لم يَعُد ما يجري على الساحة السوريّة أمراً فيه مجلبة للعار كي يستر اللاعبون مؤخّراتهم بسراويلات، أو يحجبوا وجوههم بأقنعة.. فقد بات اللعب علناً إستراتيجية المتصارعين، وكأني بهم يردّدون معاً ” لا حياء في ابتلاع الآخرين دون خسارة! “. فقبل مؤتمر سوتشي بساعات، وهو الذي بذلت له روسيا الجهد والمال، وسفكت من دماء السوريين ما سفكت، ودمّرت من مدنهم ما دمّرت، وشرّدت منهم ما شرّدت، لكي تحوّل كل ذلك إلى نصر سياسي يدفع برؤيتها في سورية للتقدّم، وإسدال ستار موارب حول جنيف، تمخّض اجتماع خمس الدول (أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن) عمّا سمّي بـ” اللاورقة “، وثمّة من يدلّعها فيسمّيها ” الورقة الأمريكية “؛ لأن تيلرسون نطقها بلسانه، لتكون العصا الغليظة التي أعلنت أمريكا من خلالها أنها جاءت ولن تخرج قبل أن يتمّ انتقال سياسي حقيقي في سورية وفق قرارات مجلس الأمن، وتقلّم أظافر إيران التي استطالت، وتحول دول وصل طهران بلبنان، وتقضي على ما تبقّى من فلول داعش، فأقعدت بذلك سوتشي في غرفة الإنعاش. لتأتي الآن قمّة أنقرة لضامني أستانا تسويقاً لانتصاري عفرين شمالاً والغوطة جنوباً، حاملة من وعود خفض التصعيد “الجميلة” للسوريين ما تحمل، فيدفع بها- قبل انعقادها- تصريح قصير للرئيس ترامب إلى حافة الهاوية؛ بإعلان رغبته الانسحاب من سورية سريعاً، وترك الآخرين يتابعون المهمّة، فيرحّب بوتين بالخطوة، وتستعدّ تركيا لاستحقاقات جديدة، وتشحذ إيران الهمم، وتتبارى عواصم أوروبا لملاقاة العقابيل، إذ ليس بالأمر الذي يمكن تداركه بين يوم وليلة، ولا يمكن أن يمرّ دون خلاف أو اختلاف حول مراميه، وما سينتج عنه من كوارث! فتحوّل الممتعضون من الوجود الأمريكي إلى متمسّكين بضرورة بقائه، والمتوجّسون من استمراره إلى خائفين من انتهائه، والمطالبين بمواجهته بالقوّة إلى مرحّبين بوقوعه، والمتقاعسين عن المساعدة والتمويل إلى حاتمي العصر، ” فالسعودية ترسل بثامر السبهان إلى الرقة، وماكرون فرنسا يتعهّد لأكراد قسد بالوساطة مع تركيا”، والجميع يرى أن ما يؤسّس له ترامب على الأرض مزيد من القواعد والتمدّد، لاسيما أن تحالف الضامنين الثلاثة إجباريّ ومؤقّت، فكل طرف يريده دعماً لمصلحة نفوذه الذي بات شبه قارّ ومقرّر ومتوافَق عليه، وعودة لإنعاش أستانا، وربّما إحياء لسوتشي، على حساب القتل الرحيم لجنيف.
صار الكلّ عاملاً على تدوير الزوايا وتربيع المستطيلات وتثليث الدوائر، تهيّؤاً لمرحلة سياسية جديدة على الساحة السورية، تبدأ بالاستقطاب، ولا تنتهي بتمكين التحالفات القديمة أو صياغة تفاهمات جديدة، لا يمكن التكهّن بمآلاتها، لأن الفراغ السوري لا يملؤه غير الأقوياء.
ففي الوقت الذي تركّز فيه تركيا على حماية المدنيين، تدعو روسيا إلى تسوية الوضع السوري، بينما إيران تبتهج بأن القمة إعلان لنهاية الحرب في سورية، والكل يعمل على بقاء سورية موحّدة شكلاً! وباريس وواشنطن وبرلين ولندن وبرلين تعلن التزامها معاقبة الأسد بعد عام من استخدامه السلاح الكيماوي في خان شيخون، لينبري من يعلن باسم ترامب بعد اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي أن ترامب يريد ضمان هزيمة داعش، وأن البقاء في سورية لن يكون لأجل بعيد، وبهذا يقول لمن يرغب ببقاء النظام أن يدفع تكاليف بقاء قواته، وأن مهمّته في سورية شارفت على الانتهاء، ولكن دون تزمين، وهو من منع الجبهة الجنوبية عن مساندة الغوطة، وهو من يُظهِر داعش في هذا المكان أو ذاك بما يخدم استمرار علّة وجوده المعلنة، وفي الوقت الذي لا سوريّ ينبس ببنت شفة رافضاً أو راغباً أو راهباً، معارضاً كان أم مؤيّداً، فلا أحد يملك قراراً، ولا صوت عربيّ يُسمع فيما يُعَدّ ويجري، إذ يُقتَلَع السوريون من أرضهم تحت سمع وبصر منظمات الأمم المتحدة، وديمستورا ينهمك أكثر فأكثر بإعداد ملفّات التفاوض لجنيف قادم، ويُسلَب السوريون أرضهم وبيوتهم عبر قوانين من نظام وقّع العالم على أهليّته، بل شَرْعَن كل ما يصدر عنه، بدءاً من قتله شعبه – بالكيماوي وغيره- وترحيله ولجوئه، وانتهاء بمصادرة أملاكه.
إن السؤال المرّ الذي يغطّي الأفق، عمَّ يعني ذلك؟ لا أحد يملك إجابة واضحة عليه، سوى أننا في سيرك، مهرّجوه معروفون ذوو شرعيّة وأهليّة، يمارسون ألعاب الخفّة حيناً والاستغباء أحياناً، يشفع لهم أنهم في سيرك، لا يضحك فيه المتفرّجون ولا يحزنون ولا يتألّمون، يتابعون مشاهد “أكشن” تمرّ أمامهم ولا يأبهون.. يسوّغون ذلك بأنهم في سيرك وحسب، لكنهم يتناسون تماماً أنهم يشاركون في سِيْرك قَتَلة.