ليس للمعارضة السورية خيار آخر غير المراهنة على “قانون قيصر” من دون أوهام. أما خيارات الأسد في مواجهة “قيصر” فمحدودة: الداخل الموالي محبط ومشوّش، والحليفان روسيا وإيران غير موثوق بقدراتهما. اعلان أثار “قانون قيصر” نقاشاً سورياً حيوياً. ومع أنه لم يبتعد عن الإصطفافات المعروفة بين موالاة ومعارضة، إلا أنه أبرز آراء هاجسة بمستقبل سورية يمثلها مجتمع-مدنيون متعدّدو الطيف، بمعزل عن النظام والمعارضة. لا يؤشّر ذلك الى ولادة تيار ثالث، لأنه موجود منذ بداية الأزمة واستمر حتى الآن، وهو منسجم مع معظم الاطروحات المدنية للتغيير لكنه يفضّل التمايز عن تيارات المعارضة لئلا يُقحَم في تلوّناتها الدينية أو ارتباطاتها الاقليمية. لم يكن متوقّعاً من الموالين أن يروا في “قيصر” غير مؤثّراته السلبية على معيشتهم التي ابتأست قبل صدوره والشروع في تفعيله، وبالتالي فقد صبّوا انتقاداتهم على الولايات المتحدة والعقوبات متناغمين مع خطاب النظام، لكن أمكن التقاط احباطهم من الحال التي أوصلهم إليها هذا النظام الذي أفقرهم وأذلّهم في سعيهم الى أبسط متطلبات العيش. أي تواصل مباشر مع قريبين من حلقة بشار الأسد أو بعيدين عنها بات يشير إليه بأقذع الأوصاف ومع أنهم لا يجهرون بتحميله المسؤولية في ما يغردون أو يفسبكون، إلا أن أي تواصل مباشر مع قريبين من حلقة بشار الأسد أو بعيدين عنها بات يشير إليه بأقذع الأوصاف، عدا التساؤل لماذا وكيف أوصلنا الى هنا، وماذا سيفعل الآن، وهل سينفق من “ثروته الخاصة” (على افتراض أنها “حرّ ماله”!) لتسيير أجهزته وشبّيحته (وإذا فعل، فإلى متى؟). حتى قبل البدء بتطبيق العقوبات المشدّدة، كان نظام الاسد بدأ يتعرّف الى ما تسمّيه واشنطن “الضغوط القصوى”. شكّل الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان الإنذار الأخير للنظام ولحليفه الإيراني ممثلاً خصوصاً بـ “حزب الله”. كان ذلك الانهيار غير مسبوق منذ نشوء الدولة في لبنان، إذ لم تلجأ الى صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي لإنقاذ الاقتصاد أو انتشال العملة، وكانت مساعدات دول الخليج جاهزة دائماً لمساندتها، حتى غداة حرب صيف 2006 التي انتقدتها تلك الدول وأطلق فيها حسن نصرالله قوله المأثور “لو كنا نعرف لما…”. هذه المرّة تُرك لبنان يواجه كارثته وحده. قبل ذلك كان على نظام الأسد أن يتذكّر الضغوط القصوى على نظام صدّام حسين، وبعده على نظام الملالي في إيران. شكّل الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان الإنذار الأخير للنظام ولحليفه الإيراني ممثلاً خصوصاً بـ “حزب الله” كان النظام جرّب روسيا وإيران طوال العام 2019 عندما اشتدّت الأزمة المعيشية في مناطق بيئته الموالية، ولم يتمكّن حليفاه من نجدته، بل أن الروس لم يلبّوا رغبته في مواصلة الحرب إذ أرادها هروباً من أزمته الداخلية، وراحوا يتدبرون مصالحهم مع تركيا. غير أن الموالين يقولون اليوم إن النظام لم يهتمّ يوماً بالأزمة الاجتماعية، إلا في ما يخصّ أدوات تسلّطه، وأنه أوجد حلولاً لها بتقسيم مناطق سيطرته إقطاعات لعساكره وشبّيحته، لكن ما يعفّشونه ويسرقونه من أبناء الشعب لم يعد كافياً لإشباعهم. بل إن الروس والإيرانيين باتوا منافسين على تقاسم مرافق البلد وسرقتها، و”لم يعودوا قادرين على تعويم النظام”، وفقاً لجيمس جيفري. عندما يتحدّث المعارضون عن “قانون قيصر” فإنهم يضعون العقوبات الموجّهة ضد “عصابة النظام” في مقابل جرائمها. إذ أن العقوبات لم تكن سبب مأساتهم الكبرى بل نتيجة للمجازر والقتل والاعتقالات والتدمير والتهجير. لم يسجّل لأي مسؤول روسي أو إيراني أو تابع للنظام أيَّ موقف يشير ولو كذباً الى أيٍّ من تلك الجرائم والممارسات، بل كانوا ولا يزالون يواجهون التقارير كافةً بالنفي والازدراء والاستهزاء. كما أن “مسار استانا” الذي وضع ملف المعتقلين على جدول أعماله لم يتمكّن من إعطاء أولوية لهذه المعضلة أو إظهار جدّية حقيقية لمعالجتها على رغم إدراك أعضائه أن حسمها يساعد في تحريك ملفات أخرى. كان الروس والايرانيون يتهرّبون من عقد أي اتفاق على إطلاق المعتقلين، لأن تطبيقه سيكشف حجم جرائم القتل بالتعذيب، معتقدين أن الأطراف الأخرى تجهل أن عشرات الآلاف قضوا في السجون. العقوبات لم تكن سبب مأساتهم الكبرى بل نتيجة للمجازر والقتل والاعتقالات والتدمير والتهجير هذا بالتحديد ما كشفه “قانون قيصر” الذي صار “البديل” اللازم والضروري لإنصاف الشعب السوري، بديلاً من مجلس الأمن الذي تعطّله روسيا والصين، ولا يهمّ أجاء من الكونغرس الأميركي أو من أي جهة أخرى ذات قدرة وفاعلية. وعندما يهاجم الروس والايرانيون أو النظام والموالون هذا القانون فهل تعني انتقاداتهم شيئاً آخر غير أنهم يؤيّدون مواصلة احتجاز سجناء وتعذيبهم حتى الموت، ويؤيدون استمرار قتل المدنيين وقصف المراكز الطبية والأسواق والمدارس، ويؤيدون تعويق المساعدات الإنسانية (أو نهبها واستخدامها للتربّح من جانب أدوات النظام)، ويرفضون عودة اللاجئين والمهجّرين، كما يرفضون محاسبة مجرمي الحرب. قد يستحق “قانون قيصر” التهليل له كعنوان للخلاص من النظام ولو بعد “خراب البصرة”، وقد يستحق تأثيماً لأنه يضاعف بؤس الشعب ومعاناته من دون أن يأتيه بالسلام الذي ينشده. الموقفان تنازعا السوريين، ومن حقّهم أن يشككوا انطلاقاً من مراراتهم ومن التجربة التي قاسوها، وإذ أصبح يوحّدهم الآن فقدهم الثقة في النظام فالأكيد أنهم لا يثقون بأيٍّ من حليفيه أو بتركيا وأميركا واسرائيل، ومن الطبيعي أن يستذكروا ما عاشه الشعب العراقي تحت وطأة العقوبات وما تأتّى عنها من نقص في التغذية فتك بمئات آلاف الأطفال وتسبّب بتدهور الحال الصحية العامة. وكما نظام صدّام حسين، كذلك نظام الأسد، فكلاهما لم يترك لنفسه خط رجعة داخلي أو حتى خارجي للحؤول دون الانهيار، والفارق بينهما أن صدّام انتظر الغزو الأميركي ولو كلّفه نهايته أما الأسد فاستدعى “الحلفاء” لإنقاذه معتقداً أنهم سيلعبون اللعبة التي يديرها. ليست للأسد مخارج، ولا للمعارضة، فالأزمة أضحت منذ أعوام دائرة مغلقة على الجميع، في انتظار تفجير حربي لن يحصل أو توافق أميركي – روسي يبقى مرجّحاً! ليست للأسد مخارج، ولا للمعارضة، فالأزمة أضحت منذ أعوام دائرة مغلقة على الجميع، في انتظار تفجير حربي لن يحصل أو توافق أميركي – روسي يبقى مرجّحاً. عدا ذلك فإن أي “مفاجأة” يمكن توقّعها ستراوح بين أمرين: إما أن يُقبل النظام (بضمان وضغطٍ روسيين) على انخراط فاعل في تطبيق القرار 2254 آملاً في المشاركة في هندسة “الانتقال السياسي”، أو أن يستمرّ في التعنّت فلا يبقي لروسيا عندئذٍ سوى بتّ مصيره (بالتفاهم مع إيران). وإذا كان لـ “قانون قيصر” من مغزىً جديد فهو أنه يشير الى تغيير في سلوك الولايات المتحدة، إذ باتت أكثر وضوحاً برفضها للأسد واستحالة الاعتراف بـ “شرعيته” إن هو أقدم على مسرحية انتخابية أخرى للبقاء في منصبه. وبهذا المعنى فإن “قيصر” صمّم ليكشّ الأسد، أيّاً تكن السيناريوات. ما يُكسب هذا الموقف جدّية أن عقوبات “قيصر” تطاول النظام وروسيا وإيران معاً، بعدما عجز هؤلاء عن تغيير سلوكهم بل رفضوا ذلك متأبطين “الانتصارات” التي حققوها وباتت ترتدّ عليهم. لا مرجعية أخلاقية أو حقوقية للنظام وحلفائه، وطالما أنهم لا يكترثون بالشعب السوري فإن أي اهتمام تُظهره دولة – حتى لو كانت أميركا – بـ “حماية المدنيين السوريين” لا بدّ أن يكون مرحّباً به.