هي ليست باب توما التي يعرفها السوريون، والتي كانت مشوارهم المفضل ومدخلهم نحو دمشق القديمة بحواريها وأزقّتها الضيقة وبيوتاتها المتراصفة، وكنائسها العتيقة.
بمظاهر فرحها، بشبابها وصباياها، مكان وطني كبير يلّم السوريين من مختلف الأعمار، والطوائف والمعتقدات، ويربطهم عميقاً باسم دمشق.
المنطقة التي كتب لها الماغوط أغنيةشهيرة:
حلوه عيونُ النساءِ في باب توما
حلوه حلوه
وهي ترنو حزينةً إلى الليل والخبز والسكارى
وجميلةٌ تلك الأكتافُ الغجريةُ على الاسّره ..
لتمنحني البكاء والشهوة يا أمي
ليتني حصاةٌ ملونةٌ على الرصيف
أو أغنيةٌ طويلةٌ في الزقاق

في السنوات العشر الأخيرة، بدأت باب توما تتحول إلى مطعم كبير عبر استثمارات قضت على نسقها الدمشقي القديم، فعبثت بها لغة المال واستثمارات أبناء السلطة، وتحولت بيوتها القديمة إلى كافتيريات ومطاعم.
لم تتوقف لغة المال عند هذا الحد، فقد تسللت إلى قلب المدينة القديمة وبدأت مافيا العقارات بعروضها المغرية لإفراغها من ساكنيها، وبالفعل تم إغراء الكثيرين بالمال واخراجهم، وافتعلت المشاكل لمن رفض، وتوقفت محافظة دمشق عن تخديم الأهالي للضغط عليهم وخصوصاً المسلمين الذين بدأ عددهم يتناقص، بينما بقي سكان المنطقة المسيحيون متمسكين بها كونها تضم عدداً من أهم الكنائس والمعالم المسيحية ككنسية (حنانيا) رائعة الجمال.

بدأت الثورة ودخل الحراك الشبابي المسلم والمسيحي منطقة باب توما، وتحولت بعض شوارعها وجدرانها إلى دفاتر لكتابة شعارات الثورة.
تنبه الأمن السوري للموضوع، وبدأت آلته الشيطانية بتخويف الأهالي المسيحيين من الموت القادم من الغوطة والمليحة، وأن المسيحيات سيكون مصيرهنّ إما الحجاب أو القتل والاغتصاب وربما البيع بين أشجار الغوطة التي تحتضن التطرف والوهابية، طبعاً كان النظام السوري واضحاً لجهة أن من يقصدهم بالمتطرفين هم فقط السنّة، وعلى هذا تسلمت المنطقة كتائب ابو الفضل العباس الشيعية التي بدأت مشوار جهادها بالاعتماد على أبناء (حي الجورة) الحي الصغير البسيط الشيعي الفقير.
لكن أبناء حي الجورة الذين حملوا السلاح وتطوعوا بكتائب البعث واللجان الشعبية وكتائب أبو الفضل العباس سرعان ما بدؤوا يدبون الرعب في قلوب أهالي باب توما، بعد أن صارت منطقتهم تتشّح بالرايات السود والخضر الطائفية، وعلت أصوات اللطميات على اصوات أجراس الكنائس، وتحولت صور حسن نصر الله والخميني إلى أيقونات أخفت وراءها تماثيل العذراء في الاحياء الفقيرة التي كانت توضع في زواياها تماثيل صغيرة للعذراء مضاءة بشموع الأهالي والمارة، وانتشرت الحواجز و دوريات اللجان الشعبية أمام كل مفترق طرق، وبدأ الرعب يدخل قلوب المسيحيين الذين لا خيارات كثيرة أمامهم.
باب توما الآن لا يمكن أن يتخيلها عقل سوري كان يمر بشوارعها، هي خط تماس، وهاون يومي، وشوارع شبه فارغة سوى من الشبيحة والمرتزقة العراقيين، وتمت عملية زرع الخوف بنجاح في قلوب الأهالي، وقيل لهم نحن نحميكم من التكفيريين الذين لا يبعدون كثيراً بين بوابة الغوطة وباب شرقي.
قليلة هي الحارات التي نجت من الحصار الطائفي وما زالت تستأنس بزوارها وكنائسها في باب توما، لكن الأكيد أن أهالي المنطقة خائفون وتائهون، فقد وجدوا أنفسهم فجأة في وسطة منطقة الاقتتال، بين مشروع يخافونه ويرون صوره في فيديوهات داعش، ومشروع آخر شيعي لا يقل تطرفاً وإلغائية لهويتهم، وهم يدركون ذلك رغم كل ما يحاول إظهاره الأخيرون أمامهم من وجوه لطيفة تطيح بها لطمية واحدة تتوعد دمشق (الأموية) بالدمار.

ناصر علي – السوري الجديد