كان الذهاب إلى تلك الضاحية من ضواحي اللاذقية مهمة ثقيلة تصيب القلب بالاضطراب، وتمرّ خلالها اللحظات طويلة يمتزج فيها الخوف مع القلق مع الشعور العميق بالغربة.
كانت ضاحية حكمها في حقبة الفرنسيين حاكم يهودي فسميت باسمه، وقد تحول اسمها في استخدام غبي للعروبة إلى قرية اليعربية، وهو غبي؛ لأنه يضع العروبة في مقابل اليهودية كضدين على افتراض أنه لا بد لكي يوجد أحدهما أن يقصي الآخر عن حيزه.
وقد ظل اسمها القديم هو السائد، ولعل الإبقاء عليه كان يمكن أن يستثمر استثمارًا حضاريًا يشير إلى عراقة التنوع الديني في سورية، وخصوصًا أن بعض مؤرخي المنطقة لا يقصرون سبب التسمية على دين حاكمها الفرنسي، وإنما يؤكدون استيطانها من جانب يهود منذ زمن ليس بالقصير.
وما كان يثير مشاعر الخوف والقلق عند ما تطأ قدمك تلك القرية ما يرمقك به سكانها من نظرات تربص تشي بتهديد لا تعرف سببه، وهو سلوك مقصود يأتي في سياق الإرهاب الذي زرعه نظام الأسد في سورية مستخدمًا أدواته كلها من أبسطها إلى أعقدها دلالة.
فقد جلب إلى القرية عوائل من طائفته من ريف الساحل، وحكّمهم في شؤون ساكني القرية من غير أبناء الطائفة، ليس عبر النفوذ المستمدّ من دعمه الرمزي لهم فحسب، وإنما من خلال تزويدهم بأسلحة خفيفة لم يكونوا يتوانون عن استخدامها في ارتكاب جرائم بشعة لأسباب تافهة بغض نظر واضح من أجهزة الأمن والشرطة.
كان الشخص المقصود بتلك الزيارة الثقيلة شابًا بسيطًا قادمًا من ريف المنطقة الشرقية أسكنه رب عمله في بيت على العظم بلا ماء ولا كهرباء، وقد اضطر إلى الرحيل إلى الساحل بعد ارتكاب أبيه جريمة قتل في قريته دفعت عائلته ثمنها بانتباذ مكان قصيّ خوفًا من الثأر.
ورمزية اجتماع ريفيين هاربين من عادة مغرقة في تخلفها مع ريفيين قادمين بكل عنفوان السلطة والقوة مدججين بكلّ نتن الطائفية تلخص طرفًا مهمًا من المشهد السوري.
لا شك أن الثورة السورية ثورة حق ضد باطل، وهي مواجهة بينهما تجلت في سلميتها في شهورها الأولى، ولا شك أيضًا أن الريف كان حاملها الأساسي، وأن الريف عانى مظلومية طويلة الأمد جراء ممارسات النظام الأسدي، وكانت الثورة حدثًا طبيعيًا حتّمه طول مكث المستبد، ومرارة الظلم التي يتجرعها المستبَد به.
ولكننا إذا واجهنا حقيقة تحول هذه الثورة إلى حرب أهلية تكاد تذهب بجذوة الحق الذي حملت مشعله عندما صدحت حناجر المتظاهرين بكلمة الحرية، فإننا يمكن أن نجد في اجتماع وجهي الفوات التاريخي الذاهبين إلى أقصى حدوده، عاملًا تفسيريًا لهذا التحول.
فليس غريبًا أبدًا أن يتمترس النظام بكل منظومته الإرهابية التي كان أتباعه في قرية اليهودية تجليًا من تجلياتها الميكروية في مواجهة ثورة السوريين، وليس بدعًا أن يفرز الريف الثائر بكل ما يكتنزه من تخلف نزوعًا انتقاميًا طائفيًا يستمد مرجعيته من إسلام شوّهته نخب تدعي -بدون وجه حق- تمثيله.
في عمليات التجميل التي يمارسها “مثقفون” سوريون مبالغة في الخطأ، وإسراف في خداع الذات، وهما مبالغة و إسراف يشكلان في كل مفصل من مفاصل المأساة السورية شكلًا من أشكال الإجهاز على جذوة الثورة من جهة، ونظيرًا مصنوعًا بتكلف لنكوص ” مثقفين” آخرين نكوصًا بشعًا إلى خنادقهم الطائفية، وانكشاف لسوءاتهم التي طالما حاولوا سترها بشعارات لم تتجاوز أفواههم.
لا يملك أطفال الغوطة رفاهية معرفة الأسباب العميقة لما يجري في حقهم، ولكن يمكن لدمائهم المسفوحة أن تكون وصمة عار على جباه من يملك رفاهية ممارسة عمليات التجميل، ومن يملك صفاقة التنظير للنكوص إلى طائفيته ودفاعه عن نظام القتل والإرهاب.

رئيس التحرير