م. أسامة شاكر

جرت أحداث هذه القصّة في جناح المعتقلين السياسيين بسجن حلب المركزيّ (المسلمية) عام 1983

جلس القرفصاء أمام الطناجر، وراح يعاين إحداها. تـأملها، نقرها بإصبعه وأجال نظره في بقية الطناجر. التقت عيناه بأبي حسن الذي كان يفرغ أكياس الفاكهة والخضراوات ويصنفها. المكان ضيق والذي وصل في زيارة الشهر يكفي لمدة ثلاثة أيام
:خطا أبو حسن وهو يبحث عن موطئٍ لقدمه بين الأكياس والمواعين. اصطدم به فقال غاضباً
.يا أبا حمدان كلنا جائعون. اجلس على فراشك، فلن نستطيع القيام بشيءٍ إذا لم ترتب الأشياء

أمرك أبو حسون
ابتعد قليلاً، ثم قرفص ثانية، وأسند ظهره إلى الجدار الخارجي للمطبخ. لف ركبتيه بيديه، وأمال رأسه ليسحب أنفاساً من سيجارته التي لا تقف بين أصابعه بحركة متواترة. رفع رأسه ونادى باسماً: أبو حسن!
الآن وقتك؟
– لمن هذه الطنجرة؟
أدار أبو حسن الطنجرة وأمعن فيها ثم قال: هذه لعزيز!
:خرج عزيز من المطبخ يزرزر بنطاله. اقترب منه أبو حمدان قائلاً
.مرحباً أبو العز
أهلاً أبو حمدو، هل جاءتك زيارة؟
.بلى
.ما شفت أهلك على الشبك اليوم. كان الازدحام شديداً، فقد شاركنا الزيارات سجناء الأمن العسكري
.تمشيا جيئة وذهاباً في المكان المتروك بين الفرش المرصوفة على امتداد جداري المهجع الذي لا تتجاوز مساحته الثمانية أمتار بخمسة
المهم كيف أحوال الوالدة؟
الله يكون في عون الوالدة. ثم استطرد مقهقهاً: هذا الملعون أبو زفت أبو عبدو السجان قال لها اذهبي إلى رئيس المفرزة يخرج لك ابنك من السجن. فتركتني على الشبك، وذهبت تبحث عن رئيس المفرزة. أنا أناديها وابن الحرام يضحك
يعني أنها تصدق إن قلتَ لها إن رئيس المفرزة أخذ الطنجرة؟
– أية طنجرة؟
.الطنجرة التي جلبت لك فيها الطعام
ولأيّ شيء تريدها؟
– تلزمني في أمر -صمت للحظة- أريد أن أصنع منها عوداً
انفجر عزيز ضاحكاً وسأل: عود؟ تتكلم جد؟
.والله جد
.نظر إليه مبتسماً غير مصدق وقال: على حسابك الطنجرة وأصحاب الطنجرة
***
سمع أبو حمدان صوت عجلات عربة الطعام. اقترب من الشبك الفاصل بين المهاجع والممرّ. وقف على رؤوس أصابعه. ألصق جسده بالقضبان محاولاً النظر إلى نهاية الممرّ وقال
.جاءت العربة بسرعة اليوم. لا أحد يريد طعام الدولة
وصل محمود السجين القضائي وهو يدفع العربة أمامه، ثم صاح: مهجع ثمانية، تريدون طعام؟
كان محمود يقدم خدمات مأجورة للسجناء السياسيين، لأنهم لا يخرجون من مهاجعهم أبداً ما عدا يوم الزيارة. وقد تناوب الكثير من السجناء القضائيين على هذه الخدمة بسبب الخلاف على الأرباح بين السجانين
سمع محمود الجواب بالنفي فتابع سيره. استوقفه أبو حمدان
لحظة محمود، أريد أن تؤمن لي سحارة
والله صعب. لا يسمحون أن نمد أيدينا على شيء
:مد أبو حمدان يده، وقدم له ورقة نقدية. تناولها محمود وهو يقول
إن شاء الله. مهجع تسعة، تريدون الطعام؟
:صاح أبو حسن من آخر المهجع
.والله يا أبو حمدان نقود التروست ليست لشراء السحارات وحرقها وتحضير الشاي
.ابتسم أبو حمدان: طوّل بالك أبو حسون. ليست من أجل الشاي
قال عزيز: يريد أن يصنع عوداً
فتح أبو حسن عينيه ونظر إلى أبو حمدان متسائلاً: عود؟ ثم حرك يديه علامة الاستغراب وتابع عمله.
***
قال أبو حمدان: أين السحارة يا محمود؟
– السحارة؟ ما في سحارة، شافها سجان الأمن العسكري على عربة الطعام، فرماها وسألني إلى أين تأخذ السحارة
منذ أربعة أيام وأنت تقول لي هذا الظهر وهذا المساء وغداً، وبعد ذلك تقول رماها السجان. معقول سحارة ما تحسن تدخلها يا محمود؟
والله يا أخي رماها -ومد يده إلى جيبه وأخرج القطعة النقدية- هذه نقودك، عندما آتي لك بالسحارة أعطني إياها. لو نقدر نخدمكم بعيوننا، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة
اترك النقود معك. وعندما تأتي بالسحارة، فكها أولاً من المسامير وحطّ الخشبات تحت برميل الطعام وهات المسامير معك. والغراء، ألم تشترِه بعد؟
.الغراء أمره سهل، أضعه في جيبي
.والتيل يا محمود، لا تنسَ التيل
.وهنا تذكر محمود، وأخرج التيل من جيبه، وأعطاه إياه
– على راسي يا محمود. لا تظن أن حسابك انتهى. حسابك محفوظ
***
صفّ ألواح السحارة على الأرض المبلطة، ثم جمعها وهو يهمهم راضياً ووضعها تحت الفراش. استلقى على الفراش واضعاً رجلاً فوق رجل. أخذ يداعب الحائط بطرف أصابع رجله، أشعل سيجارة وأسند زنده على جبينه. يتخذ الدخان أشكالاً بارتقائه، ثم تذوي أشكاله وتتحد. يحضن العود ويلامس الأوتار فينتابه فرحٌ ممزوجٌ بمحاولة استعادة اللحن. يدندن في داخله فيصعد النغم هادئاً ضعيفاً وتتحرك شفتاه. يزداد النغم وضوحاً فينتقل من الاستلقاء إلى الجلوس ملامساً الحائط بظهره المحدودب. يضع ذقنه بين ركبتيه ويحيط ساقيه بيديه. يرفع عينيه المترعتين بالانفعال والفرح
ما لك أبو حمدان توقفت. أكمل؟ وأكمل القائل من عنده مشجعاً
تابع أبو حمدان الغناء وقد صار صوته مسموعاً. يسود الصمت، تنتقل الأغنية إلى الإيقاع الراقص. يصفق البعض وينهض أبو حمدان للرقص مفرقعاً بأصابعه في حركاتٍ أقرب إلى البلاهة أو السكر. يستمر الغناء الجماعيّ، يزداد التصفيق انسجاماً وتزداد حركات أبو حمدان توافقاً مع الإيقاع. يهبط الإيقاع، ينطلق صوت هيثم البدوي راعشاً قوياً. تكفّ الأيدي وتكفّ السحن عن مضغ لحظات السجن. يتهادى الصوت صقيلاً رخيماً.
***
جلس أبو حمدان في المطبخ حتى لا يراه السجان أو يسمع الصوت. وراح يثقب أطراف طنجرة الألمنيوم بمسمارٍ مستخدماً خشبة الفرم في الطرق. طار المسمار أكثر من مرّةٍ وسقطت خشبة الفرم على أصابعه مرّات. لم يكن يأبه لذلك فقد كان انتباهه مركزاً على الجهة التي يطير إليها المسمار. احتل المطبخ مترين بمترين من زاوية المهجع، وقد اقتطع منه نصفه من أجل المرحاض والحمام. وتكدست في زاوياه وعلى حوافي القواطع أغراض سبعة عشر سجيناً. حتى زوايا المرحاض ترى فيها أشياء ضرورية لا غنى عنها، وهي تلامس مؤخرتك عند قضاء الحاجة
كان خوفه أن يطير المسمار إلى جهةٍ يصعب العثور عليه فيها، أو يهرب من تحت شق الباب إلى داخل المهجع فيدخل بين البطانيات. حينها يحتاج الأمر إلى إنهاض الآخرين من فرشهم. وكان حرصه على خشبة الفرم أن تنشطر لا يقلّ عن خوفه على المسمار، فلم يوافق أبو حسن على إعارته إياها إلا بعد جهدولأي، فالحصول على أخرى يستغرق وقتاً ويكلف التروست مصروفات إضافية
أنهى أبو حمدان تثقيب الطنجرة بما يلائم خطة عمله. وعندما جلس إلى طعامه تناوله برفقٍ شديدٍ، فأصابعه لم تكن تطاوعه على الإمساك بالخبز جيداً وغمسه في الصحن. ومع تناول اللقمة يرفع رأسه إلى الأعلى خوفاً من أن تسقط من بين أصابعه
:أعاد خشبة الفرم قائلاً
سليمة أبو حسن، لربما أحتاجها قليلاً فيما بعد، ولي طلب آخر، أريد القطاعة
رفض أبو حسن رفضاً قاطعاً السماح باستعمال القطاعة، فهي تقوم بخدمة المهجع على أكمل وجه، ومن المؤكد أن استعمالها في أمورٍ لا علاقة لها بالطعام سيثلمها ويلويها
حصل أبو حسن من محمود على عدة أغطية من التنك لعلب المربيات بسعر لا يضاهى، فهو إن أخرج شيئاً من مال التروست، فبعد مماحكة وتقليب نظر. وقد عرفه المتعاقبون على الخدمة نداً لا يستهان به، وسلّم له رفاقه في أسلوب حرصه وإدارته رغم استياء البعض من تشدده. وأكثر ما كان يمضّه هو تبديل فرشاة الأسنان، وعدم تقصير الشعر جيداً عندما يؤتى بالحلاق، أو دفع إكرامية زائدة لمحمود أثناء الزيارات قبل دخول نقود التروست تحت هيمنته. أما إذا قدّر أن الأمر ضروري فهو يدفع كل شيء حتى لو أدى ذلك إلى إفلاس التروست. لا يناقش في ثمن الأدوية، أو الألبسة الداخلية في مطلع كل شتاء، أو ثمن الكرتون الذي يوضع بين بلاط المهجع والفرش من أجل امتصاص الرطوبة المتولدة من برودة الجو وحرارة الأجسام، أو شراء الناموسيات لدرء جيوش البعوض المهاجمة في فصل الصيف، أو الرشوة السخية التي تدفع من أجل إدخال كتاب. إذ لا توجد إمكانية إدخاله في كل زيارة، ناهيك عن أن الكتاب يقرؤه الجميع
تناول أبو حسن خشبة الفرم، وقام بتطريق دوائر التنك على بلاط المهجع، وقدّم واحدةً لأبي حمدان
تابع أبو حمدان جهوده مع سحارة الخشب. تأمل أطوالها، جسّ متانتها واختار أنسبها لذراع التوزيع. رسم بالمسمار على الألواح. أحكم الأماكن المهترئة من الألواح في وسط الطنجرة ليسهل عليه حفر دائرة الأصوات.
لم يكن أبو حمدان من الذين يبدعون في الأعمال اليدوية، فغسل كأس أو صحن يتطلب منه شحذ إرادةٍ وبذل جهدٍ غير محبّب. هكذا عوّدته أمه المتفانية في خدمة أسرتها، وهكذا عوّده أبوه الميسور نسبياً في تأمين متطلباته
أما إن هو أقبل على القراءة دخل في غيبوبة عن العالم المحيط، تتقاذفه الأحرف وتنأى به الكلمات، فلا ينتزعه من ملكوته اللغو واللغط من حوله إلا إذا وصل حدّ الشجار، أو جاءه ضيفٌ يجلس على فراشه ناشداً عنده السلوى في الحديث، أو إذا جاء دوره في لعب الشطرنج. فالمهجع لا يملك إلا واحداً تم صنعه من العجين. وكثيراً ما ينتابه الشرود وتتخطفه الأفكار فيحلق في هموم العالم باحثاً عن حلول، فحيناً تراه يكشر عن ابتسامة عريضة ساخرة فالمسافة كبيرة بين الحلم والواقع، وطوراً تأسره الفكرة فينساق في تداعيات لا يعرف إلا الله مداها ويعبّر وجهه عن هم واستغراق ويأخذ لسانه يلوك حافة شاربيه. وقد ترهق النفس ويتعب الذهن، فيعبّ أنفاساً عميقة تساعده على الهدوء ويترنم بألحان تجلب له السكينة.
لم يكن أحدٌ يضاهيه في مقدرته على تعلم الإنكليزية، وصبره عليها، ودقته في النطق بها، وهو الطالب في السنة الثالثة أدب إنكليزي. ولقد حصل والده بشق الأنفس على موافقةٍ من قيادة الفرع لإدخال معجم وعدد من الروايات والكتب بالإنكليزية، فكانت له في سجنه برداً وسلاماً. ولم يكن أمر إدخال الكتب إلا حلماً راود الجميع، أما أن يتحقق ذلك فهذا يعني أن حجم الوساطة يكفي لإطلاق سراح سارق أو قاتل. كان يقرأ الكتب بعينيه، ومن ثم يترجمها فقرة فقرة إلى العربية لرفاقه المتحلقين حوله. فإن كنت لا تعرف أنه يترجم، لما ساورك الشك أن بين يديه كتاباً بالعربية يتلوه على طريقة الحكواتي.
تمّ اقتراح أن يعلّم الإنكليزية للراغبين من الرفاق، فكان أبرع معلم، أما أن يقوم بمعالجة الطنجرة وألواح السحارة ليصنع منها عوداً فحدث ولا حرج من  شتائم وإحباط وجروح وقروح
بقيت على موعد الزيارة أيام معدودات وكثيراً ما انتابه الشك في أن تجلب أمه الأوتار التي أوصاها عليها فهي، وإن لم يزل فيها بقية شباب، إلا أن مشاغلها لا تعد ولا تحصى: أحد عشر ولداً على رؤوس بعضهم البعض. أكبر اثنين منهم، هو وأخوه الذي يرزح بجانبه، دخلا السجن في ليلةٍ عمياء لم يحسب حسابها. ناهيك عن أنها كانت تسمح لنفسها بتقدير أهمية الأغراض المطلوبة. أما والده الذي يقف أمام الشبك بقامته المديدة، ينظر إلى ولديه ذاهلاً ويتمتم ببضعة كلمات، فهو لا يعوّل عليه ولا يعرف من مسؤولية البيت إلا الإنفاق مما يكسبه كسباً مشروعاً أو غير مشروع، ومما ورثه من أرضٍ غلا ثمنها في الأونة الأخيرة فأقدم على بيعها. ولم يكن يتصور إنساناً غبياً يقول للسلطة لا، بعد ما حدث من مجازر في المدن السورية. وهذان الفلعوصان يعتقدان أنهما المهدي المنتظر. وكثيراً ما كان يثور في البيت غاضباً ويحمل أمهما مسؤولية اعتقالهما وسوء تربيتهما ودلالها لهما، ويقسم أغلظ الأيمان مرفقة بأفحش الشتائم أنه لن يزور ولديه بعد الآن، وينقطع بضعة أشهر ثم يعاود الزيارة من جديد.
فكر أبو حمدان بالطريقة التي يمكن بها إدخال الأوتار. هل يقول لمحمود؟ ولكنه قد ينسى ذلك في غمرة العمل وإدخال الأغراض التي يجلبها الأهل، واقتطاع حصة السجانين قبل إدخالها إلى أصحابها. كما أنه موضوعٌ تحت الرقابة المشددة في يوم الزيارة، فقد استبدل الكثيرون قبله لأنهم حاولوا إدخال أشياء من دون علم السجانين، بغية الحصول على الإكرامية كاملة من دون مشاركة أحد.
فكر أبو حمدان أن يقول للسجان، ولكن هذا يتطلب مبلغاً محترماً، وهو عرضةٌ للموافقة أو الرفض.
ليست هناك إلا طريقة واحدة، وهي أن تضعها أمه في جيب أخته الصغيرة، ويأخذها منها أثناء العناق، على طريقة إرسال واستلام الرسائل. بيد أنهم لا يسمحون في كلّ زيارةٍ بدخول الأطفال إلى الفسحة التي يقف فيها السجناء، فهذا أمر يتبع مزاج السجان ورضاه أو عدمه. وأحياناً لا تستطيع أن تخمن لماذا سمحوا للأطفال، أو لم يسمحوا. وكم من مرّةٍ عاد الآباء السجناء من الزيارة وفي عيونهم دمعة مخنوقة لأن أطفالهم بقوا على الطرف الآخر من شبكين من دون ملامستهم
***
:اجتاز أبو حمدان الممرّ عائداً من الزيارة وهو يطفح بشراً ويرفع يده محيياً سجناء المهاجع. أقفل السجان الباب خلف أبي حمدان وقال
.اليوم أبو حمدان مبسوط، ما هو مثل غيره بتصير خلقته يوم الزيارة كما -أستغفر الله العظيم
.دخل أبو حمدان المطبخ وأخرج الأوتار من جيبه، وبدأ العمل. مكث حتى ساعة متأخرة من الليل قابعاً في الحمام
.في اليوم التالي، وعند الغروب بدأت التعليقات: يا شادي الألحان هات وأسمعنا
أخرج أبو حمدان العود من كيس الخيش الذي خاطه وطلب من الجالسين بجانب الشبك مراقبة الممرّ. احتضن العود وراحت يداه تلامسان أوتاره. نظر إلى الجميع باشاً ضاحكاً ودوزن الأوتار، همّ أن يبدأ ولكنه عاود النظر إلى الجميع ببسمةٍ عريضة، وقد احمرّت وجنتاه، ثم راح يعزف: يا شادي الألحان هات  واسمعنا
كانت في اللحن عذوبةٌ وسلاسةٌ ويثير الرغبة بالمشاركة، إلا أن المفاجأة أغلقت باب المشاركة وفتحت باب الصمت وعلت الدهشة الوجوه، فلم يتوقع أحدٌ أن ينجح العود إلى هذه الدرجة، ولم يكن أحدٌ يعرف أن أبا حمدان عازفٌ مقتدر. استرسل اللحن يباغت النفوس الذاهلة. شيئاً فشيئاً بدأت النفوس تمتلك ناصية أمرها، وأخذ اللحن يدغدغ ذكريات الطرب القديم. انتهى اللحن وصفق الجميع بهدوء.
!عمر والله عمر يا أبو حمدان
:نهض أبو خالد، أكبر السجناء سناً، واقترب من أبي حمدان وعانقه، والتفت إلى الآخرين بعينيه المغرورقتين، وقال
والله فنان، تسلم إيديك يا أبو حمدو. أنا لما شفتو بيشتغل بالحمام ما قبضت الأمر، وقلت لحالي خلي الشباب يتسلو. أبو خالد إلى مكانه، وجلس على فراشه ماداً رجليه ومسنداً ظهره إلى البطانيات المطوية فوق الوسادة ناظراً إلى الجميع، ولم تزل بقية تأثر تلمع في عينيه
دارت النشوة بأبو حمدان، واشتعل وجهه ألقاً، وأخذت عيناه تنوس ووجهه يعبر عن فرح غامر. سحب نفسين من السيجارة ووضعها بجانبه على البلاط. تناول العود ودوزنه وبدأ (أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي)
ساد الصمت من جديد، فالأغنية تخرس الرعد، وتشعل البرق. استرسل اللحن مع صوت أبي حمدان ذي البحة المتآلفة مع مثل هذه الأغنيات. أصابعه تلاعب الأوتار باقتدار وخفة. بحث عن شيءٍ يعزف به عوضاً عن أصابعه، فلم يجد. جرّب قشرة خشب، ولكنها لم توافقه، وقرّر أن يعزف بأصابعه ريثما يجد شيئاً ما
لم يكن أحدٌ ينظر إلى الآخر. كلهم يمتصّون اللحن، فيمتصّهم اللحن. بدت الوجوه أنحف مما كانت. وكان أحمد المعرستاويّ، أصغر السجناء سناً، يشدّ أصابعه ودفقات البكاء تتصاعد من أحشائه لتصطدم بصمود عينيه اللتين جحظتا
لا أحنّ ولا أمنّ، يحنّك أبو خبيط. هات العود هات!
وقع صوت السجان فوق الرؤوس كالصاعقة. فتح الباب وتقدّم أبو حمدان حاملاً عوده وهو يبتسم ابتسامة شاحبة.
من أين أتيت به؟
.شرح له متلعثماً باقتضاب
!اجلس مكانك
تناول السجان العود بين يديه، تأمله، نقر بأصابعه على الأوتار، ثم تبسم ساخراً. نظر إلى الوجوه فرآها شاحبةً ترقبه بغضب مكتوم، وربما لم ير شيئاً. قهقه وخبط بالعود على القضبان فتهشم العود وراح يقهقه
:ساد صمت الفجيعة. قال ياسين ولهجة السخرية والتحدي واضحة
!تسلم إيديك يا أبو عبدو
.ردّ السجان بغباء، وربما بغباء محسوب:1 الله يسلمك! وأخذ يقهقه
.نظر أبو حمدان إلى ما وراء السجان، إلى النوافذ العالية لجدار الممر، إلى السماء المقتربة من الظلام، ولم يعد يسمع شيئاً مما يدور حوله
.كاد يصرخ. كاد يبكي، ولكنه أمسك