منذ بضع سنوات، وبعد انطلاقة ثورة السوريين بحوالي العام ذبح العشرات من الأطفال والنساء على يد قوات تابعة للنظام السوري في قرية الحولة التابعة لحمص. كان فعلًا شنيعًا مروعًا -بلا شك- وخصوصًا أنه لم يتم بطرق القتل التي لا تحسم فيها وسيلة القتل النتيجة وتخفّف -بسبب احتمالية نتيجتها- عبء الجريمة على مرتكبها، وإنما اقترفت بوسائل يعيّن فيها القاتل ضحيته تعيينًا دقيقًا ويزهق روحه ذبحًا في تعبير صارخ عن أعلى درجات الحقد على جوهر مفترض في ذهن القاتل يكمن خلف كل عرض يجسده كل طفل من هؤلاء الأطفال وكل امرأة من تلك النسوة.

ولعل دراسة عميقة لنفسية هؤلاء المجرمين لن تكون ناجزة ما لم تنوّع عواملها التفسيرية التي لا تبدأ بالدافع الطائفيّ، ولا تنتهي عند الرضوخ المطلق لأوامر المقدس الذي يمثّله النظام ورأسه. ولكن هذه الجريمة لا تقل بشاعة عن جريمة خنق سكان منطقة بأكملها بالسلاح الكيماويّ، ولا تقل بربرية عن إلقاء أطفال في غياهب السجون حتى بات بعضهم يحسب أن السجن هو العالم الذي لا عالم خلف قضبانه.

إذا تأمل المتبصر في جرائم النظام المختلفة قبل الثورة وأثناءها، فلن تأخذه الدهشة مما حدث في الحولة؛ لأنها ليست إلا حلقة في سلسلة من الجرائم التي تعبر عن طبيعة نظام باتت معروفة لدى من اكتوى بناره من السوريين ومن سلخ عمره تحت وطأة استبداده، ولكن ما يبعث على الدهشة أن جريمة ذبح أطفال ونساء الحولة بالسكاكين لم تحرّض رد فعل دوليًا جديًا، وهو لا يوصف بالجدية ما لم يكن تحركًا باتجاه تخليص السوريين من براثن هذا الوحش، ويكون هزليًا إذا اكتفى بطرد سفرائه من بعض الدول، ويكون مستخفًا بالإنسانية إذا حوّل المجزرة إلى مضطرب تاويلات وأخذ ورد من أجل خلق تبرير واهٍ لسياسة مهزومة.

فإذا كان للجريمة عواملها التي ينبغي عدم اختزالها في سبب واحد، فإن للصمت عليها أسبابًا تتمثل في انكسار الميزان الأخلاقي للمجتمع الدوليّ، وازدواجية معاييره، واقتصار ما ينادي به من شعارات حقوق الإنسان على ماصدق لمفهوم الإنسان لا يشمل إنسان الشعوب المقهورة التي لا تنتمي إلى ثقافة الغرب ولا تتبنى قيمه. فإذا كان للضحايا في ذهن القاتل جوهر مفترض يناصبه العداء ويفرغ ضده سموم حقده، فإن لهم في نظر الصامت على الجريمة جوهرًا مفترضًا يجعلهم غير جديرين باستحقاق حقوق يزعم الصامت أنها كونية، ويرفع العقيرة ليل نهار بتخلف من لا يتبناها تبنيًا حرفيًا. 

لم يكن عسيرًا فهم تهليل أتباع النظام وهم يشاهدون اختناق جيرانهم بالكيماوي وانطلاق زغاريد النساء وهنّ يرقبن انهمار القذائف الكيماوية فوق رؤوس الناس في داريا؛ فهي في ظنهم تحرق إرهابيين يحاربون نظام المقاومة الذي يمثل مؤسّسه في نظرهم مقدسًا ويمثل وريثه وريث القداسة الجدير، وهو مقدس لم يتيسر لأتباعه  رؤيته على حقيقته لكي يموت كما يحدث للمقدس عندما يرى، ولكن كان أمرًا يكاد يكون مستغلقًا  على الفهم الاشتراك في الجريمة عبر الصمت على مقترفها وعدم محاسبته على الفور، ولعل هذا العسر في الفهم يستحيل يسرًا إذا أدركنا أن للجريمة في نظر الصامت عليها مفهومًا يتحدد بدالتين: مصلحته أولًا بمعزل عن أي قيم إنسانية، ونوع الضحية ثانيًا، وهو إنسان لم يبلغ بعد مبلغ الجدارة بالاهتمام به وعدّه مستحقًا للتمتع بكامل حقوق الإنسان.

 فمصلحته تجعله يميّع الجريمة بتأويلات ممكنة نظريًا مفارقة للواقع على الحقيقة، و نوع الضحية تجعله مرتاح الضمير تجاه قتل ضحايا يقيمون خارج السور الذي شيده منظرو الليبرالية الجديدة بين عالم المتحضرين وعالم الهمج المتخلفين.

لم يكن أطفال ملجأ العامرية شركاء في جريمة احتلال الكويت، ولكنهم كانوا هدفًا لصواريخ أصرّ مطلقها على جعلها تخترق جدرانًا بالغة السماكة لكي تحيلهم إلى قطع لحم مشوي، ولم يؤخذ رأي أطفال الحولة في شرعية القيام بالثورة، ولكنهم كانوا هدفًا لحقد الفاعل وضحية لصمت الصامت المستعد لاستنزاف كل قاموس حقوق الإنسان إذا جُرح إنسان يحقق شروط الإنسانية الكاملة في نظره.

لن نكتفي بالنوح على شهداء مجزرة الحولة، ولكننا سنطالب -بسببها وبسبب غيرها- بإعادة النظر في ما يصدّر لنا من مفاهيم، وفي الإصرار على إعادة تأسيسها بما يجعلها كونية أولًا ومنطوية على احترام الخصوصيات ثانيًا  مهما بلغ ضعفنا بالميزان الماديّ، ومهما أفرط المستلبون من أبناء جلدتنا في محاولة دفعنا للاستخذاء ورؤية وجه واحد للعملة وتعتيم الوجه الآخر.

أختم بعبارة سمعتها من أحد المسؤولين الأمميين عندما طرح علينا في أحد اللقاءات سؤالًا: هل تعتقدون أن الموقف الأوربي أفضل من الموقف الأمريكي؟ 

فأجاب أحد الحاضرين مجاملة للمسؤول الأوربي قائلًا: نعم أعتقد ذلك.

ولما كان المسؤول مجاهرًا بإلحاده، فقد رد على المجيب بقوله:

إذا آمنت بذلك فعليك أن تؤمن بالله