اختارت الولايات المتحدة الأميركية العمل مع حزب الاتحاد الديمقراطي، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (المصنّف على قوائم الإرهاب في حلف شمال الأطلسي)، حليفاً في الحرب ضد تنظيم داعش، مع بدء التحالف الدولي حربه على التنظيم الإرهابي الآخر في سورية، خريف 2014. وقُوبل التصرف الأميركي باستياءٍ من أنقرة ودمشق وبغداد وطهران وموسكو. ولكن لم يظهر رد فعل يدفع واشنطن إلى تغيير موقفها، فأولويات الأطراف المذكورة وأهدافها مختلفة داخل الأراضي السورية، أو لدى كل طرف منها ما يشغله من مشكلات داخلية، بينما الطرفان السوريان (النظام والمعارضة) منشغلان ببعضهما، وجرى إلهاؤهما بجولات محادثات جنيف.
ذهبت واشنطن إلى أبعد من ذلك، عندما أعلنت، بداية عام 2018، إنها تعمل مع قوات سورية الديموقراطية، والتي يشكل عمودها الفقري الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، تشكيل قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف مقاتل للانتشار على الحدود السورية مع تركيا شمالاً، والعراق باتجاه الجنوب الشرقي، وعلى طول وادي نهر الفرات، تراجعت إعلامياً لاحقاً عن تلك التصريحات. واعتبرت واشنطن التنظيم الانفصالي ورقة رابحة، وقوّة يمكن التعويل عليها، قادرة على احتلال المنطقة العربية، وستمنع إيران من الوصول إلى سورية عبر العراق، وعاملته على أنه العنصر المحلي وصاحب الأرض، أملاً في أن يتيح لها ذلك مكاناً على طاولة المفاوضات، لرسم ملامح مستقبل سورية.
تحالُفُ الولايات المتحدة مع الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تنظيمًا إرهابيًّا، دفعها إلى البحث عن مخرجٍ لهذا التناقض، وجدته في تغيير “غلاف” اسم التنظيم إلى “قوات سورية الديمقراطية”، وانضمت عشائر عربية إلى هذا الكيان، طمعًا بمكاسب قصيرة الأمد، وهو ما أكده المتحدث السابق باسم تلك المجموعة المسلحة، طلال سلو، بعد انشقاقه عنها، عندما كشف أن سبب التسمية الجديدة طمأنة تركيا، وفق تصريحات للمبعوث الأميركي، بريت ماكغورك.
ومع بدء دور “داعش” في سورية بالتضاؤل والتلاشي، ومع تغير أولويات الولايات المتحدة أيضًا، بدأت تتّضح ملامح رسم أدوار جديدة لتلك المجموعة المسلحة. وبعد معركة منبج، تجاوزت المليشيات الانفصالية نهر الفرات، في مناطق عربيةٍ تاريخيًا، لا يملك فيها الأكراد أي امتداد تاريخي، أو اجتماعي، أو ديمغرافي.
تدرك واشنطن جيدًا مخاوف أنقرة، ولذلك قدمت تطمينات بأن نسبة القوات الكردية لا تزيد عن خُمْس “قوات سورية الديمقراطية”، لكن الأتراك ومعظم السوريين يعلمون جيدًا أن التركيبة الفعلية لهذه المجموعة المسلحة مغايرة لما يقدّمه الأميركيون من معلومات، خصوصًا أنه لا يخفى على أحد أن تنظيم وحدات حماية الشعب يشكل غالبية هذه القوات، لا بل إنها الآمر الناهي فيها.
يدور الحديث عن أن الأكراد في سورية يشكلون القومية الثانية، وقد يكون هذا كلام حق يُراد به باطل، لإسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سورية، من دون الأخذ بالاعتبار فروقاً كبيرة بين الحالتين، وهي أنهم في سورية لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمال العراق، ديمغرافيًا وجغرافيًا، وسبق وأشار المبعوث الأممي المستقيل، ستيفان دي ميستورا، إلى أن نسبة أكراد سورية (5%)، ولا تمتلك أي تواصل جغرافي بين المناطق الرئيسية التي تقطنها (القامشلي – عين العرب – عفرين)، بالإضافة إلى أنه حتى المناطق التي هي فيها أكثرية لا تشكل أغلبية فيها.
لا يمكن إنكار أن اتفاق إدلب هو حاجة لأكثر من طرف، تركيا أحدها، وليست الوحيدة المعنية بهذا الاتفاق، ولا تقع على عاتقها وحدها مسؤولية تنفيذ اتفاق سوتشي بشأن إدلب. وصحيح أنه اتفاق تم بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان، على اعتبار أنهما طرفان ضامنان في إطار محادثات أستانة السورية عن الطرفين السوريين (النظام والمعارضة)، إلا أن قمة اسطنبول الرباعية (تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا) تكشف أن هناك مسؤوليات تقع على أكثر من طرف بشأن إدلب، إنسانية أو تتعلق بمكافحة الإرهاب، لأن التكلفة الإنسانية لأي عملٍ عسكري شامل وواسع قد تكون باهظة جدًا، بسبب الكثافة السكانية الكبيرة في إدلب (نحو أربعة ملايين نسمة)، بالإضافة إلى موجة لجوء كبرى تهدد دول الاتحاد الأوروبي، كما أن أي عمل عسكري غير مدروس قد يتيح فرصة تسرب الجهاديين حاملي الجنسيات الأوروبية وعودتهم إلى بلدانهم، وهو ما لا تريده تلك الدول.
لا يمكن اليوم إغفال حقيقة أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبل أراضي الجمهورية العربية السورية ووحدتها ليس في إدلب، وإنما في ما بات يطلق عليها مناطق شرقي الفرات، حيث تدعم واشنطن وحدات حماية الشعب، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف على قوائم الإرهاب في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تحت مسمى قوات سورية الديمقراطية، تاركة ملايين العرب، سكان تلك المناطق، يواجهون مصيراً مجهولاً، فلا يخفى أن معظم مناطق شرق الفرات عربية التاريخ والديموغرافيا، ويشكل العرب غالبية مطلقة هناك مع أقلياتٍ أخرى تنتشر في المنطقة كالأكراد والتركمان والآشوريين، ففي مدينة الرقة يشكل العرب أكثر من 92%، بينما تتجاوز النسبة في مدينة منبج 95%. مع ذلك، دعمت واشنطن هناك أقلية عرقية، وقامت بتهميش الأكثرية العربية تحت أكثر من حجة وذريعة، وتركتهم للتهجير، بحسب تقارير لمنظمة العفو الدولية.
وقد سُمعت تصريحات روسية من أعلى المستويات مرتفعة السقف حيال الخطر المتمركز شرق الفرات، وكذلك بدأت تركيا تعد العدة لبدء عمليتها العسكرية الثالثة داخل الأراضي السورية لضرب قواعد الإرهاب، وحماية وحدة أراضي سورية، وحماية أمنها القومي على المدى البعيد، وهي أهداف لا تتعارض مع الرؤية الروسية، وسياسة أنقرة واضحة، لا مكان فيها لكيانات عرقية أو طائفية على حدودها الجنوبية.