بحماس، وربما بحنين إلى زمنه الجميل، ما دفعني في إحدى المرات إلى سؤاله باستغراب عن حماسه. سيجيب: كنا في وضع أفضل، كان كل طرف يعرف حدوده ويلتزم بها، أما الآن فهناك طرف واحد يسيطر علينا جميعاً. كنا أحراراً في الحرب أكثر من الآن! لم يكن هو الوحيد المخلص لذلك الزمن، ففي بيروت صادفت سائقين “قلائل” رفضوا صراحة الذهاب إلى “الغربية”، ولم يعد ذلك يثير استغرابي.

الذي أجّرني الشقة في عاليه أسهب في الحديث عن ماضيها البهي، حين كان المستأجر الدائم أميراً خليجياً يدفع أضعاف ما سأدفعه. الشقة الفسيحة مؤثثة بمزاج الصيد، ألوان مثل جلد النمر تطغى على المكان، وتوحي بصياد كان يأتي ليجد هنا من يصطاده عبر مزاجه نفسه. وددت لو أقول لمحدّثي أن ذلك الأمير لن يعود إطلاقاً، فهو على الأرجح عثر على بدائل أفضل وأقل كلفة في بلدان أخرى شهدت تطوراً سياحياً، لكنني أشفقت عليه من انعدام الأمل هو الذي لم يبخل بإظهار شفقته علي كلاجئ يقيم في شقة غير معدة لأمثاله. في بيروت، كان صاحب الشقة قواتياً، واستدرك عندما سألني عن الوضع في سوريا بالقول: نحن نعرف هؤلاء الوحوش، لقد عانينا منهم طويلاً. سيفاجئني بحزنه الصادق عندما سأبلغه بمغادرتي لبنان، سيودعني بشجن حقيقي: كنت آمل لو أنك عائد إلى سوريا، إذا استمر الحال هكذا فسنلحق جميعاً بكم إلى أوروبا.

ككاتب، لا أدري ماذا سيكون الحال بالنسبة لي لو لم يكن هناك لبنان. وعيت على إعلام مملوك للأسد، يُصدر ثلاث جرائد رئيسية في ما بينها مساحة للاختلاف تكاد تقتصر أحياناً على الكلمات المتقاطعة الموجودة في كل واحدة. كانت بيروت النافذة التي تُهرَّب منها مطبوعات لا تسمح بها الرقابة أو لا تشبه السماجة المعتادة للإعلام السوري، وكان العديد من الكتاب السوريين قد اختاروها مكاناً للعيش. سوريون أقل تطلباً “ربما” كانوا ينظرون إلى لبنان كمكان محظوظ تأتي منه سلع مفقودة في السوق المحلية مثل محارم الكلينكس والموز، الأخير بقي لسنوات دليل برجزة ورفاه بينما كانت الأيديولوجيا السائدة تتحدث باحتقار عن “جمهوريات الموز”. قبل الانفتاح القسري بفضل القنوات الفضائية والأنترنت، من المؤسف أن فرصة الكاتب السوري في الحصول على ما يستحق كانت مثل حظ نظيره الطفل في الحصول على الموز.

لست في سياق امتداح التجربة اللبنانية التي قدّم أهلها بجدارة ما يكفي من نقد لها، لكن يجوز الاعتقاد أن وجهاً مهماً من أوجه صراع العقود الأخيرة هو المضي بلبنان ليصبح شبيهاً بسوريا ومنعها من أن تكون شبيهة به. في المجمل، نجا لبنان قبل استحكام الوصاية الأسدية من إعادته إلى الشرق بلوثات وأنظمة تتلطى خلفها، سواء بذريعة القومية العربية أو الانتماء إلى الشرق بمفهوم اليسار. كل ما كان يُمتدح في التجربة اللبنانية هو غربي مفاهيمياً، الحريات الشخصية والعامة التي شكلت جوهر التجربة لم تكن يوماً منتمية إلى المحيط المشرقي القريب أو إلى مفهوم الشرق العالمي السائد في تلك الحقبة. ربما كان واحداً من أوجه الخلل ذلك الشرخ بين ما هو متحقق من حريات وضوابط النظام السياسي، أي عدم التوازن بين منسوبي الحريات والديموقراطية، مع امتناع الثانية منهما عن الارتقاء إلى مستوى الأولى.

من المستغرب أن لبنان راح يفقد خصائصه وسط شعور عام بالاطمئنان، اطمئنان مصدره أن الخارج لن يتخلى عنه وسيتدخل في اللحظة المناسبة للإنقاذ، واطمئنان مصدره الآخر أن قوة مثل حزب الله ستبقى محكومة بخطوط حمراء أهلية لا تستطيع تجاوزها. هكذا تم التعايش مع حرب الحزب في سوريا ظناً أن انتصاره هناك يصعب تصريفه لبنانياً، وهكذا “باستثناء قلة” تم التعايش مع انتهاكات الأجهزة الموجهة للاجئين السوريين ظناً أن الاستقواء على السوري يستحيل أن يستتبع استقواء على اللبناني. ساعدت في ذلك كله سياسات دولية اقتضت مصالحها آنذاك تحييد لبنان عن تداعيات الحدث السوري، ليبقى الصراع قابلاً للضبط في ساحته الوحيدة المحدودة.

لقد عبرت قبل سنوات النافذة التي يُخشى أن تنغلق اليوم على أهلها، وأن يعني انغلاقها انهيار النموذج الوحيد الرائد للحريات في المنطقة، مرة أخرى رغم ما عليه من مآخذ. ما يبشر به حالياً دعاة الممانعة اللبنانيين، إذا قيّض له النجاح، ليس أقل من النكوص إلى النموذج الأسدي، ليلفظ الشرق أخيراً ما تبقى فيه من غرب، ويتقوقع على نفسه مفاخراً بفقره ورثاثته وخلوه من المعنى.