كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

بعد أشهر أولى قليلة، أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، كانت مؤسسات «المعارضة» السورية الخارجية، خاصة تلك التي استقرت في اسطنبول، قد تمأسست، في صيغة مؤتمرات، ومجلس وطني لاحقاً؛ ثمّ استُقطبت، واستَقطبت ذاتها أيضاً، فتشرذمت إلى ولاءات عربية وإقليمية ودولية، وصارت تابعيات صريحة تارة أو مبطنة طوراً ـ «المعارضة» الأخرى، الداخلية، عقدت مؤتمرها الشهير في فندق سميراميس، الذي سوف تتشرذم مكوّناته بدورها إلى ولاءات وتابعيات مماثلة، أو منضوية «تحت سقف الوطن»، أو مكتفية بصيغة «هيئة التنسيق» التي لن يطول بها الزمن حتى تتشرذم أكثر، من داخل حال التشرذم إياها.
لافت، إلى هذا، أنّ المعارضتَين (دون استبعاد مجموعات أخرى مستقلة عن الطرفين، فضلاً عن معارضين أفراد هنا وهناك)، تقاسمتا سلسلة من التشوهات التي أصابت السياسة والتفكير والتنظير، ولم تغب كذلك عن السلوك والممارسة، وشملت موضوعات حساسة ذات بُعد ستراتيجي، وأخرى أقلّ أهمية وأقرب إلى تغذية التكتيكات الصغيرة. وتلك حال أسفرت، تلقائياً، عن ملفات سجال كثيرة، لعلّ أبرزها دار حول مسائل تسليح المعارضة (وليس «الجيش السوري الحرّ» وحده)، وعسكرة الشارع الشعبي؛ واستدراج المال السياسي («حتى من الشيطان الرجيم»، كما قد يقول قائل)؛ وتجميل التدخل العسكري الخارجي (كيفما أتى، وأياً كانت الجهة أو الجهات التي تتولى قيادته)؛ والتطبيع مع الخطاب الطائفي البغيض الذي يدين طوائف بأكملها (ولا يستثني، أيضاً، المعارضين للنظام من أبنائها، المنضوين مباشرة في مختلف أنماط الحراك الشعبي)…
غير أنّ السجال حول «صدقية» و»مصداقية» الموقف الأمريكي من الانتفاضة، سواء ذاك الذي كانت تعلنه الإدارة، أو يعتنقه ساسة أفراد ليسوا في السلطة، أو يعبّر عنه معلّق سياسي هنا، أو باحث مختصّ هناك؛ كان واحداً من الملفات الساخنة، أو الأسخن في الواقع. في ذلك الطور فات المعارضتَين ـ أولئك الذين في الخارج، ممّن أدمنوا اللقاءات بنساء ورجالات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية والكونغرس ومراكز البحث والاستخبار المختلفة؛ وأولئك الذين في الداخل، واعتادوا لقاء السفير الأمريكي في دمشق، روبرت فورد، أو ممثلي الإدارة في هذه العاصمة أو تلك ـ أنّ جوهر الموقف الرسمي الأمريكي لم يقطع الرأي، البتة، في طيّ صفحة «الحركة التصحيحية»، ولم يستقرّ على سياسة ـ ملموسة وعملية وفاعلة، واضحة ـ تنتهي إلى إسقاط النظام.
كانت سلطة آل الأسد نظام استبداد وفساد في يقين هذه الإدارة الأمريكية، وربما جميع الإدارات منذ انقلاب الأسد الأب سنة 1970؛ وكانت جزءاً من كتلة أنظمة شرق ـ أوسطية بغيضة، في ناظر سادة البيت الأبيض، لكنها ظلّت خادمة وفية للمصالح الأمريكية، وضامنة موثوقة لأمن إسرائيل: بالحديد والنار والمجازر في الداخل، وبالمدافع الساكتة على جبهات القتال. كانت مسألة أخرى مختلفة تماماً، في المقابل، أن تتبنى واشنطن شعار «إسقاط» النظام، لأنّ هذا الخيار سوف يُلزمها بالمشاركة في سلسلة العمليات، السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية، الكفيلة بالتوصل إلى هدف الإسقاط هذا.
كذلك توجّب ألا تغيب عن لوجستيات ذلك الخيار عمليات محفوفة بمخاطر شتى، مثل إقامة المناطق الآمنة، والممرّات الإنسانية، وتأمين خطوط الإمداد في حال إقرار مشاريع تدخل عسكرية، وزرع الوحدات المكلفة بالعمليات الخاصة الحساسة، والارتباط مع الوحدات العسكرية أو المدنية الحليفة المحلية، في طول البلاد وعرضها وليس على خطوط جبهات منتقاة… وهذا كله، وسواه، كان يتناقض مع ما سُمّي بـ»عقيدة أوباما»؛ خاصة بعد أن تبلورت خلال رئاسته الثانية، وأعلنها مفصلة في خطبة عصماء، خلال حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط «وست بوينت»، الكلية العسكرية الأمريكية الأشهر، ربيع 2014. إنها، كما نظّر لها بنفسه، لا تدعو إلى انعزال أمريكا عن كلّ نزاع لا يمسّ مصالحها، أو أمنها، أو ازدهارها الاقتصادي؛ ولكنها لا تنحاز، كذلك، إلى الرأي بأنّ إهمال تلك النزاعات سوف يشكل خطراً على أمريكا، في نهاية المطاف؛ بل هي في موقع ثالث وسيط، بين الاثنين.
قال أوباما: «لا أعتقد أن أياً من الرأيين يتجاوب تماماً مع مطالب هذه البرهة. من الصحيح تماماً أن نزعة الانعزال الأمريكية ليست خياراً في القرن الحادي والعشرين. ولا نملك خيار تجاهل ما يجري خارج حدودنا. وإذا لم تكن الموادّ النووية مؤمّنة، فإن هذا مصدر خطر على المدن الأمريكية. وإذْ تتوسع الحرب الأهلية السورية عبر الحدود، فإن الجماعات المتطرفة، المدرّبة على القتال، سوف تتزايد قدرتها على الوصول إلينا. وأي عدوان إقليمي يتواصل دون رادع، سواء في جنوب أوكرانيا، أو بحر الصين الجنوبي، أو في أي مكان آخر في العالم، سوف يؤثر في نهاية المطاف على حلفائنا، ويمكن أن يستجرّ جيشنا. لا يمكننا أن نتجاهل ما يحدث خارج حدودنا».
ومن جانب آخر، يتجاوز «هذه الاعتبارات الضيقة»، تابع أوباما: «أؤمن أننا أمام واجب، ومصلحة ذاتية الإلزام، في التأكد من أن أبناءنا وأحفادنا سوف يكبرون في عالم لا تُختطف فيه طالبات المدارس ولا يُذبح فيه الأفراد بسبب قبيلة أو عقيدة أو يقين سياسي. وأؤمن أن عالماً أكثر حرية وتسامحاً ليس واجباً أخلاقياً فقط، بل سوف يساعد في إبقائنا آمنين». حسناً، قد يبدو الكلام جميلاً، بل مبهجاً، يسير على نقيض تعطش أسلاف أوباما إلى حروب الغزو والاجتياح والتدخل؛ ولكن (وثمة «لكن» كبيرة هنا!)… كيف تُرجمت هذه الأقوال ذاتها، على الأرض، أوّلاً؟ وكيف، ثانياً، يودّع أوباما رئاستَيه هذه الأيام، حين يبدو التدخل الأمريكي في سوريا أشبه بأحجية تناقضات، بين ما تخطط له وزارة الدفاع، وما تحيكه المخابرات المركزية؟ بين «معتدلي» الجيش السوري الحرّ، وصقور الكرد؟ وبين تركيا على مشارف بلدة الباب، والقاعدة الأمريكية في الرميلان…؟
وهكذا، في إجمال الإجمال، ظلّ الموقف الأمريكي متصفاً بالتخبط، لكي لا يتخيل المرء حال جمود مفضّلة عن سابق قصد وتصميم، تواصل انتهاج قاعدة الابتداء ذاتها: أي «الهبوط السلس»، التي تفترض أنّ النظام السوري ساقط لا محالة، طال الزمان أم قصر، ولا حاجة لأمريكا بتورّط جديد بعد أفغانستان والعراق. ولا بأس، بين حين وآخر، من تلاوة صلاة تعاطف لراحة الشعب السوري الذي يُقتل بالمئات كلّ يوم، ولراحة سوريا التي يدمّرها نظام يرفع الشعار الفاشي الوحشي والبربري: «الأسد، أو نحرق البلد». وبهذا المعنى فإنّ أوباما لم يتهرّب من مسؤوليات القوّة الكونية الأعظم، أي تلك التي يتفاخر بها هو نفسه، وأسلافه من رؤساء أمريكا، فقط؛ بل سفّه «العقيدة» ذاتها، التي بشّر بها، أيضاً، وألقي بمصداقيتها السياسية والأخلاقية إلى حضيض بائس.
ولا يُلام الرجل، بعد هذا، حين يفضّل مصالح بلاده كما شخصها، على المصالح ذاتها كما فسّرها (وبئس التفسير والمفسّر!) فرسان المعارضتَين، الداخلية والخارجية، وكما خُدعوا بها، وبها خَدعوا شعبهم. وإذا جاز أن تذهب تلك «العقيدة» إلى مدفنها، يوم 20 كانون الثاني (يناير) حين يجري تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب؛ أو جاز إرسالها إلى مزبلة التاريخ، على وتيرة سابقاتها من عقائد هذا الرئيس أو ذاك؛ أو حتى جاز احتمال وسيط، كأن يتمّ تدويرها بعد إعادة إنتاجها لتصبح «عقيدة ترامب» المحسّنة مثلاً… فإنّ هذا كله لا يمسح أيّ مقدار من الخزي الذي حاق بفرسان «المجلس الوطني» و»الائتلاف» و»هيئة التنسيق» و»هيئة التفاوض»، رجالاً ونساء، شيباً ومراهقين، ممّن آمنوا بـ»ماما أمريكا»؛ ولعلهم، أو سوادهم الأغلب، على الحال ذاتها… صامدون!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس