كذب النظام وأتباعه لا يغالبه إلا صدق من جنسه

لا يمثل الصدق فعلاً سياسياً ذا أثر؛ لأنه يصف حقائق الواقع كما جرت وتجري، فهو ينتمي الى خارج ميدان السياسة ولكن الكذب فعل سياسي؛ لأنه يسعى الى تغيير الوقائع وإعادة نسجها بصياغة مختلفة لكي يجعل منها وقائع جديدة بديلة عن الوقائع الاصلية.

الكذاب ذو فاعلية حقيقية وهو في حالة كونه عاجزاً بلا سلطة يعمد الى تضييع الحدود بين الواقع والرأي بجعل الواقع المزيف الذي يرسمه رأياً يطالب باحترامه، أما إذا كان مسنوداً بقوة فإنه لا يتردد في خلق واقع جديد مشوّه ومحاولة فرضه لكي يحلّ محلّ الأصل.

إن ما يتمتع به البشر من حرية هو الذي يتيح هذه القدرة للكذاب على القول والفعل، ويعزّز هذه القدرة ما تتمتع به الوقائع من صفة عدم الضرورة، واتّسامها بسمة الإمكان.

في ضوء عدم فاعلية الصدق وانتمائه إلى ميدان خارج ميدان السياسة وقدرة الكذب وكونه فعلاً سياسياً محضاً لجهة تحديه للواقع وخرقه أحياناً ونسفه أحيانا أخرى، يمكن وضع اليد على قصور أدائنا كمعارضة في السنوات التي تصرّمت من عمر الثورة السورية، فقد دأبنا على تحرّي الصدق ليس بالمعنى القيمي له وإنما بالاكتفاء بسرد ما يجري من ظلم وقهر لشعبنا وهو ما لم يؤت أكلاً؛ لأن وصف الواقع ليس فعلاً سياسياً بمعنى أنه لا يجدي نفعاً في إحداث أثر في الواقع.

وفي الوقت نفسه استطاع النظام بممارسته الاحترافية للكذب أن يخلق واقعاً بديلاً لم يعدم أسباباً وأدوات موضوعية تمكّنه من نسجه وفرضه على العالم كله.

وبين المعارضة الجذرية للنظام التي تمارس الصدق باكتفائها بالوصف بدون أن تفطن إلى عدم نجوعه رغم تطاول المأساة، والنظام الذي يتفنن في الكذب بخلق وقائع جديدة  متنبهاّ إلى أن الواقع هو توقيع لممكنات على حساب ممكنات أخرى بمعنى أن ما يجري هو احتمال وقع على حساب احتمالات أخرى وبالتالي يمكن استثمار ماهية الإمكان فيه بإعدامه وتوقيع ممكن بديل،  بينهما يقع المعارضون للنظام من داخله والذين يمارسون ما هو أخبث من كذب النظام وهو تمييع الحد الفاصل بين الواقع الحقيقي والرأي فيشوهون الواقع قائلين إن ما يطرحونه مجرد رأي مختلف، رؤية يجب أن تحظى بالاحترام.

لا نطالب بالتخلي عن الصدق ولكننا مطالبون بجعله صدقاً لا يكتفي بوصف ما يجري وإنما بتحويله الى فعل سياسي وهو قابل لاستحالته الى فعل من هذا النوع إذا شرع في تغيير الوقائع التي ينسجها الكذاب وهو شروع في التغيير يحتاج فهماً للسمة الإمكانية للوقائع وعدم الإصرار على التشبث بثنائية الحق والباطل في الصراع مع العدو، وفي الخطاب الموجه للعالم، ويحتاج كذلك إلى قوة متأتية من سلطة تسندنا وهي سلطة سياسية بالضرورة وليست فقط سلطة الحق المجرد.

لا ريب أن حقائق الواقع أكثر عناداً من كل صور الواقع المشوّهة التي يرسمها الكذابون ذوو السلطة كممثلي النظام، ومن كل الأكاذيب التي يسميها أصحابها من الكذابين فاقدي السلطة آراء وهم الذين ينعتهم النظام بنعت المعارضة الوطنية ولكن غلبة هذه الحقيقة الواقعية العنيدة يحتاج فعلاً سياسياً وأداء سياسياً وصدقاً يستطيع ان يغالب الكذب عندما يكون من جنسه أي من ميدان السياسة وليس صدقاً متأتياً من خارج عالمها.