يحدث أن تبتلع الصفة الموصوف، وتجوهره عندما تكون منطوية على افتراض مسبّق بأنها تستنفد دلالته، وهو ما يحيلها إلى وعاء كبير يبتلع موضوعه، وهو ما تفعله صفة القومية، وصفة الإسلامية، وصفة الاشتراكية عندما توصف بها الدولة.

هذه الصفات الجوهرية التي تمسخ الدولة، وتجعل السلطة فيها حكرًا على نخبة قومية حالمة، أو ولاة أمر ورعين، أو طليعة ثورية مستعلية لا يمكن لها أن تكون صفات لدولة لكلّ مواطنيها، وهي تشوه أهمّ مكوّنين من مكونات ماهيتها، وهما التجريد والعمومية.

وعلى الرغم من أن من نافل القول أن النظام السوري ناقص الشرعية، وأن فيضًا أيديولوجيًا كان لازمًا لتعويض نقص الشرعية هذا بإضافة محمول القومية  للدولة، فإن ما نريد قوله أن صانعي الاستقلال الذين حاولوا وضع أسس لدولة حديثة غداة الاستقلال كانت أنموذجًا يحتذى في ديموقراطيتها الناشئة لم يكونوا ليتخيلوا مهما بعد بهم الخيال أن تلك الدولة يمكن أن تتحول إلى دولة فاشلة، تحكمها عصابة مجرمة، تستثمر عندما يحيق بها الخطر كلّ الغرائز الطبيعية التي طالما ظنوا أنها سهلة التجاوز، وتدفع بها إلى الخروج من مكنوناتها العميقة إلى السطح بكل عريها، وقبحها، وعنفها.

لا شك أن تجربة المؤسسين ليست خالية من العيوب، ولا منزهة عن الشوائب، والاصطفافات الطبقية، والأيديولوجية، ولكنها كانت محاولة نخبة مدنية؛ لتحويل فضاء السياسة إلى فضاء عام عابر لكل الانتماءات قبل الوطنية.

وربما كان الانحراف عن التجربة الواعدة قد بدأ بنكوص البرجوازية الوطنية عن تحالفها مع الطبقات الفلاحية والعمالية، والاستبدال بهذا التحالف تحالفًا مع ملاك الأرض بعد أن خشوا على مواقعهم؛ بسبب إفراط ممثلي الطبقات الكادحة في مطالبهم، وهو ما جعل الأخيرين يأوون إلى الركن الشديد، وهو عبد الناصر؛ لكسر حالة الاستقطاب، وهو ما أفضى إلى تجربة الوحدة التي تعلّم منها حافظ الأسد أن المركزية الرخوة لا تنفع، وأن مركزية صلبة هي وحدها الكفيلة بابتلاع الدولة والمجتمع، وتثبيت مشروعه الشخصي والطائفي.

ولكن الإشارة إلى هذا الانحراف لا تعني بخس المؤسسين حقهم، فهم لم يكونوا قد انسلخوا عن إنسانيتهم، ولا عن وطنيتهم عندما ارتدّوا عن تحالفهم الأولي الذي دفعهم إلى فضّه إسراف الطرف الآخر في التحالف في مطالبه التي لم تكن ضمن حدود الممكن الواقعيّ.

المهم أن مسيرة التراجع قد بدأت من ثمّ، واستطاع الأسد تكريسها باستثمار الشعار القوميّ الذي لا يعدو أن يكون فيضًا إيديولوجيًا يعوض نقص الشرعية، ثم سهُل عليه الأمر بعد أحداث الثمانينيات التي كرّست سلطويته؛ لكي يجعل من السلوك الطائفي نهجًا علنيًا لا يرعوي عن انتهاجه.

ولأن الوريث لم يرث دولة، وإنما نظامًا مصادرًا للدولة والمجتمع قائمًا على أساس طائفي، فلم يكن يملك من الأدوات ما يواجه به انتفاضة السوريين إلا أدوات استنفار الحقد الطائفي، وهو حقد اعمى لا يبصر في طريقه إلا موضوعات يجنّدها أو موضوعات يسحقها.

 لأجل هذا فإن ما فاه به الرئيس الأمريكي في وصفه لبشار الأسد وصفًا مغرقًا في التحقير هو نتيجة طبيعية لرؤية سلوك إجرامي رشح عن دوافع بدائية لم تستطع المتغيرات تهذيبها، وعلى الرغم من أن الوصف يمكن أن يكون لأغراض سياسية، فقد اختزل سيرورة طويلة من جوهرة الصفة لموصوفها التي بدأت مع صراع أصحاب الأيديولوجيات على السلطة، مرورًا بابتلاع صفة الطائفية للدولة، حتى وصلت إلى ابتلاع صفة الحيوان لموصوفها، وهو نتيجة طبيعية للقعر السحيق الذي وصلت إليه الدولة السورية التي أحال نظامها كلّ مكتسباتها إلى صفر، وأحال رئيسها نفسه إلى موضع للتطاول غير المسبوق في الخطاب السياسيّ.

رئيس التحرير