ترجمة: ياسين الحاج صالح

هذا النص هو ترجمة للفصل الأول من كتاب الأستاذ غسان الحاج، السياسية المغايرة: الأنثروبولوجيا النقدية والتخيل الراديكالي، وقد خصّنا الحاج بهذه المقدمة الودية للترجمة:

يقول والتر بنيامين إن الترجمة خيانة، ولكننا كلنا نعلم أن الخونة أنواع وأنواع. فهناك من يخون شعبه لحماية نظام ما، وهناك من يخون الأنظمة ليفتح آفاق جديدة أمام الشعوب المحكومة. وكذالك النصوص، فهناك من يترجمها لحمايتها كأنها آيات قرآنية، وهناك من يترجمها لكي يمكّن فيها معانٍ جديدة. أنا واثق من أن هذه الترجمة هي من النوع الأخير. وهذا طبعا ما أتمناه.


وهو ما نتمنى نحن أن نكون وفقنا فيه أيضاً. الدكتور الحاج راجع الترجمة، ووضّح ما كان ملتبساً فيها.

الترجمة إلى العربية: ياسين الحاج صالح.

*****

 

أعتقدُ أن زيغموند بومان هو من لاحظ يوماً أنه إذا كان العالم الأول هو ما يُظهِرُ للعالم الثالث صورة مستقبله في الحداثة، فإن العكس هو ما يحدث في ما بعد الحداثة. تَرِدُ هذه الملاحظة إلى ذهني كلما وجدت نفسي ألحظ بروز ظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية في أستراليا وغيرها من بلدان الغرب، تذكرني بالمجتمع اللبناني على نحو ما تبدى قبل وأثناء الحرب الأهلية (1975-1991).

من المفيد أن نتذكر أن أكثر التحليلات الماركسية للبنان الرأسمالي ما قبل الحرب، كانت ترى أن اقتصاد البلد مشوه ومتدني التطور بسبب ضعف القطاع الصناعي إذا ما قورن بـ«القطاع الثالث»، أي التجارة والمصارف والخدمات والسياحة. واليوم خبرت أكثر بلدن الغرب عملية نزعٍ حاد للتصنيع، وتتسم اقتصادياتها بذلك الاختلال نفسه بالضبط. لا أريد أن أسوق هذه المماثلة بعيداً (إذ أنه لا مكان في اقتصادياتها لدور القطاع المنجمي في الاقتصاد الأسترالي مثلاً)، وأنا مدركٌ أنها مُماثلة محدودة جداً، بل ويمكن أن تعتبر سطحية. بيد أنني أعتقد أن أساس هذه المماثلة حقيقي، ويمكنها أن تفسّر تشابهاتٍ مهمة.

خُذ مثلاً ما شَهدَته أستراليا في السنوات الثلاثين الماضية من ارتفاع في الاستهلاك الباذخ واستعراض الثروة، كان هذا ملمحاً ناتئاً من ملامح البرجوازية المحلية في لبنان في سبعينات القرن العشرين، وليس في أستراليا وقت أول قدومي إليها آنذاك. لكن لم تعد الحال كذلك. وحقيقة أن ثقافة الاستعراض البرجوازية تتماشى تاريخياً مع الرأسمالية الميركانتيلية والمضاربة، وليس مع الرأسمالية الصناعية، تشرح قدراً كبيراً من هذا الواقع. ففي المقام الأول لا يحتاج التجار والصيارفة والمضاربون إلى إعادة استثمار أرباحهم في مشروعاتهم بقدر ما يحتاج الصناعيون، ولذلك لأن لديهم دوماً كثير من المال الزائد «فائض الربح» يخصصونه للاستهلاك الشخصي، وعلاوة على ذلك، فإن المظهر «البراق» لبيوتهم ومكاتبهم وسياراتهم، ولهم هم أنفسهم، هو من لوازم مهن هؤلاء التجار والصيارفة والمضاربين: الواجهة هنا جزء من الحساب، أو، بعبارة بورديوية، استثمارهم في الرأسمال الثقافي هو جزءٌ من عملية تعظيم رأسمالهم المادي. ليس الأمر كذلك فيما خصّ الرأسماليين الصناعيين.

هناك تشابه ناشئ آخر في هذا النطاق، أقله بخصوص أستراليا. فمن الخصائص المثبتة لمجتمعات الرأسمالية المركانتيلية/المضاربة، أن التجار والصيارفة والمستثمرين العقاريين ومن إليهم، أكثر من الصناعيين، يعملون على أن يحوزوا لأنفسهم ممثليهم المباشرين، وفي الغالب محامون يُنتخبون إلى البرلمان من أجل التحكم بالتشريعات التي تعنيهم. وبصورة أعم فإن الدولة كجسم مشرّع يجري تصورها هي ذاتها كمُحكِّم بين مصالح رأسمالية مختلفة، أقل مما كجزء من «وسائل الإنتاج» التي يتبارى المستثمرون للتحكم بها، وهذا يقود إلى ثقافة برلمانية يشيع فيها الفساد. وهكذا، يمكن القول إنه في هذا المجال أيضاً كان برلمان ستينات القرن العشرين اللبناني يُظهر للدولة الأسترالية ولبرلماناتها الفدرالية صورةً مسبقةً عن مستقبلها.

يمكن للمرء القيام بعدة مقارنات ضمن هذا النطاق. لكن هناك وجه تشابه بارزاً أعتبِرُه ذا أهمية خاصة، وهو ما أريد تفحصه في هذا الفصل. يتصل هذا الوجه بالثقافة السياسية الغالبة للمسيحيين اللبنانيين في مواقفهم، ثم في حربهم، ضد «المسلمين» في لبنان في القرن العشرين، وهو ما يقدم للغرب صورة باكرة عن ثقافة سياسية تزداد غلبةً وشيوعاً فيه اليوم. صدمني التشابه بين الاثنتين في بواكير 2004، وقتها كنت مُجازاً إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وكنت أعملُ من جديد على أجزاء من أطروحتي للدكتوراه بغرض طبعها في كتاب. كنتُ انتهيت من كتابة الأطروحة عام 1987، وكانت عن المسيحيين اللبنانيين وكيف تحولوا إلى جماعة محاربة  منذ صعود الرأسمالية اللبنانية في القرن الثامن عشر، حتى المراحل الباكرة من الحرب الأهلية اللبنانية وأثناءها. وكان لافتاً أنني أخذت ألاحظُ أن جوانب من تحليلي للثقافة المسيحية المحاربة كانت ناجعة بالفعل في فهم تحولات الثقافة الغربية الخاصة بالقلق القومي، التي بدأتُ في تفحصها في عملي المعنون:ضد القومية البارانوئية1.

في أطروحتي، كنت أشرت إلى التشابه بين النّفَس الحربي للمسيحيين اللبنانيين، وبين ذاك الخاص بالبيض في جنوب أفريقيا في سنوات الفصل العنصري، فضلاً عن النَفَس الخاص بالصهيونيين في إسرائيل. أظهرت أن الثلاثة يشتركون في تصور أنفسهم نوعاً من الموقع المتقدم للحضارة الغربية في العالم الثالث. ويُفعِمُ الثلاثة تنويعاتٍ من الشعور بالرسالة التحضيرية، وهم معاً يشعرون أن قوة دفع المركز الاستعماري التوسعية (سواء ببعدها الإيديولوجي أو المحتل للأراضي) قد توقفت بعد أن بثت الحركة فيهم. وإنما هذا الشعور بقوة توسعية معاقة، هو ما يُبيح لنا وصفهم بالتكوينات الاجتماعية الاستعمارية الاستيطانيةالمتأخرة. ينبثُّ فيهم جميعاً نَفَسٌ ثقافيٌ دفاعي، ويشعرون بأنهم محاطون بحشودٍ غير متحضرة من الناس، وعليهم أن «يتعاملوا» معهم بأفضل ما يستطيعون، غالباً بأسلوبٍ عنيف و«غير متحضر». وهم يمارسون ذلك دوماً مع المثابرة على تصوّر أنفسهم مسترشدين بما يتصورونها القيم المتفوقة لـ«الحضارة الغربية»، وذلك على نحو ما تقتضي النبالة أعمالاً غير نبيلة أحياناً. يعتقد المسيحيون أن المسلمين عاقدون العزم على تدمير الحضارة الغربية في لبنان (مصورة هنا كحضارة مسيحية/ديمقراطية)، ويشعر البيض الجنوب أفريقيون بالشيء نفسه بخصوص السود (الحضارة الغربية مصورة هنا كحضارة بيضاء)، وكان الإسرائيليون يفكرون بالعرب والفلسطينيين، ولا يزالون، على النحو نفسه (الحضارة الغربية متصورة هنا بوصفها يهودية مسيحية، بتجلياتها الدينية والعلمانية معاً). والطريف أنه وقت كنت أكتب أطروحتي كان لدى الجماعات الثلاثة إيديولوجيون يصورون جماعاتهم وقد تخلى عنها الغرب الذي لم يعد يعرف كيف يقاتل من أجل أعزّ قيمه، وأنه لم يعد لديه حسٌّ بكيف أنه «لا بد للمرء من القيام بما لا بد منه» في الأزمنة العصيبة كي تكتب له النجاة.

وإنما أثناء قراءتي لهذا التحليل المقارن، طفا على سطح ذهني من جديد حِجاج بومان. شعرتُ أن تلك السمات بالذات التي تكوّن خصوصية إسرائيل، جنوب أفريقيا البيضاء، ولبنان المسيحي، بوصفها «ثقافات متحضرة محاصرة» كانت تغدو أكثر وأكثر جانباً من تعريف الثقافات الغربية كلها اليوم. ثقافات القرن العشرين القومية المحاربة تلك، كانت تُري الغرب منذ ذلك الحين صورةً لمستقبله، على نحو ما تحقق اليوم. وبالفعل يُنظر إلى الغرب باطرادٍ اليوم على أنه تشكيل استعماري استيطاني متأخر، موحد وكبير وعالمي، وأنه في وضعٍ دفاعي رغم نمط وجوده التوسعي، ومعرضٌ للخطر رغم قوته وغلبته الماحقتين، ويواجهه، على ما يتصور نفسه، بحرٌ عالمي بدوره من آخرين غير متحضرين، مكونين من إرهابيين وطالبي لجوء. وإنما بهذا المعنى أريد أن أتكلم هنا على عولمة الشرط الكولونيالي الاستيطاني المتأخر.

 

عولمة الخطر الإسلامي

عولمة الآخر الإسلامي حول العالم، على نحو ما تتمظهرُ في كل من الإرهابيين وطالبي اللجوء، هي واحدة من العناصر الحاسمة في تعميم الشرط الكولونيالي الاستيطاني. ومثل كل عمليات العولمة الثقافية، يستدرجُ هذا الشرط عمليات متناقضة من المجانسة والمنافرة الثقافية2. وهكذا بينما تجري مجانسة الإسلام كآخرٍ عالمي خطر، تختلف الخانة التي تجسد الخطر الإسلامي من بلد إلى آخر: آسيويون في بريطانيا (يُقصد بهم الهنود والباكستانيون)، أتراكٌ في ألمانيا، وشمال أفريقيون في فرنسا. وكان اللبنانيون هم الخانة التي تَجسَّد فيها الخطر أول ما تجسد في أستراليا، هذا رغم أن إثنية المسلمين المتصوَّرة هذه صارت متنوعة في القرن الحادي العشرين، حيث اتسعت لتشمل جماعات آسيوية وأفريقية.

العنصر الذي أسهم في بناء تصور «المسلم» ككائن خارج مملكة التعددية الثقافية و«آخريها» المُتَسَامح معهم، هو وجود عدد كبير ومتزايد من «المتدينين جدياً» بين المسلمين. ولا يعني كون المرء متديناً جدياً أنه يتواتر ذهابه إلى المسجد، أو أنه يتمسك بمعتقدات دينية صلبة. ولا هو حتى يعني درجة عالية من الحماسة الدينية. الشيء الأهم الذي يعنيه ذلك هو اعتبار كل أوجه حياة المرء اليومية محكومة بقوانين الرب الذي يؤمن به المرء3. هذا الضرب من التدين (ولنضع في بالنا أن الأمر يتعلق بتدين من هو آخر) هو ما يشكل نفياً جدياً لمنطق المقبولية الخاص بالتعددية الثقافية. لقد وجدت التعددية الثقافية دوماً طريقة لإفساح المجال كي توجد عناصر صغرى من قانون الآخر ضمن القانون القومي الغالب، بل يمكن تعريفها بهذه القابلية. وهنا لا أعني بالقانون المعنى الرسمي للكلمة بالضرورة، وإن أمكن للأمر أن يكون كذلك أحياناً، ما أعنيه هو تصورٌ أُناسيٌ للقانون بوصفه «نظام الأشياء الخاص بالآخر» أو «نمط حياته الخاص». بهذا المعنى يمكننا القول إن التعددية الثقافية تتعرف أولاً عبر علاقتها بالإحاطة أو الاشتمال، يفتحُ القانون القومي الغالبُ فسحةً، أو يوفر «حالة استثناء» إن راقك القول، حيث يمكن لقانون الآخر أن يوجد طالما كان مُشتمَلاً بالقانون القومي. هذه الفسحة التي يوجد فيها قانون الآخر يمكن أن تتغاير في المحتوى والمدى، لكن ما لا يتغاير هو أن الثقافة الغالبة هي الثقافة المُشتمِلة، وأن قانون الآخر هو الثقافة المُشتمَلة.

المشكلةُ التي تبرز مع المسلمين المتدينين جدياً، هي أن قوانينهم في عينهم ليست أقلّ من قوانين الله بالذات. فهي لا تُعادل قوانين جزئية مثل القواعد الخاصة بمطبخٍ قوميٍ محدد، أو حتى قوانين الزواج والقرابة المُميزة لهذه الإثنية أو تلك. الفكرة القائلة بأن لك فسحة تتكلم فيها لغتك وتأكل طعامك وتتّبع طقوسك، هذا طالما أنت تدرك أن هذه الفسحة ممنوحة لك من اللغة الغالبة، من طريقة الطعام الغالبة وما إلى ذلك، هذه الفكرة ليست إشكالية نسبياً، لكن فكرة أن تمنح قوانين الأمة فسحةً خاصة لقوانين الله تعتبر تجديفاً. وبالفعل، هذا الوضع مقلوبٌ في نظر المتدينين جدياً. فقوانين الله هي القوانين الكلية الشمول، وقوانين الأمة المضيفة، أو أي قوانين مماثلة، هي القوانين الجزئية. والمـسألة عند المسلم المتدين جدياً، المهاجر والعامل على الاندماج في الأمة المضيفة، هي مسألة إيجاد فسحة في قوانين الأمة ضمن قوانين الله الكلية الشمول. هنا تنقلب علاقة الثقافتين المشتمِلة والمشتمَلة التي تقوم عليها التعددية الثقافية، وتظهر بوادر عدم قابلية الحكم. وليس عند هذه البوادر ينتهي الأمر، فأن يفكر بعض المسلمين بأنفسهم كمنتمين إلى جماعة أو أمة [بالعربية في الأصل] مسيسة وعابرة للقوميات، هو مما يعطي نكهة أرضية إضافية لنمط العيش تحت قوانين الله، تُحوِّل هذا العيش إلى ضربٍ من عبر-قومية متعالية.

ما يجعل غربيين كثيرين من غير المسلمين يخبَرون هذا التدين كتهديد، هو التطورات السياسية العالمية، المتصلة بالإسلامية العابرة للقوميات.

نقطة انطلاق هذه التطورات، ولعلها لا تزال النقطة الأهم، هي بروز إيران كأمة إسلامية. ولقد أدى ذلك إلى تطور شتى أشكال السياسات الإسلامية العالمية، السنية كما الشيعية. وقد آل الأمر بهذا التطور إلى أن يتضمن ضروباً من الإرهاب الإسلامي.

أسّست الثورة الإيرانية، أيام الخميني بخاصة، حُكمَ قانونٍ يصوّر نفسه جهاراً كضربٍ من إرادة سياسية مسلمة متعالية ومعادية للكولونيالية. وفيما بعد، سوف يجري تصور هذه الإرادة السياسية كإرادة تُمارَس فيما يتجاوز حدود القومية لأول مرة في قضية سلمان رشدي. بدا على حين غرة كما لو أن المسلمين في موقع من يحكم بالموت جهاراً على شخص يعيش في الغرب، ويخضع لحماية قوانين دولة- أمة غربية. وما كان أكثر خطورة على الإرادة القومية الغربية هو أن مسلمين كثيرين، كانوا يبدون رعايا غربيين منصاعين، عرضوا أنفسهم كوكلاء لإرادة مسلمة عابرة للقوميات، عبر الدعوة لتنفيذ الحكم على رشدي بأنفسهم، أو حتى بالتطوع لتنفيذ الحكم.

منذ ذلك الوقت عَرَضت عدة مناسبات أظهر مسلمون فيها أنفسهم رعايا لإرادة سياسية عابرة للقوميات مترابطة مع معاداة الكولونيالية، أي أنها آخرٌ لتلك الإرادة الخاصة بالغرب. وقد مر ذلك بمنعطف بالغ الأهمية مع هجمات 11 أيلول [2001 في نيويورك وواشنطن] وتفجيرات لندن [7 تموز 2005]، وقد أدت إلى تصور أن الإرادة الإسلامية ليس مجرد إرادة «الآخر»، وإنما هي كذلك إرادة العدو. والاهتمام الراهن بانضمام ذوي الجنسيات الغربية المنحدرين من خلفيات إسلامية إلى داعش، بل وبداعش نفسها، شدَّ من أزر هذا الميل عند غربيين غير مسلمين إلى تصور أنفسهم معرضين للخطر على يد آخرٍ إسلامي، عدائي وعابر للقوميات. هذا الميل مركزيٌ في تشريع وإعادة تخيل أمم الغرب كمجتمعات محاربة، وهذا بدوره مكوّن حاسمٌ في بناء الشرط الكولونيالي الاستيطاني المتأخر المعولم.

 

بنية المجتمعات الحربية وثقافتها

ما هي المجتمعات الحربية؟ أول نقطة يلزم إبرازها هي أن المجتمعات الحربية ليس مجتمعات في حالة حرب فعلية بالضرورة، بل هي مجتمعاتٌ مهيأةٌ للحرب على الدوام. هناك توترٌ في العادة بين تصوري الحرب والمجتمع، حيث يجري النظر إلى الحرب باعتبارها حالة انتقالية بين حالتين اجتماعيتين أكثر استقراراً، بينما المجتمع هو بالضبط الحالة الاجتماعية المستقرة. فالكلام على مجتمعات حربية هو الكلام على أحوال اجتماعية تكفُّ فيها الحرب عن أن تكون حالة انتقالية، لتمسي سمةً دائمة للوضعية الاجتماعية. المجتمع في كليته، من اقتصاده إلى ثقافته، يصير جزءاً من إعادة إنتاج حالة الحرب الدائمة هذه.

ولعل الشيء الأهم هو أن ما يجعل المجتمعات مهيأة على الدوام للحرب، هو قلب العلاقة بين آليتين اثنتين من آلياتها المكونة. لكل المجتمعات آليات لإنتاج وتوزيع الحياة الطيبة، أياً تكن الطريقة التي يجري بها تعريف الحياة الطيبة ثقافياً: مادياً، عاطفياً، وروحياً. ويتعين على كل المجتمعات أن تدافع عما تعتبره الحياة «الطيبة»، أياً تكن. وفي كل المجتمعات، بالتالي، يقتضي الدفاع عن الداخل «الطيب» فعل أشياء «سيئة». للدفاع عن الديمقراطية، تقوم المجتمعات بأفعال غير ديمقراطية، وللدفاع عن حكم القانون يقتضي الأمر تعليق حكم القانون في أماكن معينة. وللدفاع عن مجتمع مُحبّ، يقع على المرء أن يكره أولئك الذين يحاولون تقويضه، وعلى هذا فقِس. لقد جرى تنظير متزايد لهذه الأوضاع في الآونة الأخيرة، باعتبارها «حالات استثناء»، سيراً على أعقاب جيورجيو أغامبن وكارل شميت4.

ومرة أخرى، من المثالي أن نفكر بأن الديمقراطية يمكن أن تسود دون حالات استثناء. المسألة ليست ما إذا كان لمجتمعٍ أن يتورط في ممارسات «سيئة» و«استثنائية» أم لا، فكل المجتمعات تقوم بممارسات كهذه. ما تختلف به المجتمعات عن بعضها هو العلاقة بين هذه الممارسات «السيئة» والممارسات «الجيدة» التي تدافع عنها، وتختلف أيضاً في العلاقة التي تميز المجتمعات الحربية عن المجتمعات غير الحربية. ففي المجتمعات غير الحربية تتبع الممارسات الدفاعية «السيئة» أولوية التمتع بالحياة الطيبة، وأولئك الذين يديرون هذه الممارسات يحاولون ضمان عدم انتهاك الحياة الطيبة التي يقع عليهم حمايتها والدفاع عنها. فإن كان عليهم التصرف بصورة «وسخة» لحماية الحياة الطيبة، يضمنون أن يجري ذلك حيث لا يُرى إلا على أضيق نطاق، في هوامش المجتمع مثلاً، في سفارة ما، على الحدود، أو على أيدي «الشرطة السرية» في زاوية معتمة ما. وهم يكدّون كي لا يسمح للأفعال السيئة أن تعكر طيب «الحياة الطيبة» التي يحمونها. فإن كان لهم أن يعذبوا أحداً، مثلاً، يقومون بذلك «تحت جنح الظلام»، فلا يتركون التعذيب يقتحم نطاق طيبوبة الداخل.

Alter-politics

ما يُعرّف الثقافات الحربية هو أن أواليات وممارسات الدفاع «السيئة»، الاستثنائية والمكبوتة تبدأ بالظهور في الداخل «الطيب» الذي يحمون، وتصبح مقبولةً من الثقافة الداخلية، فتلوثها وتؤثر عليها. وتشرع الأواليات الدفاعية تدريجياً في انتهاك نطاق أواليات إنتاج وتوزيع الحياة الطيبة التي يُفترض بها حمايتها، إلى حدّ أنها (أواليات الدفاع) تكفّ عن أن تكون خاضعة لأواليات الإنتاج والتوزيع. ويجري تعويم هذا الانتهاك في المجرى العام للثقافة والحياة الاجتماعية اليومية، ويمكن لذلك أن يبلغ حد الإفراط حيث يقود الدفاعُ عن الحياة الطيبة الناسَ إلى نسيان الحياة الطيبة التي يدافعون عنها، وتغدو الدفاعية العنصر المكون الأساسي في ثقافة المجتمع العامة. وعلى هذا النحو، يصير «شرعياً» النقاش العام العلني عما إذا كان التعذيب ضرورياً لإنقاذ الخير العام.

دعني أُبرز هذه النقطة هنا: ليس الفرق بين مجتمع حربي ومجتمع غير حربي أن أولهما يتورط في التعذيب فيما الآخر لا يفعل. الفرق هو أن أحدهما يقوم بذلك خفية، بينما يشرع الثاني في مناقشة قانونية التعذيب علانية. أي أنه يدمج مناقشة تعليق طيب [أو خيرية] المجتمع في ثقافة الداخل الطيب [أو الخيّر] ذاتها، عوضاً عن تركها محجوبة في ممرات جانبية معتمة. لدينا على هذا النحو مأسسة بطيئة لما يُعتبر في المجتمعات غير الحربية حالة استثناء. عبر جعل الحرب، وهي حالة تعتبر عادةً استثنائية وعابرة، واقعاً متمادياً يعيد إنتاج نفسه، تصير المجتمعات الحربية نماذج بدئية لما صارت توصف أكثر وأكثر بأنها «أحوال استثناء دائمة». هذه المجتمعات تُخاطب نفسها وغيرها عادة على النحو التالي: «لا بد لنا من ممارسة التعذيب طوال الوقت؛ إذ ينبغي وقف هؤلاء الصحفيين والأكاديميين عن قول أشياء معينة، طوال الوقت؛ وعلينا أن نحبس أطفالاً، طوال الوقت. مع ذلك، ورغم أننا نقوم بتلك الأفعال طوال الوقت، من المهم أن تدركوا أنه في العادة والجوهر ليس هذا ما نفعله، بالنظر إلى ثقافتنا الخيرة والفاضلة. في العادة نحن لا نعذب، لا نوقف الناس عن قول ما يعتقدونه، كما أننا نحب الأطفال. نحن هكذا في الحقيقة».

وعلى نحو ما تجري شرعنة حالة الاستثناء الدائمة عبر التمييز بين الخيرية الجوهرية للمجتمع، والشرّيّة العارضة التي اضطر للتورط بها، يقسم مواطنو المجتمعات الحربية أنفسهم إلى اثنين، مواطن عارض ومواطن جوهري، هذا مكون مهم للنفس الكولونيالي الاستيطاني. أَلِفَ المسيحيون اللبنانيون أثناء الحرب الأهلية أن يحاججوا بأن مجرد انشغال بالهم بالتورط في أفعال غير متحضرة حيال المسلمين، هو بحد ذاته برهان على درجة تحضرهم، هذا وإن كانوا ينغمسون حقاً وفعلاً في مجازر طائفية مروعة.

وفي البناء الموصوف أعلاه للمجتمعات الحربية يشغل تصوير الآخر المحارب، العدو، مكانة أساسية. تنتظم هذه المجتمعات عادة حول «آخرٍ شرير» مهم، يتجسد فيه الشر المطلق، وشر هذا الآخر بالذات هو ما يضطر المجتمع الخيّر لأن يتصرف بصورة سيئة، ويقوم بأفعال ليس لديه استعدادٌ لها لولا ذلك. لدى الإسرائيليين كليشيه وطنية رائعة عن كيف أن الفلسطينيين يستفزون حسهم الحضاري، بإجبارهم على ارتكاب فظائع ما كانوا ميالين لارتكابها لولا ذلك. ورغم الاستفزاز الفلسطيني، يُجادل الإسرائيليون بأنهم يقومون بمحاولات بطولية، مواجهين المشاق للالتزام بمعايير السلوك المتحضرة.

هذا النَفَس صار نفساً غربياً عاماً، أقلّه منذ عملت إدارة بوش على إظهار أن اعترافها بعواقب تعذيب السجناء العراقيين في أبو غريب، وتعاملها مع هذه العواقب، يكشف كم أن الأميركيين متحضرون مقارنةً بأولئك العراقيين الذين كانوا يعتقلونهم ويعذبونهم. وبالفعل، تنغمس بلدان الغرب المحاربة، في الشرق الأوسط بخاصة، في أبشع صنوف الفظائع أكثر وأكثر: استخدام اليورانيوم المنضب وأسلحة سامة أخرى، تدمير شامل، قتل أبرياء، وما إلى ذلك. وهي تنتهي دوما إلى «تقصي الحقائق» في هذه الممارسات. ومثلما هو الحال بخصوص ما لا يعدّ من التقصيات الإسرائيلية في مجازر لا تعدّ في غزة، أو في مذبحتي صبرا وشاتيلا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، تعمل هذه التقصيات على إبراز حسٍّ بـ«التميز» عن أولئك البرابرة الذين لا تتمثل أسوأ آثامهم في أنهم يقطعون الرؤوس، بل في أنهم يفعلون ذلك دون القيام بتقصي الحقائق فيما بعد. وبالمنطق نفسه، وإن على درجة أدنى من القسوة، يجري تسويغ اللاتسامح الذي يُواجَه به المسلمون في الحواضر الاستعمارية، على أرضية أن المسلمين هم غير المتسامحين في الواقع، وهم من يتسببون بجعل الناس غير متسامحين رداً عليهم.

خاصية تقسيم النفس إلى نفسين هذه، تسمح للعملية التي تحمي «المجتمع الخيّر جوهرياً» من المجتمع السيئ عرضياً، بأن تنطبق على النفوس الحربية أيضاً. إنها تسمح للمستعمر المستوطن بأن يساند إيقاع ممارساتٍ لاإنسانية على «الآخرين الأشرار»، دون أن يشعروا بأن إنسانيتهم ذاتها وجوهرهم الخيِّر ينالُهما الدمار. «أنا أوافق على أن تعذيب الفلسطينيين ليس شيئاً لطيفاً، لكن فلنكن واقعيين، فالأمور هي هكذا»، يقول الإسرائيلي. «أنت لا تفهم الأمر لأنه ليس لديك أية فكرة عن كيفية التعامل مع أناس كهؤلاء. لو كانت لديك فكرة لأدركت أنه لا علاقة للأمر بكوني شخص سيئ يساند العنف، أنا مضطر لأن أقوم بما أقوم به… هنا… فهذا المكان…»، وهكذا هكذا. ومرةً أخرى، هذا ما اعتاد الجنوب أفريقي الأبيض القيام به حيال السود، والمسيحي اللبناني حيال المسلمين، وبالمثل نطور نحن الرعايا الغربيين على نحوٍ متزايد هذا الموقف الكولونيالي الاستيطاني، لتسويغ تواطؤنا مع التعامل اللاإنساني الذي يجري إيقاعه على الآخرين المسلمين الذين يُفترض أنهم يطوقوننا. ما يصيب طالبي اللجوء، ومن يُحتمل أن يكونوا «إرهابيين» من ممارسات بشعة نتقبلها اليوم، كانت أشياء مرفوضة كلياً وعلى نحو قطعي في السابق.

ومثلما رأينا فوق، ومثلما يعلمنا أغامبن5، يمكن للقوانين أن تقنن تعليق نفسها. لكنها حين تفعل ذلك في الشروط العادية، تبقى على الأقل مشتملة على الفسحات غير القانونية وتبقيها تحت عينها الساهرة. يمكن لحكومة ما أن تسمح لشرطتها السرية بأن تتصرف خارج القانون، لكنها تضعها تحت الرقابة بينما هي تتصرف كذلك. الحال مختلفٌ في البيئات الكولونيالية الاستيطانية، فهنا نشهد خلق «مساحات معتمة» لا يريد القانون حتى أن يعترف بوجودها، يثقُ القانون بأن «قوى الأمن» التي تحكم هذه المساحات ستقوم بالشيء الصحيح. مجتمعات الكولونيالية الاستيطانية ملأى بمثل هذه المساحات المتملصة من حكم القانون ببساطة، بدل أن تجد نفسها مقننة كمساحات للاقانون على يد القانون بالذات. وإنما في هذه المساحات بالذات تبرز ثقافة الإفلات من العقاب على ما يرتكب بحق الآخر الشرير: ثقافة يُتاح للمحاربين في ظلها أن يفعلوا ما يشاؤون بحق الأشرار، منزوعي الإنسانية، مع شعورهم بأنه ما من أحد يمكن أن يوقفهم. في الماضي كانت التجليات الملموسة لمنطق الإفلات من العقاب محفوظةً لأمثلة من العالم الثالث، مثل أفعال الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، والبوليس الجنوب أفريقي بحق المشتبه بارتباطهم بالمؤتمر الوطني الأفريقي. أما الآن فقد تعمم هذا المنطق عالمياً وتسرب إلى كامل الجسم الديمقراطي الغربي، من أبو غريب إلى خليج غوانتانامو إلى مراكز التوقيف الأسترالية سيئة الصيت.

إن كان العنف حيال الآخر الشرير نموذجياً عند كل الجماعات الاستعمارية الاستيطانية  الحربية، فإن هناك شيئاً آخر يُسبغ عليها صفة المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية المتأخرة: إنها الطريقة اللئيمة والقاسية التي تميز طريقة إيقاعها العنف على الآخر. إنه عنفٌ يخص أولئك الذي يشعرون بالتدهور حينما هم يسترجعون قوتهم على الإيذاء. مفهوم نيتشه عن «الإحساس بالقوة» ينقل لنا خاصية هذا العنف جيداً6. في مقابل تصور القوة الموضوعي بوصفها «مقدار قوة» محدداً، «الإحساس بالقوة» هو علاقة المرء بما لديه من قوة، أياً يكن مقدارها. هذه العلاقة تتشكل عبر ما سيسميه بورديو لاحقاً المسار، مسار القوة أو مُنحناها7. فإن كان لدي المقدار س من القوة وأشعر أن قواي تتدهور، فإنني أنشر قواي بصورٍ مختلفة عما إذا كان لدي المقدار ذاته من القوة، لكنني أشعر بقوى تتعاظم. إن كانت قواي في صعود، فربما أجد في نفسي القدرة على إطاقة الشهامة والقول مثلما قال نتشه: «وما طفيلياتي قياساً إلي… فلتنعم بالعمر المديد وتزدهر»8. أما إن كنت أشعر أن قواي تتداعى، فسأجدُ نفسي أنشرها بتقتير وامتعاض، حتى في مواجهة من هم أضعف مني بكثير. ولهذا بالذات، تتسمُ المجتمعات الكولونيالية الاستيطانية المتأخرة بشحٍ ولؤم مخصوصين حيال الآخر. فحتى إن كانت لا تزال متفوقة على نحو حاسم حيال الآخر المُعنصر [المردود إلى «عنصر»ـه والمحبوس فيه]/ المستعمر، فإن جمع القوة الفعلية الكبير مع حس التدهور ينتج ثقافة استعمارية وحشية وانتقامية بصورة قاتلة. وتتلقى هذه الوحشية العون من تكثُّر شكل مخصص من «القسوة»، هو ما يغلب في التكوينات الاجتماعية الاستعمارية الاستيطانية المتأخرة، وقد يُلائم أن نسميه القسوة الذكورية.

الفارق بين القسوة الذكورية والقسوة الأنثوية يمكن التقاطه بيسر عبر واقعة يومية مألوفة: تقع على أرض ملعب المدرسة طفلة في السادسة أو السابعة من العمر، ورغم أنها متأذية على نحو ظاهر، تبدو برزانة غير منزعجة من وقعتها. بعد ساعات حين يأتي أحد أبويها لأخذها من المدرسة، وبينما اندست يدها بأمان في يده/يدها، يتداعى وقارها وتبدأ بالانتحاب، معبرةً عن ألمها الشديد. هنا يواجهنا شكلان من القسوة، أولهما القسوة في الملعب: سأخفي ألمي في داخلي، ولن أعبّر عن مشاعري الحقيقية لأني لا أريد أن أظهر للآخرين كم تأذيت، وكم أنا هشة. هذه هي القسوة الذكورية: أنا قاسية بما يكفي لأخفي هشاشتي عن عيون الآخرين، وكيلا أتركهم يستغلونها وينالون مني. ونرى هنا كيف أنه في هذه التجربة تتجسد رؤيةٌ للآخر كعدوٍ يتأهب للنيل مني. القسوة الثانية معاكسة تماماً لهذه، إنها القدرة على أن يكون المرء قاسياً بما يكفي ليعرض ضعفه دون الخشية من استغلال الآخرين لهذا الضعف، هذه هي القسوة الأنثوية.

وبينما لدينا جميعا القدرة على صنفي القسوة كليهما، تفضل المجتمعات الحربية الأشكال الذكورية من القسوة. وهي تدعو مواطنيها لأن يروا أنفسهم في أوضاع يمكن للآخر أن يستغل أي ضعف يعرضونه فيها: بمظهرهم اللطيف، طلاب اللجوء المسلمين أولئك الذين ينتهكون القانون يستغلون طيبة قلبنا واحترامنا لحكم القانون، المسلمون التسلطيون غير المتسامحين يستغلون تسامحنا وما ننعم به من حرية الكلام، والإرهابيون الديمقراطيون يستغلون ديمقراطيتنا. وعلى هذا النحو يجري حثُّ المواطنين على أن يكونوا قساة، غير متسامحين، غير ديمقراطيين، وأفظاظاً في مواجهة الآخر المسلم. ويمكن لهم أن يقوموا بذلك  إلى حد نسيان معنى أن يكون المرء طيب القلب، متسامحاً، وديمقراطياً. مع ذلك، ومثلما رأينا مراراً وتكراراً، يمكن أن يواظبوا على الاعتقاد بأنهم طيبون ومتسامحون وديمقراطيون في الواقع. وهكذا تُجرَّدُ الديمقراطية من محتواها، وتنقلب أكثر فأكثر إلى ديمقراطية فالوسية [أو قضيبية].

 

الديمقراطية الفالوسية

الديمقراطية الفالوسية [الفالوس هو الأيْر، القضيب كدال عام، كرمز] هي الديمقراطية التي يملكها المرء، وليس الديمقراطية التي يعيشها. إنها ديمقراطية أولئك الذين يقولون: «نحن لدينا ديمقراطية»، وليست ديمقراطية من يقولون: «إننا نعيش ديمقراطياً». وهي ديمقراطية من يريد أن يُري الآخر: «لدي واحد كبير». يقول الديمقراطي الفالوسي للآخر: «ديمقراطيتي كبيرة فعلاً! أما أنت فلديك ديمقراطية صغيرة جداً! لدي تسامح وحرية كلام كبيران كذلك- انظر إليهما!».

الإسرائيليون يفعلون ذلك طوال الوقت في مواجهة الفلسطينيين، يفعله أيضاً المسيحيون اللبنانيون في مواجهة المسلمين، وكذلك البيض الجنوب أفريقيون في مواجهة السود، وهو ما يفعله الغرب اليوم طوال الوقت في مواجهة هؤلاء الآخرين المسلمين المحرومين الفقراء الذين يبدو أنه ليس لديهم حتى واحدٌ صغير. ومثلما أظهر التحليل النفسي جيداً، الفالوس دالٌ فارغ، ويسعه أن يكون رمزاً للأشياء الأكثر أهمية في حياتنا، بالضبط لأنه مفتقر إلى دلالة متأصلة تخصه. لذلك فإن الخطاب الفالوسي: «نحن لدينا ديمقراطية» يغدو ممكناً أكثر فأكثر بقدر ما إن الديمقراطية ذاتها تفرغ من أي معنى حقيقي وعملي، أي بقدر ما تنكمش فعليا الفضاءات التي تُمارس فيها الديمقراطية، وتُعاش في الحياة اليومية.

تجري مضاعفة نسخ منطق الديمقراطية الفالوسية بخصوص رموز عديدة لـ«لحضارة المتقدمة»، وتستعرض أشياء حتى مثل النسوية والمثلية الجنسية. إنها تنويعة لما يُوصف اليوم بعبارة تبييض المثلية والحالة الجنسية. حصل أن كنت أعرف عدداً لا بأس به من اللبنانيين الكارهين للمثلية ممن يعلنون بفخار أمام الأجانب: «شايفين، عندنا بارات للمثليين ببيروت!»، يجري تقديم «عندنا بارات للمثليين» كرمز فالوسي للحضارة التي ليس عند المتخلفين مثلها. والطريف أن كثيرين من جماعة «عندنا بارات للمثليين» يساندون قمع المثلية الجنسية كنمط حياة مفتوح. يسرهم وجود معازل (غيتوات) يستعرضونها أمام الغير، دون أن يكون لنمط الحياة المثلي أثرٌ على حياتهم اليومية. وتطيع النسوية الفالوسية المنطق نفسه، وهي تعاود الظهور كميلٍ في الغرب. يقول النسويون الفالوسيون: «انظروا إلينا لتروا كم أن نساءنا متحررات بالمقارنة مع أولئك الآخرين المسلمين القروسطيين». وهذا يقال في اللحظة ذاتها المتسمة بدعم متزايد للعودة إلى قوانين بطريركية قمعية جداً بخصوص الإجهاض والعائلة.

وكما أظهرتُ فوق، يتناسب إضفاء طابعٍ فالوسي على الديمقراطية أو أي سمةٍ اجتماعية أخرى، مع تفريغها من أي دلالة عملية. تفريغ الديمقراطية هذا في المجتمع الكولونيالي الاستيطاني المتأخر هو أيضاً نتيجة مباشرة للاستبعاد الجذري للمستعمَرين من العملية الديمقراطية، عبر نبذهم إلى مجالات شبه منفصلة من الحياة، أو حصرهم فيها. وهنا من جديد يتبنين العالم الذي يغلب فيه الغرب وفق طراز استعماري استيطاني على نحوٍ مطرد.

 

الفصل العنصري

من الخصائص التاريخية للدولة-الأمة، قدرتها على تحويل العداوة إلى خصومة. ويتمثل الفارق الرئيس بين الأعداء والخصوم في أنه مها تبلغ درجة الجفاء بين الخصوم، ومهما يكن مقدار تفارق المصالح، يبقى الخصمان ملتزمان بإعادة إنتاج الأرضيات الجامعة، الاجتماعية، أو على الأقل المكانية البيئية، التي يجري فيها التفارق والجفاء. ما يميز النفس الحربي للمستعمرين الاستيطانيين هو أنه لا التزام لديهم بأرضية جامعة، أو شعوراً بجماعة ومجتمع مشتركين مع المستعمَرين. يرون هؤلاء كأعداء لا كخصوم. غياب الالتزام بمجتمع واحد هو جزء لا يتجزأ من «التفاصل» الناشئ في قلب عالم الاستعمار الاستيطاني بين واقع المستعمِرين وواقع المستعمَرين، التفاصل الذي يتجلى في عدد من التنويعات على ثيمة الفصل العنصري.

وبالفعل تنجب كل مجتمعات الاستعمار الاستيطاني ميولاً من نوع الفصل العنصري، منشئة انقساماً إلى عالمين مختلفين في قلب فضاء قومي واحد، أكثر مما هي تنشئ انقساماً داخل عالم قومي واحد. وهناك دوماً مجموعة غالبة ومجموعة مغلوبة ضمن كل من العالمين. بيد أن تلك الفوارق ثانوية في أهميتها المختبرة قياساً إلى بروز التقسيم بين عالم المستعمِر وعالم المستعمَر. الانقسام الأخير يقع بين واقعين من الخبرة، وليس انقساماً ضمن واقع واحد.

في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في السابق، وفي إسرائيل بدرجة متزايدة اليوم، ينبني هذان العالمان المنفصلان من توزيع رسمي وقانوني للمكان وفقاً لمزيجٍ من التمايزات الطبقية والعنصرية، وعبر خلقٍ للحدود الفاصلة بين العالمين. يمكن مع ذلك للعالمين المتمايزين أن يتواجدا معاً على نحو عارض، مثلما هو حال الانقسام بين عالمي السكان الأصليين وغير الأصليين في أستراليا.

في لبنان القرن العشرين، ما كان ثمة حدود رسمية تفصل العالم غير المتطور للطبقات العاملة والدنيا عن عالم الطبقات الوسطى والعليا. وفي غياب دولة تحكم وتصون كلية المدينة، تكونت بيروت من رقع متمايزة: بناء خاص للطبقة الوسطى وله بواب وبستاني يجهدان ليبدو البناء ومحيطه نظيفان وأنيقان بقدر الممكن، هذا البناء محاطٌ بأماكن للطبقة الدنيا لا تحظى برعاية حكومية أو خاصة، وتتناثر فيها النفايات. بالانتقال من إحدى الرقع الخاصة بالطبقة الوسطى إلى غيرها تتدبر الطبقة الوسطى أن تختبر المدينة كما لو أنها كلٌ من فسحات كوسموبوليتية متطورة، متعلمةً التغافل التام والتعامي التام عن المواقع القذرة غير المتطورة، التي تضطر إلى المرور بها أثناء التنقل بين رقعاتها الخاصة. كان هذا شكلاً مبقعاً من المكانية يسمح للمرء باختبار أماكن شقته وبنائه ومدرسته وجامعته وموقع عمله وناديه ودار السينما التي يرتادها، كما لو أنها كلٌ مكاني واحد.

أتلبث عند هذه النقطة لأن ثنائية العالمين هذه تصير أكثر وأكثر سمةً للكوكب بكامله، وبُعداً مهماً من أبعاد عولمة النّفَس الكولونيالي الاستيطاني. وهذا صحيح على نحو خاص في شأن طرق السكن المتباينة جذرياً فيما صار يسمى العولمة بين كل من نخب الطبقة العليا والطبقة الوسطى، وبين الطبقة الدنيا المُعنصرة.

الواقع أن ضربي الحدود كليهما يقسمان العالم المعولم. هناك الحدود الوطنية التي تفصل البلدان المختلفة، ثم هناك الحدود الطبقية التي تفصل بين خبرتين للعالم، كل منهما عالمٌ بحد ذاته. من جهة لدينا عالم حيث الطبقة العاملة والطبقة الدنيا المتعددة الجنسيات تعيش، ويراد لها أن تشعر أن الحدود الوطنية بالغة الأهمية ويتعذر عبورها. من جهة أخرى لدينا عالم يجري اختباره كعالم مفتوح وبلا حدود تقريباً، تتمتع به عموماً الطبقات العليا التي تشعر أنها في بيتها في العالم. وهذا يشرح التجربة المتناقضة التي أحالت إليها وندي براون في كتابها: دول مسورة، سيادة متلاشية، تجربةُ انفتاح وتدامج مكاني متزايد مصحوب بتكاثر الأسوار الحامية. لا يرتد الأمر إلى حقيقة أن القدرة على التنقل موزعة على نحو غير متكافئ على ما أظهر الباحثون في «التنقّلية»، هناك من يجولون الكوكب مثل السادة، وهناك من يتحركون فيه كالعبيد. هناك من هم فاعلو النظام العالمي، وهناك من هم مواضيع منفعلة فيه، تتحدد حركاتهم حصراً وفق حاجات الرأسمال. وهناك طالبو اللجوء الذين يحاولون استجماع قدر من الولاية الذاتية agency في وجه القوى العالمية/القومية، التي تستهدف اختزالهم إلى حالة «شيئية». طالبو اللجوء هؤلاء أشبه بعبيد آبقين يحاولون تحرير أنفسهم من النظام العالمي/الوطني للحدود عبر السفر خفيةً، واختراق ما فيها من ثغرات. وهم بالفعل يوضعون في أقفاص، ويعاملون مثل عبيد آبقين حين يمسك بهم.

عندما يُمنع طالبو اللجوء من عبور الحدود، يغلب على ظننا أنهم مُنعوا من عبور حدود وطنية. الأمر كذلك فعلاً، لكنهم في الوقت نفسهم يُمنعون من عبور الحدود بين عالم الحدود الوطنية الذي يجري استعبادهم فيه وإجبارهم على البقاء داخله، وبين عالمٍ بلا حدود يبقى محجوزا للطبقات العليا الاقتصادية والثقافية (فنانون، أكاديميون، ومن إليهم).

فُرضَ علي أن أعي هذه التجربة غير المتعادلة للعولمة أثناء عملي الميداني، وقت كنت أجري مقابلات مع أعضاء في الشتات اللبناني في بلدان عديدة. فمثلاً يذكر اللبنانيون في أستراليا، ومعظم من جاء منهم في القرن العشرين على الأقل ينحدرون من مناطق ريفية وغير متطورة في لبنان، يذكرون أنهم «هاجروا» إلى أستراليا أو أنهم في سبيلهم إلى «الهجرة» إليها. أما لبنانيو الطبقة الوسطى المقيمين في أوربا أو نيويورك أو مونتريال، ممن هم أغنياء بالرأسمالين الاقتصادي والثقافي معاً، فقلما يستخدمون مفردة «هجرة». في الغالب يسأل واحدهم الآخر: «أين تعيش اليوم؟»، وهم يعرضون بجلاء حساً بأن العالم مرعاهم، ولهم الخيار في «العيش» أينما يشاؤون. وتُلقي هذه الواقعة الضوء على مدى ما يطرحه تصور «العولمة» من خبرة موحدة بالعالم، تصور يغبِّش حقيقة أن هذه الخبرة ضئيلة في أحسن الأحوال. ما لدينا في الواقع هو خبرة عالمية بالعولمة، أشبه بالفصل العنصري، منفصلة وغير متساوية، خبرة تنبني قطاعاتها الداخلية وفقاً للعنصر والطبقة والجندر، بصورة مخصوصة في حالة الدوران العابر للقوميات للعمالة المنزلية.

هذه الخبرة امتدادٌ لتاريخ طويل لـ«نظامين عالميين» مايزا عالم ملاك العبيد عن عالم العبيد، عالم السادة الكولونياليين عن عالم العمال المستعمرين، وبالقدر نفسه، وإن لم يكن ملحوظاً دوماً، العوالم السيدة للمستوطنين الكولونياليين عن ضواحي ومُسيّجات ومعازل إثنية لا سيّدة، تكونت من هجرة الطبقة العاملة الحديثة. وتتمثل الخصوصية الاستعمارية الاستيطانية المتأخرة لهذا التقسيم في أن واقع العالم الأخير يعانى بشدة كخطر من قبل العالم الأول، إلى درجة أن الطبقة الوسطى ستعمد إلى نصب حدود تحمي بها خبرتها بعالمٍ بلا حدود.

هذا الانشقاق الأنطولوجي الذي يميز الفضاءات الاستعمارية الاستيطانية، ويعوّض عن امتناع قيام واقع اجتماعي موحد، يتفاقم اليوم بحقيقة أن الرأسمالية النيوليبرالية تبدو محدودة الحاجة إلى مجتمعات وطنية، وإن كانت بالمقابل في حاجة ماسة إلى الدول الوطنية [الدولة- الأمة]. وهو ما حوَّل جذرياً العلاقة بين الدولة والمعرفة السوسيولوجية، أو بالأحرى ألغى العلاقة كلياً. على نحو مطرد صارت الدولة في حاجة تقل أكثر فأكثر للمعرفة السوسيولوجية بما هي كذلك، ما دام بناء الاجتماعي وإعادة إنتاجه لم يعد ذا أولوية في ممارسات الحكومة. وإنما نحو هذا التحول في مكانة المعرفة الاجتماعية، وبخاصة المعرفة الاجتماعية النقدية، أريدُ الآن أن أتحول خاتماً هذا الفصل.

 

التفكير النقدي في المجتمعات الكولونيالية الاستيطانية المتأخرة

على نحوِ ما جرت مناقشته وإثباته من قبل باحثين كثيرين في أيامنا، يجري باطرادٍ إجلاء أجزاء الدولة المتوجهة عادة نحو فهم وتعزيز العلاقات الاجتماعية المشكلة للمجتمع الوطني (دولة الرفاه) والمعنية بالمعرفة السوسيولوجية، وإحلال أجزاء مكرسة لخلق حدود اجتماعية ورمزية (الدولة الأمنية والمركب الصناعي الأمني). حدودٌ مصممة لحماية المجتمعات الجزئية، الخاصة بالطبقات العليا والوسطى من المشكلات الاجتماعية التي قد تصدر عن الفضاءات المفقرة والمسكونة و«الآخرية» أكثر فأكثر9. في زمن غلبة دولة الرفاه كان مرجحاً أن تُفهم جريمةٌ ما ليس فقط بلغة دوافع مرتكبها، وإنما كانت كذلك تُدرج إحصائياً مع جرائم مماثلة، ويجري التفكير فيها على الطراز الدوركهايمي بوصفها «واقعة اجتماعية»، كجانب من مشكلة اجتماعية أوسع يتعين التصدي لها في كليتها من قبل الدولة. أما اليوم فقد تراجعت محاولة معالجة البعد الاجتماعي للمشكلات (وتراجعت معها برامج تكافؤ الفرص التي تتصدى لأوضاع اللامساواة ضمن فئات اجتماعية واسعة). بالمقابل يجري النظر إلى الجريمة اليوم بمصطلحات فردية حصراً، ويحال سببها بالكامل إلى المُرتكِب، فلا تقتضي أكثر من العقاب وحجز حرية هذا الشخص.

ولذلك أضحت المعرفة الفنية الخاصة بكيفية احتواء وضبط والحد من أعراض الأزمة الاجتماعية في عالم الطبقات العاملة والدنيا، للحيلولة دون أن تطفح إلى عالم الطبقات الحاكمة، أكثرَ أهمية من المعرفة الهادفة إلى تحليل أسباب المشكلات الاجتماعية الذي يهم دولة الرفاه الملتزمة بإنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الوطنية. وبقدر ما تنكمش دولة الرفاه، نحصلُ على دولة معنية بإدارة آثار الأزمة الاجتماعية أكثر مما بالبحث في أسبابها. وبينما تترك المقاربة الأولى العلاقات الاجتماعية مكسورةً، ولا تهتم بغير عواقب التكسر، تتغيّا المقاربة الثانية إصلاحها وإعادة بث الحياة فيها. مؤخراَ، مَوضعَ [جيورجيو] أغامبن المنعطف الأمني في قلب الحداثة، ويستحق الأمر اقتباسه مطولاً منه هنا:

انطلاقا من معاهدة وستفاليا [1648، المعاهدة التي أنهت حرب الثلاثين عاماً، وتُعتبر بداية نظام الدول السيدة في أوروبا]، أخذت دول الحكم المطلق الأوربي بإدخال فكرة أن على السيد أن يهتم بأمان رعاياه في خطاباته السياسية. لكن كينيه [من اقتصاديي عصر التنوير الفرنسي «الفيزيوقراطيين» الذين اهتموا بالزراعة، وكان ممن يرون أن الزراعة وتربية الحيوان هم الثديان اللذان ترضع منهما فرنسا] كان أول من أرسى الأمن كتصور مركزي في نظرية الحكومة، وعلى نحوٍ بالغ الخصوصية.

واحدة من المشكلات التي يتعين على الحكومات أن تُعنى بها في ذلك الوقت، هي مشكلة المجاعة. قبل كينيه كان المنهج المعتمد في اجتناب المجاعة هو إنشاء صوامع حبوب عامة، وحظر تصدير الحبوب. ولهذين الإجراءين معاً تأثيراتٌ سلبية على الإنتاج. فكرة كينيه قامت على قلب العملية: بدلاً من محاولة منع المجاعات ارتأى أن تُترَك لتقع، وأن يجري التحكم بها حين تقع، مع تحرير كلٍّ من التبادلات الداخلية والتجارية.

علينا ألا نُهمل التضمينات الفلسفية لهذا القلب، فهي تعني تحولاً مُشكلاً لعصر جديد من عصور فكرة الحكومة ذاتها، بما يقلب العلاقة التراتبية بين السبب والنتيجة. فبما أن حكومة [مصدر فعلي] الأسباب صعبة ومكلفة، فمن الآمن أكثر والأنفع محاولة حكومة الآثار. وأود أن أقترح أن أنظورة [theoreme، نظرية أو عنصر نظري] كينيه هذه هي مسلمة الحكومية الحديثة. كان النظام القديم ancient regime [ نظام ما قبل الثورة الفرنسية] يبتغي حكم الأسباب، أما الحداثة فتزعم التحكم بالآثار. وتنطبق هذه المسلمة في كل نطاق: من الاقتصاد إلى البيئة، ومن السياسة الخارجية والعسكرية إلى الإجراءات الداخلية للشرطة10.

وبالفعل، لها صلة واضحة بطريقة معالجة الحكومات الراهنة لا للمشكلات الاجتماعية وحدها، وإنما كذلك، وأكثر، للمسألة البيئية. أريدُ على كل حال، أن أجادل بأن حكومة الآثار هذه لا تستنفد ذاتها الحِكامة  governmentalityالحديثة. لقد كانت الأخيرة تاريخياً مسألة صراع مستمر بين حكومة الأسباب وحكومة الآثار، بوصف ذلك جانباً مما يسميه بورديو اليد اليسرى واليد اليمنى للدولة11، وإنما قدوم الشرط الاستعماري الاستيطاني المتأخر، متغذياً مما يسمُ النيوليبرالية من التزامٍ بالاجتماعي، هو ما يقود إلى أن تمسي «حكومة الآثار» هي الانشغال الغالب.

يُترجم هذا النقص في الاهتمام بالمعرفة الاجتماعية البنيوية، بتهجمٍ فعليٍ على منتجيها من أفراد (أكاديميين) ومؤسسات (جامعات). ولقد تفاقم اليوم الازدراء الحكومي/الرأسمالي للمعرفة السوسيولوجية، بفعل التهجم المتزايد على العلوم الطبيعية. وبالفعل يمكن القول إنه للمرة الأولى في تاريخ الرأسمالية، قاد تفارق المصالح بين قطاعات محددة من الطبقة الرأسمالية ومنتجي المعرفة العلمية (ويتعلق الأمر هنا بتغير مناخي أنثروبوجيني [منشأه في النشاط البشري]) إلى طلاق خطير بين الرأسمالية والعلم، بما يمهد الطريق لأشكال ممولة رأسمالياً من الظلامية والنزعة الإنكارية فيما يخص المسألة البيئية. الأصوات غير العقلانية المتكلمة بلغة العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، صارت ملمحاً دائماً في البرلمانات الغربية. وهي تعمل على تعزيز النزعات الثقافية اللاعقلانية التي تسم، حسب البعض، النيولبرالية عموماً12.

ومما يسهل هذا الموقف تحولٌ شُوهِدَ في كل المجتمعات الحربية، يتمثل في أن المواطنة تتحول إلى ضربٍ من التجند. هذا التحول محصلة متولدة عن القسوة الذكورية المُحلَّلة أعلاه. يعني التجند شيئاً مهماً: لا تساؤل عن الأوامر، وإنما تنفيذ لها فقط، «فإما أن تكون معنا، وإلا فأنت ضدنا». المجندون ليسوا أشخاصاً يُسمح لهم بالتأمل في موقعهم وبالأوامر التي يتلقون، ولا هم يريدون القيام بذلك. وليس من شأنهم أن يتساءلون: «لماذا أفعل ما أفعل؟»، يجري تقويض الثقافة التي تُسائل نفسها، وقد كانت مكوناً جوهرياً للرأسمالية الليبرالية.

وبالفعل يجري النظر إلى الأشخاص المعنيين بالنظر في أنفسهم كخونة، لأنهم يبددون وقتهم على «التفكير بالفعل» و«التحديق في سرتهم» بدل الاكتفاء البسيط بـ«الفعل». ومن يحاولون الانشغال بالعالم جدياً، وعلى نحو مُسائل للنفس ونقدي، يعتبرون ثرثارين و«أكاديميين» (بدلالة للكلمة الأخيرة تنصرف إلى مرتبة متدنية من الكائن)، منفصلين عن «الحياة الحقيقية». إنهم أناسٌ ينأون بأنفسهم عما هو ملح في الحال القائم، فلا يفهمون ضرورة التضامن دون قيد أو شرط. ويجري تصور نأي المرء بنفسه عن إلحاحية الفعل، وانخراطه بدلاً من ذلك في الثرثرة البليدة، كترفٍ لا يطيقه غير هؤلاء الذين لديهم وقتٌ وفير، والمفتقرون إلى الإحساس بخطورة الوضع الراهن.

ومن هذا الباب يجري أكثر فأكثر تصوير المثقفين النقديين من قبل المعلقين المحافظين، كطبقة ممتازة تتعالى على الناس العاديين وتهزأ بهمومهم. وحتى المؤسسات الدولية ذات الوظائف الانعكاسية (المسائلة للنفس)، المنفصلة عن الفعل، التي تشغل موقع الأنا الأعلى، مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، هذه المنظمات ينالها الكره أكثر وأكثر. يخطب المجند قائلاً: «لا تعظني من فوق وتعطني الدروس. أنت لا تفهم شيئاً من حيث أنت فوق، عليك أن تنزل هنا، إلى الأرض وتقاتل في حرب البقاء كي تعرف ماذا يجري فعلاً. ثرثر قدر ما تريد، لكنك تعيش في عالم هو عالمك الخاص. أما أنا فأتعامل مع العالم الحقيقي».

لكن من منظور المحارب الذكوري الخشن، «العالم الحقيقي» خاوٍ باطراد من طاقاته الكامنة، مما «يمكن أن يكون». عموماً، ومثلما نظّر العديد من الفلاسفة بالعديد من الطرق، يتكون الواقع مما كان، مما هو كائنٌ اليوم، ومما يمكن أن يكون. لكن ما يمكن أن يكون هو النطاق النهائي للايقين وللمجازفة. وقد يصير تنويعة زمنية للخطر المكاني، يمثله الآخر المسلم، هذا الذي يحيط بنا «أكثر وأكثر». وبفعل ذلك ينسحب المواطن المجند كلياً من نطاقٍ كهذا، ويعيش في النطاقات المحافظة الخاصة بـ«ما هو كائن» وبـ«ما كان». وهذا هو ما يسمى عادة «العالم الحقيقي». ويجري نبذُ العمل الأنثروبولوجي النقدي، المرتبط تعريفاً بـ«ما يمكن أن يكون»، باعتباره «غير واقعي». وهو ما يُضاف إلى اعتباره غير مجدٍ في التعاطي مع المسائل السوسيولوجية المتصلة بطبيعة الاجتماعي.

هذا العالم غير المجدي وغير الواقعي، هو ما يستكشفه هذا الكتاب.