عرض سياسيّ   في الأحوال السوريّة والتطوّرات الجارية في محيطها الإقليميّ والدوليّ

    الرفاق الأعزّاء: تحياتي لكم جميعاً. رغبت أن أشارككم وقائع مؤتمركم هذا، بالإطلالة على واقع الأحوال السوريّة عموماً، واستعراض أبرز التطوّرات في محيطها الإقليميّ والدوليّ، وسأسعى لإيجاز الحديث عن ذلك وفق النقاط التالية : 

١- للأسف الشديد، وعلى الرغم من مضيّ ما يقارب عشر سنوات على انطلاقة ثورة الشعب السوري المجيدة، ووصول الحالة السوريّة ،لأسباب وعوامل عديدة، إلى أزمة مستحكمة وشديدة التعقيد قلّ نظيرها، وهي إلى ذلك ماتزال بعيدة عن الحلّ، وعلى الرغم من متغيّرات عدّة راهنة، واستحقاقات قادمة في الفضاء الدوليّ والإقليميّ، قد يعوّل على بعضها، لكن حتى اللحظة ليس هناك مؤشّرات واعدة ومطمئنة تلوح في الأفق وتوحي بقرب انفراج الأزمة. بل نرى على العكس من ذلك هناك جمود في الملفّ السوري، وتضاؤل ملموس في الجهود الدولية للدفع بإنهاء الأزمة، وانزياحات متدرّجة وتواطؤات أيضاً في مواقف المجتمع الدولي منها، أدّت إلى تراجع في مكانة الأزمة السوريّة على سلّم اهتماماته إعلامياً وسياسياً، بل وبإمكاننا القول إن الصراع الدوليّ والإقليميّ على سورية يزداد حدّة واحتداماً على مناطق النفوذ، وفي اقتطاع الغنائم وخدمة المصالح، بدليل حروب الوكالة التي ما زالت تجري على الأرض السورية عبر ميليشيات سورية، ويجري التقاتل سوريّاً نيابةً عن قوى الاحتلال والدول المتدخّلة التي يزداد حرصها على عدم التصادم المباشر بينها بشكل مباشر.

٢- أعتقد أنه صار واضحاً التناسب بين غياب رؤية أمريكية إستراتيجية في مقاربة هذه الأزمة، وبين عدم اندراجها ضمن أولويّات الإدارة الأمريكية، وهو بالضبط ما يستغلّه الروسيّ جيداً، ويبني عليه، ويحكم مواقفه، فهو يوظّف هذا التفويض دائماً في خدمة أجنداته ومصالحه، ولعل ما يزيد الأمور تعقيداً بروز التناقضات بين المراكز الدولية التي تزداد وضوحاً، وتعبّر عن نفسها بتوتّرات سياسية وأمنية، سواء داخل صفوف المركز الواحد أو فيما بينها، فالانقسام وتضارب المصالح والرؤى، بات سيّد الموقف، سواء داخل الولايات المتحدة ومراكز القرار فيها، أو ضمن المجموعة الأوروبية، أو بين المنظومتين معاً، واستطراداً بين هذه المنظومات وإسرئيل التي لا تنظر إلى المشهد الدولي والإقليمي إلا من زاوية مصالحها الضيقة.

٣- يسعى الروسيّ من خلال المنصة السورية والاستغلال الجائر للأزمات المتفجرة في المنطقة، أن يعيد حكاية الثنائية القطبية، ويطرح نفسه ندَّاً للولايات المتحدة والغرب عموماً، على الرغم من تواضع مؤهّلاته لذلك، فهو من خلال دوره في سورية يطمح للإمساك بالملف السوري منفرداً؛ لتعزيز حضوره الدولي في مواجهة أمريكا، وينظر إلى المكاسب والمصالح الضخمة التي سيجنيها في سورية- في حال نجاح مسعاه – بفرض الحلّ الروسي، نظرةً لا تقارن أبداً بالفُتات الذي سيحصل عليه إذا ما أُجبر على الانصياع للحلّ الدولي وفق القرار \٢٢٥٤\ وفق المنطوق الدولي، وليس وفقاً لتفسيراته الخاصة، لذلك نراه يستميت، ليس فقط لإفراغ القرار الدولي من مضمونه الحقيقي لصالح مسارات أستانة وسوتشي، بل ينتقل صراحةً لتحدّي هذا القرار والمنظومة الدولية التي تسانده من خلال الاستمرار بتعطيل اللجنة الدستورية وجعلها( طبخة بحص ( لا طائل من ورائها، وكذلك استغلال عودة اللاجئين بطرحها في مؤتمر خاص عُقد في دمشق لهذا الغرض. فهو ماضٍ في سياسة عمادُها التصعيد العسكري كأداة للتهديد، مع محاولات ابتزاز المجتمع الدولي بقضايا اللجوء والهجرة، والتلويح بالمساومات والمقايضات، سواءً مع شركائه أو خصومه، للوصول إلى غاياته في تعظيم مصالحه السياسية والاقتصادية والسيطرة على سوق الطاقة الدولي.

٤- من التطوّرات الإقليمية التي أشرت إليها آنفاً، والتي يجدر التوقّف عندها ومراقبة درجة تأثيرها على الحالة السورية، يبرز الدور التركي الآخذ في النموّ والاتّساع في المنطقة، والذي بدأ في سورية، وانتقل إلى ليبيا، ثم إلى شرق المتوسط في قبرص واليونان، وصولاً إلى القوقاز ضمن معمعة الصراع الدولي والإقليمي المحتدم حول هذه البؤر الملتهبة، والذي سجّل لأنقرة انتصاراً سياسياً وعسكرياً ضد أرمينيا، التي تخلّى عنها الروس لأسباب تتّصل بالمصالح والمساومات حول إقليم “كاراباخ”  وعدّة مدن أخرى لصالح أذربيجان، ومن المرجّح أن هذا التمدّد التركي جرى بالتعاون مع موسكو، التي لا تزال عينها على تنازلات وازنة من قِبَل تركيا في الملفّ السوري، إن كان في إدلب أو في العملية السياسية وشكل الحلّ السياسي عموماً، فشهيّة بوتين مفتوحةٌ على هذه المقايضات المثمرة التي تقوّي موقفه في الملف السوريّ. وهناك أيضاً التقارب السعودي العراقي الذي يجري وسط تراجع دور إيران وخشيتها من ضربة مفاجئة قد يوجهها لها “ترامب” أو اسرائيل في سياق إضعاف دورها في سورية، فالضعف الإيراني أصبح بادياً ولا تخطئه العين، سواءً بعدم الردّ على الضربات الإسرائيلية شبه اليومية على قواعدها في سورية، أو عدّم تصدّيها للضغوط الأمريكية والأوربية المتواصلة على لبنان لعزل حزب الله وإضعاف دوره. أيضاً يتواتر الحديث عن احتمال تسوية الخلاف السعودي التركي، استعداداً لمواجهة بيئة دولية وإقليمية جديدة بعد خسارة “ترامب” ووصول الديمقراطيين إلي البيت الأبيض، وما يترتّب على ذلك من متغيّرات إقليمية، بل ويذهب التفاؤل أبعد من ذلك بالحديث عن محاولات جادة لإنهاء الأزمة القطرية مع دول الخليج التي تستعد هي الأخرى لترتيب أوراقها وتمرير أزماتها تحت ضغط أمريكي إسرائيلي مشترك لاستكمال موجة التطبيع الجارفة التي تبدو وكأنها شرط لاستقرار المنطقة.

 أمّا اللقاء التشاوري الذي عقدته كلّ من( السعودية-مصر-الامارات-الأردن) لمناقشة الملفّ السوريّ، فيأتي في إطار مقاربة جديدة لهذا الملفّ، لردم الهوّة بين مواقف هذه الدول، في محاولة لحلّ التناقضات وتوحيد الرؤى في ضوء الاستعداد لملاقاة التوجّهات الأمريكية الجديدة، وكذلك ضغوط إسرائيل بشأن التطبيع، والتركيز على التصدّي للدور الإيراني.

٥- في الأوضاع الداخلية:  اهتراء النظام وتآكله الذاتي، والتسبّب بدفع سورية إلي حافة الفشل، أصبح حقيقة راهنة، وتحوّلت المنظومة التسلّطية الأسدية إلى أداة للاستئجار من قِبَل قوى الاحتلالين الإيراني الروسي، حيث يلعب على تناقضاتهما للبقاء في السلطة. الدوْران -وهما رغم كل ما فعلاه لإنقاذ النظام- لا يتعديان تثبيته على حافة الهاوية، ولا شيء سيحول دون وقوعه فيها. أمّا الانهيار الاقتصادي والإفلاس المالي، فكلها أصبحت وقائع عنيدة على الأرض، لا حلولَ بانتظارها، ومسلسل الأزمات والاختناقات المعيشية اللذان يسيطران على المشهد الداخلي، يمضي نحو مزيد من التفاقم دون توقّف؛ لأن حلّها يحتاج إلى موارد مالية ضخمة، لا قدرة لأحد على توفيرها، وتأمين الاحتياجات الأساسية للمدنيين في مناطق سيطرته، وكلّ جهود روسيا وإيران لن تجدي شيئاً، ولو كان الأمر غير ذلك، لرأينا مَن يُسعف الأسد بالمحروقات أو الطحين، أو يساهم في وقف حالة التدهور المتمادي في سعر صرف الليرة السورية، فكلّ حديث عن هبات وعطايا ومساعدات وخطوط ائتمان و قروض تشجيعية مستورة أو معلنة، كلّها أصبحت مجرّد “بروباغاندا” روسية، لا طائل من ورائها، فترقيع الثوب المهلهل مع توسّع ثقوبه ما عاد يجدي نفعاً، فأمّا الإجراءات التي أقدم عليها الأسد بإطلاق المافيات وما يسمّى “رجال الأعمال” في فضاء الاقتصاد السوري، بقصد تقوية دورها للمساهمة بالخروج من المأزق وزرعها في هياكل الدولة، سواء في مجلس الشعب أو غرف الصناعة والتجارة أو حتى في الحكومة، فلم تلبث أن زادت من حدّة الأزمة واشتداد وطأتها، فأزمة الخبز مثلاً تتعمّق أكثر فأكثر، وأزمة المحروقات كذلك، حيث لكلّ مادة متعهّدها ووكيلها، وأمّا رموز هذه المافيات وزعاماتها من “الشبيحة” ، فهي تسعى لكسب الرضا الأسديّ؛ من أجل مزيد من تحكّمها بالسوق تمنيةً لمكاسبها وتضخيماً لإيراداتها عبر شبكات الاحتكار والتلاعب بالأسعار والسيطرة على السوق السوداء واقتصاد التهريب، وهؤلاء عموماً ليسوا سوى واجهات لشخصيات نافذة في السلطة، لا همّ لها سوى زيادة نفوذها والسطو على ما تبقّى من موارد البلاد. 

٦- سورية أصبحت تتصدّر قوائم الجريمة والفساد، وعُدّت أسوأ مدينة للعيش على المستوى العالمي، مع تزايد مخيف لمعدلات الفقر والجوع المترافق مع عدم الاستقرار السياسي والأمنيّ، فهناك ما يقرب من عشرة ملايين سوريّ يعانون من انعدام الأمن الغذائي، أمّا مستوى الفقر، فقد طاول 90% من الشعب السوريّ، والفقر المدقع حوالي85% ، وظواهر انقطاع الكهرباء والمحروقات والطحين وما يُستجرّ معها من أزمات حياتية، أصبحت تُضاف إلى سلّم كوارث العيش، بعد أن أصبحت تكاليف المعيشة لأسرة متوسّطة تتجاوز (550) ألف ل.س شهرياً، مع بقاء الدخل بحدود (60- الف 100) ل.س شهرياً.

٧- في المحصّلة، لم يعد حلّ الأزمة السورية مرهوناً فقط بالتوافق الدوليّ، بل أصبح الملفّ السوريّ برمّته مرتبطاً على نحو كبير بملفّات المنطقة في كل من( لبنان والعراق واليمن وليبيا) أي مرتبط بنتائج الصراع الإقليميّ في كلّ منها، وما زاد الطين بلَّة، ارتباطه أيضاً بملفّ التطبيع مع إسرائيل، حيث تتزايد الضغوط الأمريكية الإسرائيلية لوضع منهج استكمال حلقاته مع باقي دول المنطقة، وكأنه شرط لاستقرارها وإطفاء البؤر المتوتّرة فيها.

٨- أخيراً .. هذا المشهد، على الرغم من شدّة مأساويته، ليس مدعاة لليأس، ولا مؤشّراً على هزيمة الثورة؛ لأن أهدافها ومطالبها تتعزّز يومياً بفعل ما حدث ويحدث، وليس بالرغم منه، والثورة رغم تراجعها تفرض نفسها بقوة للخروج من هذه الأزمة إلى برّ الأمان، والثابت يبقى، وهو الرفض العميق والقاطع من قِبَل الشعب السوري لاستمرار هذه الطغمة المجرمة، ويتعاظم إصرار السوريين جميعاً على تحقيق تطلّعاتهم في الحرّية والكرامة والعدالة الإنسانيّة.