بدأت «صفقة القرن» الأميركية للتسوية في الشرق الأوسط تتكشف عن بعض تفاصيلها المحتملة، ترافقاً مع زيارة مبعوثين أميركيين أخيراً لعواصم عدة في المنطقة. ورشحت من لقاءات المبعوثين في هذه العواصم صيغ متنوّعة لمشروع التسوية الشهير باسم «صفقة القرن»… إلا أن هذا لم يكشف عن الغموض المتعمد لكل نقاط المشروع الأميركي، لعله الغموض الذي يعطي لمهندسي المشروع وأصحابه أكثر مما يقدمه الوضوح.

فالخبرات الأميركية مع مشاريع التسوية بصفة عامة تكاد تضع خطوطها تحت بنود التسوية الجديدة، وهي للمناسبة مشاريع ولدت لتموت، فقط هي تستهلك الطاقة العربية وتحرق المراحل والأزمنة… والقيادات أيضاً.. ثم تكون لمراحل مقبلة مشاريع مقبلة… وآخر ذلك كان «حل الدولتين» كمشروع أميركي بالأساس.

لكن ما «صفقة القرن» التي ما إن تسأل عنها أحداً في المنطقة إلا ويتحدث عن أرض في سيناء لفلسطينيي غزة، وأخرى في الأردن لفلسطينيي الضفة، في لعبة تبادل أراض مدهشة، ووعود بغمر المنطقتين ومن يدعم الصفقة بمشاريع اقتصادية، لكن من دون تفاصيل أو إضاءات… هي الصفقة الغامضة عند البعض والمستحيلة عند كثيرين.

مسودة غير نهائية

يشير أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور طارق فهمي، إلى أن الصيغة الرئيسة لمشروع التسوية الأميركية المعروف باسم «صفقة القرن» بدأت قبل ثمانية أشهر، وشارك في إعدادها خبراء أميركيون في مراكز أبحاث ودراسات مثل: مركز بروكنغز، سابان لسياسات الشرق الأوسط، التقدم الأميركي، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ومراكز أخرى… إذاً، فإن ما يطرح هو ملخص أو نتاج أفكار خبراء الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، كما استعانت الإدارة بخبراء سابقين مثل دينس روس ومارتن أنديك…

ويوضح فهمي أن الصيغة الأولية للمشروع عُرضت على الجانب الفلسطيني ونشرها أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات بالكامل، وتم تداولها في الأوساط السياسية للتعرف الى ملامحها. وحدث أن جرت إعادة لبعض النقاط والصيغ المختلفة بناء على تعديلات للمتخصصين، وبعد اتصالات بين عواصم عربية وأوروبية عدة، وهي التعديلات التي قد تتواءم مع متطلبات الجانب الفلسطيني، ذلك كله قبل قرار الرئيس محمود عباس تجميد الاتصالات مع الجانب الأميركي غداة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. عندئذ توقفت كل الاتصالات وإن ظلت شعرة معاوية مفرودة بمشاركة فلسطينيين وبصفة شخصية في بعض الاتصالات.

أما المرحلة الأخيرة، فهي التي بدأ فيها طرح «المسودة» غير النهائية عبر صهر ترامب وكبير مستشاريه جاريد كوشنير، والمبعوث الأميركي لعملية التسوية في الشرق الأوسط جيسون غرينبلات، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان. ويعتبر فهمي أن فريدمان هو المهندس الحقيقي للمسودة الأخيرة، وهو ليس سفيراً لأميركا فحسب، هو مستوطن ومقيم في حي طلبية شرق القدس. وقام كل من كوشنير وغرينبلات بزيارة القاهرة وعمان والرياض والدوحة، ولم يتم طرح صيغة رسمية أو مسودة كاملة موحدة على العواصم الأربع. وركز المبعوثان كوشنير وغرينبلات في الأردن على المطلوب من عمان، وإحاطة المللك عبدالله الثاني بأن إسرائيل ستنشر قوات إسرائيلية في منطقة غور الأردن، وأن الأردن يجب أن يسمح بوجود عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين ويسمح بتوطينهم، وأن عليه أن يستجيب وإلا ستكون فكرة «الوطن البديل» هي الحل.

ولم يقتنع العاهل الأردني بما طرح عليه وتركهما وسافر إلى الولايات المتحدة ليبحث في المسألة… والفكرة السائدة في عمان أن الأردن لا يمكن أن يكون الوطن البديل، وأنه قد يقبل عدداً من اللاجئين، لكنه لن يكون بديلاً من الجانب الفلسطيني. وكانت صيغة مدريد بدأت في مطلع التسعينات بوفد مشترك أردني فلسطيني. والأردن منفتح على ترتيبات أمنية في غور الأردن، لكنه لن يقبل بأي مساس بوضع الأردن في رئاسة المقدسات أو بقواعد الحكم في البلاد.

ويلاحظ فهمي أن الولايات المتحدة تريد أن يصبح الأردن محور الحركة في المشروع الأميركي الجديد، وأن تكون دول عربية خليجية مساعدة في التمويل، أما مصر فلن تسمح من قريب أو بعيد بملف تبادل أراض وهو مغلق منذ أيام الرئيس مبارك، وهو ما نقل مباشرة للمبعوثين.

ويكشف فهمي أن مصر تعيد في كل اتصالاتها التمسك بفكرة حل الدولتين وأن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وهي حددت موقفها للمبعوثين على النحو التالي: مصر لن تقبل بقرية أبو ديس أو بلدة العزيرية ولا قرية العيسوية بديلاً للقدس الشرقية، وأي ترتيبات أمنية في القدس أو خارجها بما في ذلك مسألة الحدود الأردنية، لا بد من أن تتم بتوافق ثلاثي، وأن القاهرة تقبل بإقامة مشاريع في قطاع غزة وتقديم تسهيلات استثمارية، وسبق أن فتحت معبر رفح البري طوال شهر رمضان الماضي، ولن تتوقف عن فتح المعبر… لا تمانع القاهرة في إقامة أي مشاريع تعاون بين قطاع غزة وسيناء، وميناء العريش جاهز لهذا، والقاهرة ستباشر دورها في الفترة المقبلة في مساعي المصالحة الفلسطينية لترتيب الأوضاع الفلسطينية والبدء بقطاع غزة، وإعادة تأهيله أولوية مصرية في هذا التوقيت. مصر ردت إذاً بالموافقة على أي عمل ينهي معاناة القطاع، ورفضت بشدة فكرة تبادل الأراضي. ويعلل فهمي الموقف المصري بأنه يعني أن القاهرة تتجاوب مع كل الأفكار الخاصة بإعادة تأهيل القطاع وإنعاشه، وهي الأفكار التي قوبلت بتحفظات أميركية لتعارضها مع الخطوط العامة لما تطرحه واشنطن. ويلفت إلى أن الأدارة الأميركية لن يوقفها الرفض الفلسطيني والعربي لحديث الصفقة، وأن لديها بدائل، من ذلك ألا تعلن واشنطن الصفقة، وتبدأ التنفيذ من جانب واحد، كما حدث في مسألة الاعتراف بالقدس، ومن الخيارات لديها أن تعلن عن «صفقة غزة أولا» لتأهيل القطاع لحين رحيل القيادة الفلسطينية الحالية أو استبدال قيادة عميلة بها، وفي كل الأحوال تنفرد واشنطن بكل دولة على حدة. وإذا فشلت الصفقة بعد كل هذه الاتصالات، سيشتغلون وحدهم والأخطر مع الجانب الفلسطيني أو قيادات محلية عميلة مع وقف المساعدات بالكامل.

«صفقة العار»

ويشدد أمين سر المجلس الوطني الفلسطيني السفير محمد صبيح، على أن موضوع نقل السفارة الأميركية الى القدس واعتبار القدس عاصمة للدولة اليهودية تم قسراً، وليس قانوناً ولم يتم برضاء أهل المدينة أصحاب الحق ولا برضاء العالم. ويقول: بالتالي هذا ليس قانونياً وليس شرعياً، وإنما كأي جيش محتل وعلى عكس رغبة العالم وبعيداً من القانون والحق، يقوم بتصرفات في الأرض التي احتلّها، والمهم أن الشعب الفلسطيني ما زال يرفض ذلك.

أما في شأن صفقة القرن، فيلفت صبيح إلى أن هناك إجماعاً على رفض ما يعرض، وما يسميه الشعب الفلسطيني بـ «صفقة العار»، فأن تكون صفقة لا بد من أن تكون متوازنة، تعتمد على الحق والقانون وأن تكون بموافقة الأطراف. وعندما جاء كوشنير ليتحدث، وهو غريب ومنحاز ولا يعرف حقائق المنطقة، إنما جاء ليخدم برنامج نتانياهو. هذه الصفقة لم تطرح في شكل رسمي، و»أنت أخرجت منها القدس، وتبحث لفلسطين عن عاصمة في ضواحي أو ريف القدس، إذاً أنت تتعارض مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن».

يضيف صبيح: «لقد أعطى الفلسطينيون والعرب مرونة عندما قبلوا القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، والغربية عاصمة لإسرائيل، على رغم أن 70 في المئة من أراضي القدس الغربية ومبانيها هي ملك لعائلات فلسطينية وأرض فلسطينية… المرونة الفلسطينية هنا واضحة، وبالتالي القدس الشرقية عاصمة لفلسطين. ولا مانع أن تكون القدس موحدة ويتمتع الناس فيها بالحرية والسلام… الذي يريد أن يقدم صفقة، فلا بد من أن يمنع الاعتداء على الحقوق.

العرب قدموا مبادرة سلام عربية وسوّقوها للعالم وقبلت في مجلس الأمن في القرارين 1515 و1397، والإدارة الأميركية وافقت على ذلك.. .يتساءل صبيح: «كيف تقدم الولايات المتحدة صفقة وهي توقف دعمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وهذا عقاب على اللاجئ الفلسطيني، هذا اللاجئ له حقوق وأراض ومزارع ومنازل، وحتى الآن في إسرائيل ما يسمى القائم على أعمال الغائب. الحقوق للاجئين وللأولاد والأحفاد… كيف تتناسى القانون الدولي عند الحديث عن تسوية». ويستغرب صفقة تأتي بعد استبعاد القدس واللاجئين منها، وهما أهم ركنين في القضية، أضف إلى ذلك الاستيطان الذي يقف ضده العالم وتدافع عنه الإدارة الأميركية، مشدداً: «لن تحصل إسرائيل على أي شيء إلا بموافقة الشعب الفلسطيني».

ويؤكد صبيح أن أخطر ما في هذه الصفقة أنك تتحدث عن دولة في غزة وتوسيع هذه الدولة بأراضٍ من سيناء، والشعب الفلسطيني يرفض أي أرض أو التوطين في أرض عربية. وفي عام 1948، عندما تم تهجير الفلسطيني من أراضيه، ووجد نفسه لاجئاً في خيام، حاولت مجموعات توطينه في كندا وأستراليا وغيرهما ورفض… وفي عام 1954، عرض الأميركيون على عبدالناصر توطين الفلسطينيين في سيناء، وقام اللاجئون في غزة بتظاهرات يرفضون التوطين. وفي عام 1956، حاولوا وضع غزة تحت الوصاية الدولية وتم الرفض… هم يعتقدون أنه بمجرد الطرح تنشأ حساسية في لبنان وسورية ويحدث شرخ وخلافات فلسطينية مع دول عربية عدة… والشعب الفلسطيني لا يريد ذلك… لكن، هل يسمح الشعب المصري بالتنازل عن أرضه؟ بالطبع لا. هذه الصفقة لا مكان لها في الحياة، وأي صفقة لن يقبلها الشعب الفلسطيني لن يكون لها وجود ولن يكتب لها النجاح.

الولايات المتحدة تتخلى عن القانون لتفرض رأياً وتستغل الأحداث في الدول العربية لتفرض حلاً لن يسفر إلا عن زيادة التوتر.

«مؤتمر مكة أفشل الصفقة»

ويوضح المستشار حسن أحمد عمر الخبير في القانون الدولي والمتخصص في القضية الفلسطينية، أن صفقة القرن كمشروع أميركي – إسرائيلي تتمثل في إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، وذلك من طريق إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإنهاء الوضع القانوني للقدس وتسليمها لإسرائيل، وترحيل جميع الفلسطينيين في فلسطين إلى الأردن أو سيناء أو اراضي مشروع نيوم الاقتصادي. ومن ثم تتحقق لإسرائيل السيطرة الكاملة على كل فلسطين التاريخية، ومنح جميع الفلسطينيين جواز سفر فلسطينياً للعودة به إلى الأردن، موطنهم البديل. ويتحقق لإسرائيل وللمرة الأولى حلم الدولة اليهودية، بحيث لا تمنح الجنسية الإسرائيلية إلا لليهود فحسب. هذا هو مشروع صفقة القرن باختصار مع منح الفلسطينيين أموالاً من دول الخليج للموافقة على الصفقة.

وهذه الصفقة كما يرى عمر، تصطدم بأحكام القواعد الآمرة للنظام العام الدولي. تلك القواعد التي أقرت بعدم جواز التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف. وهناك اللجنة الدولية المعنية بحماية هذه الحقوق. ولتبسيط هذه الحقوق وتحديدها، دعونا نقابلها بحقوق اليهود في فلسطين. لليهود في فلسطين قبل إصدار توصية التقسيم ١٨١ لسنة ١٩٤٧ حقان… الأول ويتمثل في الحق في عودتهم إلى بلدانهم الأصلية والتمتع بحقوقهم السياسية هناك، وذلك عملاً بأحكام الفقرة الأخيرة من وعد بلفور. الثاني حق اليهود المقيمين في فلسطين عند صدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين في الحصول على الجنسية الفلسطينية عملاً بحكم المادة السابعة من الصك. وبعد ذلك مع صدور توصية التقسيم، أصبح لهم الحق في الحصول على دولة فلسطين اليهودية بموجب قرار التقسيم. غير أن إسرائيل تتجاهل تنفيذ ذلك، بخاصة وقد اعتد به كشرط من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم ٢٧٣ لسنة ١٩٤٩ مع شرطي تنفيذ قرار العودة ١٩٤ لسنة ١٩٤٩واحترام الوضع الخاص لمدينة القدس لقبول إسرائيل عضواً في المنظمة الدولية. انتهاك إسرائيل شروط العضوية يحرمها من الحق في الدولة ويقصر حق اليهود في الحصول على الجنسية الفلسطينية. ويؤكد عمر أن الصفقة ستفشل فشلاً زريعاً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو رد الفعل الأميركي والإسرائيلي في حال فشلت الصفقة، يقول عمر: «رد الفعل وقع في شهر رمضان الماضي وقتما رفض الأردن ومعظم العواصم العربية الصفقة، فحركت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية فلولها في الأردن للقيام بتظاهرات غرضها إطاحة العرش الهاشمي واستبدال عملاء لها به للموافقة على الصفقة. وجاء الرد سريعاً من مكة، حيث دعا الملك سلمان بن عبدالعزيز كلاً من ملك الأردن وأمير الكويت وحاكم الإمارات إلى قمة مكة، وهناك كان التأييد والدعم المعنوي والمالي للأردن حكومةً وشعباً. وكانت القمة في مثابة المسمار الأخير في نعش صفقة القرن. وأكد عمر أن الصفقة إلى زوال وإسرائيل إلى زوال… وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف هي الباقية، وقد أثبت الفلسطينيون في تظاهرات العودة أنهم شعب لا يموت.