عندما كان النظام السوري يحكم لبنان على نحو يومي ومتدخّل في كل التفاصيل، استطاع فرض قاعدة “تلازم المسارين” السوري واللبناني في تعاطي مسألة “السلام” مع إسرائيل. لم يكن “التلازم” تعاهداً بين دولتين أو حكومتين، بل إرادة “نظام وصاية” على نظام تابع. وعندما أنجز المؤتمرون اللبنانيون “اتفاق الطائف” عام 1989 بقيت فيه بنود معقّدة تتعلّق بالوجود/ الاحتلال السوري وسلاح المقاومة ضد اسرائيل، ولأنها تفوق قدرتهم و”صلاحيتهم” فقد تولّى الاميركيون والسعوديون بلورة صيغة نهائية ترضي دمشق وتزكّي دورها، ثم صادر النظام الاتفاق وتطبيقه انتقائياً بما يناسبه. وبعد الانسحاب السوري (2005) أخذ وريثه في الوصاية، “حزب الله”، على عاتقه جعل “التلازم” تماهياً مع أجندة طهران ودمشق وتحويل “المقاومة” أداة في أيديهما لا لمحاربة إسرائيل بغية “تحرير فلسطين” بل للتناوش معها سعياً الى مكاسب إقليمية. وإذ أبقى نظام دمشق على “اتفاق الطائف” شكلياً فإن وريثه يعمل بدأب على إلغائه لاستنباط صيغة تكرّس حكمه للبنان. في “قانون قيصر” تبدو الإدارة الأميركية كأنها تتّبع قاعدة “تلازم المسارين”، مستهدفة نظام بشار الأسد بعدما أصبح هيكلاً صوريّاً مهلهلاً ونظام “حزب الله” الذي اكتملت هيمنته على لبنان. تعتبر واشنطن معاقبة نظام الأسد مزدوجة، له ولإيران، كذلك معاقبة الحكم الحالي في لبنان، له ولـ “الحزب”، لأن رئيسه ميشال عون تجنّد في تمكين “الحزب” ويدين بكرسيّه له، كذلك بتلاعبه بكرسيّه وبالدولة وبالبلد. وعلى رغم التلويح بقسوة عقوبات “قيصر” إلا أن الاستثناءات تبدو مرتسمة، فما سيوجّه منها ضد روسيا سيكون مصمّماً للإبقاء على قنوات تفاهم ومساومة بالنسبة الى سيناريوات حل الأزمة السورية، وما يمكن أن يوجّه ضد الميليشيات الإيرانية في العراق لن يضايق الحكومة الحالية التي لن ترضخ لضغوط طهران ولن تساهم في دعم نظام الأسد إسوةً بحكومات سابقة. لماذا “قانون قيصر”، وهل من قيمة أو أهمية لعنوانه الآخر: “حماية المدنيين السوريين”؟ لا شك أن هذه “الحماية” تأخرت ثمانية أعوام منذ طلبتها تظاهرات الشعب السوري، ولم تعد لها الآن أي فاعلية ملموسة. كان يُفترض أن تأتي عبر قرار من مجلس الأمن الدولي حين كان لا يزال في الإمكان إنقاذ مئات آلاف الأرواح، ومنع تشريد ملايين السوريين، والحؤول دون تدمير بعض أقدم الحواضر في تاريخ البشرية. لكن ما يؤمل اليوم من هذا القانون هو أولاً تحقيق شيء من العدالة لشعب سورية، وثانياً أن يكون فعلاً مساهمة في إنهاء الحرب وإيجاد ولو بداية حلٍّ سياسي يبقي سورية موحّدة ويبقي بريق أمل في عودة أبناء شعبها الى تعايشٍ كان حاصلاً على رغم السموم التي ضخّها النظام في أوصال الوطن. أيّاً تكن نيات الولايات المتحدة وأهدافها، وأيّاً تكن خيبات الأمل العربية من سياساتها طوال القرن الماضي وصولاً الى “صفقة القرن” ومحاولتها إلغاء شعب فلسطين، ينبغي الاعتراف بأن “قانون قيصر” شكّل الاستجابة الصحيحة الوحيدة المتاحة في نظام دولي سمح للأسد بارتكاب أفظع المجازر والجرائم وباستخدام السلاح الكيماوي، رافضاً أي حلول سلمية، ومطمئناً الى أن “فيتوات” روسيا والصين تحصّنه من أي ادانة أو عقاب، بل إنه وحليفه الإيراني اعتقدا أن “خدعة الإرهاب” انطلت على العالم وأقنعته ببراءتهما الى حدّ التفكير بإعادة تأهيل النظام والاعتراف لإيران بنفوذها أينما شاءت. لم يتوقّع النظام ولا الروس أو الإيرانيون أن ينبري شخص واحد – “قيصر” – ليقلب الطاولة عليهم، بل حتى على الاميركيين أنفسهم، فالكونغرسيون يشترعون عادةً بدافع من مصالحهم الشخصية والانتخابية، أو بغريزة الانحياز لإسرائيل، لكنهم هذه المرّة وجدوا أنفسهم إزاء آلاف من الصور لآلاف السوريين الذين قضوا تحت التعذيب. كانت تلك الوثائق مجرّد عيّنة من إجرام الطاغية، ولم يكن في الإمكان تجاهلها، فالتجاهل تزكية للمجرم وإدانة للمتجاهل، ومع ذلك استهلك إقرار القانون أربعة أعوام قضى خلالها عشرات آلاف السوريين في سجون النظام، كما وثّقت “منظمة العفو الدولية” وسواها، وعشرات الآلاف من المدنيين ببراميل النظام وغارات الطيران الروسي. وها هو “قيصر” يصبح الآن في صلب السياسة الاميركية ورأس حربتها، لكنه لن يبلغ غايته الموثّقة (حماية المدنيين السوريين) ما لم يلتزم إنهاء الحرب وبلورة “الحلّ” الذي يتطلع إليه المدنيون السوريون، فهذا هو التعويض الوحيد عن التقصير في حمايتهم عندما كانت واجبة، بل عن خذلان العالم لهم وتركهم فريسة لنظام وحشي وحلفائه الأكثر وحشية. منذ 2011 كانت هناك خشية من تداخل الوضع السوري الذاهب الى كارثة مع وضع لبناني مأزوم منذ 2005 (اغتيال رفيق الحريري وما عناه داخلياً واقليمياً، بسبب تورّط “حزب الله” في هذا الاغتيال والاغتيالات التي تلته) ومأزوم أكثر منذ استباحة “الحزب” لبيروت عام 2008. لذلك وجب على جميع سياسيي لبنان اتّباع قاعدة درء تداعيات الحدث السوري على بلدهم، وهو ما عُرف لاحقاً بسياسة “النأي بالنفس” التي أيده “الحزب” (اعلان بعبدا) وفي اللحظة نفسها كان يورّط لبنان في الحرب السورية. كان ينفّذ أوامر إيرانية ويبرّرها بحماية “المقاومة” من “المؤامرة الكونية” التي استهدفت سورية، ثم أنه استخدم استقواءه بالقتال الى جانب نظام الأسد ليفرض انتخاب رئيس لبناني يشاطره التخديم للمصلحة الإيرانية. وما يشهده لبنان اليوم من تفكّك للدولة وانهيار مالي واقتصادي هو النتيجة العملية لحكم قاده ويقوده “حزب الله” (و”حركة أمل”) مع “التيار العوني”، قدّم ويقدّم كل أشكال الدعم والتسهيلات لنظام الأسد، خصوصاً بتهريب الأموال والوقود والسلع الى الحدّ الذي بدأ يلحق أفدح الأضرار والخسائر بالاقتصاد اللبناني. وكما أكّد جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص بسورية أخيراً، دور حكومته في انهيار الليرة السورية، يمكن القول إنها تساهم بمشاركة من خصومها في انهيار الليرة اللبنانية. صحيح أن العقوبات الأميركية فُرضت على سورية للضغط على النظام، وصحيح أيضاً أن هذا النظام وحلفاءه الإيرانيين استخدموا لبنان للتخفيف من تأثير تلك العقوبات، إلا أن ضررها واقع أولاً وأخيراً على اللبنانيين والسوريين، وليس واضحاً كيف ستؤثّر في النظامَين اللذين يطبّقان دروس خبرة إيران في التعامل مع العقوبات، وأهمها عدم الاكتراث بآلام الشعب والاستعداد لقمعه بشدّة إذا حاول الاحتجاج. في سورية القمع طبيعة أولى للنظام، أما في لبنان فيحاول “حزب الله” التذاكي باصطناع فتنة طائفية أو مذهبية لتخويف الحراك الشعبي. قبل أن يبدأ تنفيذ “قانون قيصر” بادر نظام الأسد الى مصادرة الكثير من أموال الذين ساعدهم على صنع ثرواتهم في الداخل، أم داعموه من الخارج فسيكون عليهم أن يتخلّوا عنه كي ينقذوا شركاتهم وأعمالهم للهروب من مصيدة “قيصر”، لكن هل يستطيعون، هل يجرأون، وهم الذين حققوا مكاسبهم سواء بالتواطؤ مع الدولة (لبنان، العراق…) أو بالاحتيال على القوانين بمعرفة الدولة؟ لا شك أن “قانون قيصر” يقفل الكثير من الأبواب والنوافذ أمام النظامين السوري واللبناني، وطالما أن الشعب موجع ومنكوب في كل الأحوال فلعل التضييق على النظامين يفتح نافذة أمل بالخلاص من الأسد وإيران ومن عصاباتهما. هذه تبقى فرضية، ولا يزال أمامهما وقت ليواصلا جرائمهما من دون أن يتمكّنا من تغيير مجرى الأحداث.