باتت معركة إعادة الإعمار في سورية آخر المعارك الكبرى المنتظرة في الصراع السوري المعقّد، وهي المعركة التي تتكثّف فيها رهانات الأطراف المختلفة، وتشكّل الاختبار الحقيقي لإراداتهم السياسية ورؤاهم الجيوسياسية بعد أن جرى توضيب عناصر الصراع الأخرى بطرق مختلفة، تفاوضية وتهادنية، بما يتناسب ومقاربة الأطراف الفاعلة ميدانياً، روسيا، وإيران بدرجة أقل.
في مقابل ذلك، تنازل الغرب والعرب عن متابعة تفاصيل الصراع وطرق تسويته وعملية إخراجه النهائية، وفضلوا عدم مزاحمة روسيا بالحل، ربما لقناعة هذه الأطراف أن أي محاولة للصدام مع روسيا سياسياً وعسكرياً لن يكون لها جدوى بعد ان حقّقت الاخيرة سيطرة شاملة في سورية، حتى أميركا الطرف الغربي الأكثر انخراطاً في الصراع اقتصر اهتمامها على جزئيات محدّدة ومناطق ترتبط بأمن حلفائها في المنطقة.
يتركز الرهان الغربي- العربي على أن روسيا، الطامحة ليس فقط إلى اعتراف هؤلاء بها قوة أساسية في سورية، بل والإفادة من عملية إعادة الإعمار مالياً عبر شركاتها التي ستتولى جزءاً من تنفيذ العملية، ستضطر إلى تقديم تنازلات سياسية تقترب خلالها مع مقاربتهم التي تدعو إلى تصميم عملية سياسية تلحظ مشاركة المعارضة في الترتيبات السورية القادمة وإعادة صياغة نظام الحكم بطريقة جديدة تؤدي إلى تعديل الحياة السياسية في سورية وأن لا تتم إعادة إنتاج نظام الحكم القديم، وهو ما تحاول روسيا الالتفاف عليه عبر تعديلات دستورية محددة تبقي على هيكل نظام الحكم مع خفض صلاحيات رأسه.
وانطلاقاً من حقيقة أن روسيا هي صاحبة الدور الأكثر تأثيراً في سورية، فإن التقديرات يجب أن تنطلق من معرفة الأولويات الروسية وحساباتها للربح والخسارة، وقراءة المعطيات بشكل واقعي وليس عاطفي ورغبوي لصياغة موقف سليم من قضية الإعمار في سورية وموقف روسيا منها.
لا تشكل عملية إعادة الإعمار بحد ذاتها أولوية روسيّة، لا شك في أن روسيا ترغب في إنجاز مهتمها السورية بنحو أفضل وترغب أن يشار إليها على أنها نجحت في إنهاء الحرب وتحقيق السلام وإعادة إعمار البلد، وهي ما انفكت تتباهى بإعمارها غروزني. لكن ذلك، على أهميته، لا يشكل أولوية مطلقة، على الأقل في الوقت الراهن والمدى المنظور، وترى روسيا أن إعادة الإعمار فرصة لمكاسب سياسية واقتصادية ما دامت روسيا قد ربحت من مختلف مراحل الحرب، ويكفي التذكير بأنها في مرحلة القتال كسبت عقود بيع سلاح كثيرة، وفي مرحلة التفاوض على السلم أصبحت مركز الاهتمام لدول الشرق الأوسط، وهي تريد استثمار كل مرحلة إلى أقصاها، ومرحلة إعادة الإعمار لا زالت تنطوي على فرص كثيرة يستلزم استثمارها. بالإضافة إلى لذلك، لم يمر وقت طويل على عودة روسيا إلى الفاعلية الدولية وقد وفرت لها الساحة السورية هذه الفرصة، وبالتالي فهي لا تزال في طور اختبار الممكنات والفرص التي تتولد عن هذا الوضع بعد غياب دام عقوداً.
في سبيل ذلك، سوف تناور ورسيا في هذه المرحلة في مواجهة الغرب والعرب، وسوف تطرح إجراءاتها باعتبارها تنازلات أو مقدمات للحل في سورية، مع إيصال رسالة بأن هذه الإجراءات ستكون مفتوحة على آفاق كثيرة شرط عدم مطالبتها بضمانات خطية ولا استعجال بهذه الإجراءات. الاستعجال المطلوب هو الانفتاح على الأفكار الروسية والتعامل الإيجابي لها لأن ذلك سيشكل المفتاح لفتح الآفاق المرغوبة.
على الأرض ستحاول روسيا إثبات أن إعادة الإعمار مصلحة غربية وعربية أكثر منها روسية سورية، فهي عدا عن كونها ستجعل هؤلاء شركاء في صنع مسارات الأمور في المنطقة، فإنها بلا شك ستفيدهم اقتصادياً، كما أن الغرب والعرب، على السواء، الذين لا يريدون وقوع سورية تحت سيطرة إيران، عليهم ترجمة ذلك في مشروع إعادة الإعمار وبإجراءات عملانية تؤدي إلى تقوية مواقعهم وتقوية الدولة السورية وليس فقط عبر الضغط على روسيا لتحجيم نفوذ إيران والذي يبدو أنه طلب غير واقعي في هذه الظروف.
غير أن المناورة الأكبر والتي بدأت روسيا بالقيام بها، تتمثل في إيصال رسالة إلى الغرب والعرب أن لديها بدائل عن مساهمتهم في هذا المجال، وهذه البدائل تتمثل في شركاتها وشركات إيران والصين. صحيح أن العملية ستتأخر نظراً لنقص حجم التمويلات وستنطوي على مشكلات فنية لكنها في النهاية ستنجز.
من جهة أخرى بدأت روسيا السماح لبعض المناطق التي عقدت مصالحات بإدخال مواد البناء لترميمها ما يعني أن جزءاً من العملية سيضطر السوريين إلى القيام به وإنجازه كيفما اتفق ليستطيعوا ممارسة حياتهم ولو بحدودها الدنيا، وهو شكل تلفيقي لإعادة الإعمار.
في ظل هذه الوقائع، بالإضافة إلى ظهور مؤشرات عن تسابق الشركات وبعض رجال الأعمال في المنطقة على الفوز بحصة من كعكة إعادة الإعمار، الخوف أن لا تجد روسيا نفسها مضطرة لتقديم تنازلات جوهرية في الحل السياسي المرتقب بما يؤدي إلى تبخر الرهانات على عملية إعادة الإعمار لإعادة التوازن المفقود في سورية.

* كاتب سوري