يمثل التطرف في تفسير من التفسيرات اللافتة ردّ فعل على التطورات المعاصرة في العالم المتقدم، والتي من أهم تجلياتها هيمنة ثقافة الصورة، وظاهرة التبدل السريع، وحلول المرونة في إجراءات العمل وفي الأجور بعد تغير نمط الاقتصاد الكلاسيكي، وتبدل مفهومي الزمان والمكان من مفهومين مطلقين إلى نسبيين يتغيران بحسب زاوية النظر بعد التطورات العلمية التجريبية.
ورد الفعل كامن في محاولة اللجوء إلى ثابت يحمي من عملية التبدل السريع، والاستحالة من شكل إلى آخر، وهو ثابت لا يمكن أن يكون قادرًا على الحماية ما لم يكن متعاليًا، فوق الزمان والمكان.
ولكن الربط الأهم بين هذه التطورات وبين ظاهرة التطرف هو أن ما انبثق عن هذه التطورات من ميل أساسي إلى التصغير، سواء في الانتقال إلى التركيز على المشاريع الصغيرة في الاقتصاد، أم اعتماد الشرائح بالغة الصغر في التكنولوجيا قد أثر في المنفعلين بهذه التطورات من دون أن يشعروا، حيث تجدهم منظّمين في مجموعات متناثرة كلما استهدُفت في مكان، تناثرت بصورة أكبر.
لقد طالت المتطرفين المدفوعين بالخشية من الزوال في عالم متغير نزعة التصغير؛ انفعالًا بتوجه يحكم العالم المعاصر، بينما هم يحاولون الاحتماء بنمط سياسيّ امبراطوريّ موجود في مخيلتهم، وأنموذج فكريّ شموليّ مهيمن على عقولهم.
ما نريد أن نشير إليه أن الهوية التي ساهم العالم في دفع المتطرفين إلى محاولة صنعها باستجلاب لأعنف ما ينطوي عليه الموروث، قد فرض عليهم الوقوع في مفارقة التعظيم للغايات والتصغير للوسائل.
أما الطفل الذي ألقي في زنزانته ينزف دمًا، ويتلوى من آلامه المبرّحة فقد جعله سلوك السجان يندفع إلى أصغر رحم للهوية.
فالاستبداد الذي تواطأ معه العالم كله في إزهاق روح هذا الطفل وغيره، والذي حاول عبر عقود صنع هويات عمومية زائفة معاكسة لمجريات العصر، قد ألجأ هذا الطفل أيضًا إلى التصغير.
فعندما ألقاه المسخ البشري الذي كان يعذبه داخل الزنزانة الموبوءة، وتركه يزحف إلى حيث شريكه في المهجع، الرجل الكهل الذي كان يحدب عليه لكي يضع رأسه في حجره، كان يردد عبارة واحدة:
“عمو بدي إمي”.
وقد استمر في ترديدها كلما تمكن من التفوه بكلمة تقطع أناته، غير ملتفت إلى ما يقوله زميله لتهدئة روعه إلى أن أسلم الروح.
فرق بين التصغير الذي فرضته الرأسمالية المتوحشة على الذين يحاربونها بجعلهم يبحثون عن هوية متوحشة مصنوعة متوهمة، وبين تصغير للانتماء تفرضه همجية الاستبداد يختزله في حضن الأم بعفوية غير مشوبة بأي أيديولوجيا.
الأول تصغير مقترن مع منهج شمولي استبدادي، والثاني تصغير منسجم مع الحاجة العفوية إلى العودة إلى الحضن الدافئ الرامز للإنسانية في تجليها الأموميّ، والانطلاق منه نحو الآفاق اللانهائية.
في عبارة الطفل الذي يلفظ أنفاسه، وقد أثخنته جراحه دعوة إلى الكفّ عن فرض الهوية على الفرد والمجتمع، والشروع في بنائها انطلاقًا من جذورها، وبالاستجابة إلى أرسخ الحاجات الكامنة فينا.
تخبطوا يا صناع الرأسمالية المتوحشة؛ فقد ساهمتم في خلق الوحش المشوّه ذي الرأس الضخم والأذرع المتعددة، فتكفلوا بالقضاء عليه.
أما أنت أيها الوحش الذي قتل أطفالنا في الزنازين وبكل أنواع الأسلحة، فقد ساهم تمثيلك في أجسادنا في كفرنا بهويتك الزائفة، وفي عودتنا إلى هوياتنا المرموز إليها بأجمل كائن في الطبيعة، وأنبل تجسيد للإنسانية، وإن أرواحنا ليست ثمنًا غير مستحق لهذه العودة المباركة.