على مدار أيام الأسبوع الماضي نشرت وسائل إعلام روسية تقارير واستطلاعات رأي صادمة بالنسبة للنظام السوري، بعد أن ركزت على الفساد المستشري داخل أروقة الحكم في دمشق، قبل أن يتم الكشف أخيراً عن اللوحة التي أشتراها بشار الأسد لزوجته مقابل ثلاثين مليون دولار، في الوقت الذي يعاني فيه السوريون وضعاً اقتصادياً متدهوراً.
المصادر الإعلامية التي كشفت عن قضية اللوحة، أكدت أن عائلة مخلوف، التي تعتبر واجهة النظام الاقتصادية، هي التي سربت قضية اللوحة إلى العلن، رداً على الاجراءات التي اتخذتها عائلة الأسد خلال الأشهر الأخيرة الماضية بحق آل مخلوف، وشملت حجزاً احتياطياً على الأموال، ووضع اليد على مؤسسات تجارية وخيرية مملوكة للعائلة المتنفذة اقتصادياً، ما أدى لتوترات كبيرة بين الأسرتين، انتهت بمغادرة محمد مخلوف، خال بشار الأسد، إلى روسيا، وإقالة ابنه ايهاب من منصبه كمدير للمناطق الحرة في
سوريا.
وعمل النظام السوري على اتخاذ إجراءات جديدة وضعها ضمن سياسات “معالجة ملف الفساد” من خلال اطلاق عمل “لجنة مكافحة غسيل الأموال”. واعتبر أنها اجراءات لا تستهدف عائلة مخلوف بشكل خاص، على اعتبار أن عمل اللجنة طال رجال أعمال آخرين بعضهم منافس لرامي مخلوف، الشخصية المالية الأولى في البلاد.
لكن من الواضح أن الأخير بات يعتبر أنه وعائلته المستهدف الحقيقي من قبل الأسرة الحاكمة، وأن إدراج أسماء أخرى ضمن إجراءات اللجنة التي تؤكد المصادر أن أسماء الأخرس، زوجة بشار الأسد، هي من تديرها، لم تكن سوى محاولة للتغطية على الهدف الحقيقي، وهو ازاحة آل مخلوف من الواجهة وتقويض سيطرتهم على اقتصاد البلاد.
وكانت اللجنة قد أعلنت بالفعل الحجز الاحتياطي على أموال العديد من رجال الأعمال الداعمين للنظام والمقربين منه، بينهم أيمن جابر، الذي تتبع له ميليشيا صقور الصحراء، ومحمد حمشو، أحد أركان النظام الاقتصادية، بل وحتى طريف الأخرس والد أسماء الأسد، بحجة “استيفاء أموال عائدة لخزينة الدولة”، قال النظام إنه تم دفعها، من دون أن يخفف ذلك من حدة التوتر بين عائلتي الأسد ومخلوف على ما يبدو.
وسبق ذلك أن قررت اللجنة الحجز على أموال شركة “سيرياتيل” المملوكة لرامي مخلوف تبعته سلسلة إجراءات أخرى استهدفت مؤسسات ومراكز عائلة مخلوف، إلى جانب إجراءات غير رسمية، ركزت على الترف المبالغ فيه الذي تعيشه العائلة، وقد تم توظيف صور وفيديوهات نشرها محمد ابن رامي مخلوف على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الحملة، التي نجحت فعلاً بإحداث ردود فعل غاضبة داخل الحاضنة الشعبية للنظام.
ويبدو أن الرد على ذلك جاء أخيراً مع تسريب خبر شراء بشار الأسد لوحة فنية من أحد معارض مدينة لندن كهدية لزوجته، مقابل مبلغ ثلاثين مليون دولار، حيث استخدمت الصحيفة الروسية التي كشفت عن هذه القضية قبل أيام اللغة والمصطلحات التي كان إعلام النظام الرديف قد استخدمها للنيل من عائلة مخلوف طيلة العام الماضي، وهو البذخ غير المسؤول، والاستهتار بمعاناة السوريين الذين يعيشون واقعاً اقتصادياً متدهوراً في مناطق سيطرة النظام.
مصادر إعلامية أكدت أن عائلة مخلوف هي التي تقف وراء هذا التسريب، من باب رد الاعتبار، وهي كذلك من سربت لوسائل الإعلام تفاصيل الصفقة المشبوهة بين حكومة دمشق وشركة “تكامل” المنفذة لمشروع البطاقة الذكية في سوريا، حيث كشفت التفاصيل التي تم الإعلان عنها حجم الفساد في هذه الصفقة والأرباح غير المشروعة التي جنتها الشركة المملوكة لمهند دباغ، ابن خالة اسماء الأسد، سواء من أموال الخزينة أو أموال المستخدمين للبطاقة الذكية.
صراع لا يزال غير مفهوم بالنسبة للكثيرين، ومفاجئ بطبيعة الحال للجميع، الأمر الذي أطلق العنان لقراءات مختلفة وتفسيرات متعددة تباينت في مقاربتها بين ما هو عائلي محض، إلى ما هو سياسي يتصل بالصراع على السلطة والتنافس بين المحورين الروسي والإيراني للسيطرة على البلاد.
وقالت مصادر مطلعة في دمشق ل”المدن”، إن ما حصل لا يزال يشكل صدمة داخل أروقة النخبة وعلى الصعيد الشعبي أيضاً، إذ لم يكن هناك من يتوقع أن تتعرض العلاقة بين عائلة بشار الاسد وعائلة خاله محمد مخلوف المتوطدة طيلة عقود حكم النظام لأي هزة فضلاً عن التدهور بهذا الشكل.
وكشفت المصادر عن وقائع أخرى تعبر عن مدى التوتر بين الطرفين ولم يتم التطرق لها من قبل، مثل الحريق الذي طال أحد الفنادق العائدة لرامي مخلوف في روسيا قبل أشهر، واعتبرته العائلة حادثاً متعمداً يقف خلفه آل الأسد، كما أن العلاقة التي كانت تربط بين محمد نجل رامي مخلوف وابنة بشرى شقيقة بشار الأسد، والتي كان ينتظر أن تكلل بالزواج، قد انقطعت بشكل مفاجئ منذ نحو عام.
وتؤكد هذه المصادر أن ما يحصل سببه الرئيسي شعور عائلة الأسد بتنامي نفوذ رامي مخلوف وأشقائه داخل السلطة، إلى الحد الذي يمكن أن يشكل تهديداً للهيمنة المطلقة التي يحكمها بشار وشقيقه ماهر على النظام، وأن هذا الشعور بدأ مع تطور الدعم المالي الذي كانت مؤسسة البستان الخيرية قد بدأت بتقديمه للمنتسبين للجيش وقوات الأمن من أبناء الطائفة العلوية خلال السنوات الماضية.
وكشفت المصادر أن مواجهة هذا (الخطر) لم تبدأ خلال السنة الفائتة فقط، بل قبل ذلك بوقت أطول، وشمل إجراءات اقتصادية وإدارية وسياسية أيضاً، لعل أبرزها تسلم الفرقة الرابعة في الجيش، التي يقودها ماهر الأسد، مهام الإشراف على “مؤسسة المناطق الحرة” بدلاً من إيهاب مخلوف، وتعويم رجال أعمال جدد منافسين لشقيقه رامي، بل واستدعاء آخرين كانوا قد اضطروا إلى مغادرة البلاد قبل ذلك بسبب ممارسات رامي مخلوف التي أوصلت البعض منهم إلى حد الافلاس، مثل نادر قلعي الذي عاد مؤخراً وأوكلت إليه إدارات واستثمارات اقتصادية كبيرة، وكذلك طريف قوتلي الذي أصبح مع شخصيات أخرى في الواجهة التي لطالما ظلت قلعة آل مخلوف المحرمة.
لكن آخرين، وبناءً على تقاطعات تحملها بعض المؤشرات السابقة، يرون أن ما يجري يندرج ضمن صراع النفوذ المحتدم بين روسيا وإيران في سوريا، ويجدون أن تسلم الفرقة الرابعة، التي تعتبر موالية لإيران، الاشراف على مؤسسات ومشاريع اقتصادية كانت تحت سلطة آل مخلوف المقربين من روسيا، دليل واضح على ذلك.
ويضيف هؤلاء إن الإجراءات العقابية الحقيقية استهدفت إلى جانب عائلة مخلوف رجال الاعمال الذي تتركز استثماراتهم الرئيسية في حقلي النفط والغاز المهيمن عليهما من قبل موسكو، مثل سامر الفوز وأيمن جابر، وهم من المحسوبين على روسيا بشكل أو بآخر، الأمر الذي يؤكد سعي عائلة الأسد الواضح لمعالجة هذه الخاصرة الرخوة التي باتوا يشعرون أنهم يعانون منها، خاصة بعد التهميش المتكرر والاساءات العديدة التي مارسها الروس بحق النظام، بما في ذلك تلك التي وجهت لبشار الأسد ذاته.
وأكدت مصادر محلية أخرى في دمشق ل”المدن”، أن النظام، وفي إطار سعيه لمواجهة تنامي حضور الاقتصاديين المدعومين من قبل روسيا، والذين يتخوف من خروجهم عن السيطرة، مع الوهن المتزايد داخل مؤسسات السلطة لصالح كل من طهران وموسكو، لم يجد غضاضة حتى في التعاطي الايجابي مع ملف عم الرئيس الحالي “رفعت الأسد” المنفي من البلاد منذ أربعة عقود تقريباً، حيث تم السماح لبعض أولاده مؤخراً بإقامة مشاريع تجارية في سوريا، علماً أن العلاقة بين آل مخلوف وبين أبناء رفعت الأسد سلبية منذ زمن الآباء.
لكن الصحافي السوري حسام جزماتي يستبعد أن يكون هناك أي دور لأبناء رفعت الأسد في هذا الصراع الذي ما زال غامضاً من حيث الأسباب والدوافع، كما يقول.
وقال ل”المدن”، إنه “من وقت لآخر ومنذ تسلم بشار الأسد الحكم عام 2000 يتم تداول اسم عمه رفعت في وسائل الإعلام والترويج لعودته إلى سوريا، لكن هذا لم يتجاوز حدود الكلام، إذ لا يمكن الحديث عن دور سياسي للأسد العم مثلما لا يمكن الحديث عن دور اقتصادي ممكن لأبنائه في سوريا، إذ أن حضورهم على هذا الصعيد ضعيف جداً، ومن بين ثمانية أولاد ذكور لرفعت يعيش اثنان منهم فقط في سوريا، هما دريد ومضر، الأول من دون نشاط والثاني يمارس أعمالاً تجارية أخذت بالتوسع أخيراً بالفعل، خاصة مع اطلاقه مؤسسة فرعون للحوالات، لكن من دون أن يبلغ ذلك حد وضعه في خانة كبار رجال الأعمال.
وإذا كان جزماتي يختلف بوضوح مع المتحدثين عن دور محتمل أو حضور أكبر لأبناء رفعت الأسد، حتى وإن كان بطلب أو ترتيب من رأس النظام وشقيقه ماهر، إلا أنه يتفق معهم على أن النظام يعيش حالة صراع وتنافس غير مسبوقة لا يمكن إلا أن يكون لها آثار مهمة، أياً يكن سبب هذه الصراعات ودوافعها.
وما بين تبسيط هذه الحرب الداخلية المستعرة بين أركان النظام، واعتبار أنها مجرد صراع أسري سببته حساسيات ونكايات عائلية بحتة، انعكست في النهاية على الحكم وإدارة الشأن العام، وبين التأكيد على أن ما يجري أكثر تعقيداً مما سبق، ويتصل بالصراع على سوريا ذاتها بين الحليفين الروسي والإيراني، تتكشف دورياً تفاصيل صادمة لم يكن السوريون ليتوقعوا يوماً أن النظام ذاته سيكون مصدرها.