خاص

مُنْذُ أَمَدَ بَعيد كانتْ سُوريّا ولا زالت تُعرّف بأنّها مَهدُا لحضارة البشريّة وخزّاناً هائلاً للأثار التّاريخيّة التّي تعوّد لآلاف السّنّين، وسكّنتْ على أرضها ممالك وشعوب منذ بدأ الخليقة، ويُعد تاريخياً الشّعب السّوريّ المتنوّع عرقيًّاً ولغويّاً ودينيًّا من الشّعوب الرّاقية الّتي تركت أثراً عظيماً في حياة البشريّة، وقامت على أرض سُوريّا إمبراطوريّاتٍ قوّيّةٍ نهضت بها حيّناً وكانت ضحيّة لها أحيّاناً.

لنْ أعُود في تاريخ سُوريّا بعيداً ,بل سأبدأ من حيث تسلّط حافظ الأسد على حزب البعث أولاً وسوريّا ثانياً، وقاد الأسد البلد الذي كان مثالً للتّعايش السلميّ والنّسيج الاجتماعيّ المتماسك ليُصبح خلال فترة وجيزة من حكمه بلداً ذوصبغة طائفيّة واحدة حولها الأسد بعد أن أمتلك زمام الأمور لتُصبح رافدة قوية ومُعيّن بشريّ لا ينضب لسلطته الأمنيّة والتي قضى بها الأسد الأب على كافة مكوّنات المجتمع السوريّ الاخرى وأصبحت هذه المكوّنات بالدرجة الثّانية بعد مُكوِّنٍ الطّائفة المُختارة , ومن خلال هذه الطائفة استطاع الأسد الأب تفتيت الحياة الاجتماعيّة السوريّة بمُستوياتها العديدة من خلال تحويل البلاد إلى منظومة سلطة أمنيّة قويّة استطاعت أن تلغي كلّ مظاهر الحياة السياسيةّ في المجتمع السوريّ على مدار الخمسون سنة التاليّة من حكمه وحكم ورّيثه ولتتحكم قلّة قليلة من هذه الطائفة في مصائر البلاد والعباد.

سقطتْ سُوريّا ضحيّة حُكم الأسد ورويداً رويداً تحوّلت هذه الدّولة العريقة لأنّ تصبُّح دولة عصابة أكثرمنها دولة مؤسّسات ودولة قانون وكما يقول د. برهان غليون في تقديمه لكتاب ميشيل سوّرا ( سُوريّة – الدّولة المُتوحّشة) “لمْ يكنْ لدى الأسد أيّ مشروع أخر,لا بنّاءُ أُمّةٍ,ولا بنّاءُ دوْلةٍ, ولا أقامة عدالة اجتماعيّة وإنّما بنّاءَ سُلطةٍ وتأمين وسائل القوَّة الكفيلة بالدّفاع عنها”

ومع تَقدّم سنوات حُكمه حول الأسد سُوريّا عامداً من خزَّان غذائيّ مُتكامل  يذخرُ بالثروات الزّراعيّة من القُطن والقمح والكثير من المنتوجات الزّراعيّة ويُحقّق الاكتفاء الذّاتيّ للاقتصاد السّوريّ إلى أرض قاحلة سوْداء نتيجة استشْراء الفساد في مشاريع الدّولة الفاشلة ( مشروع استصْلاح حوْض الفرّات مثالاً) ومن خلال منظومة الفساد القائمة تلك تحوّل الكثيرُ من مشاريع الدّولة إلى مشاريع خاصّة بفئة قليلة من عصابة الحُكم, وسيطر الأسد على موارد البلاد النّفطيّة ولمْ تدخل إلى خزينة الدّولة بل تحوّلت إلى حساباتٍ مصرفيةٍ خارج البلاد.

مَضى هذا الْحال حتّى ماتَ الأسدُ الْأب وَصعدَ الأسدُ الاِبن إلى السّلطة حاملاً معهُ أرثُ الأبَ الأمنّي القوّيّ مُستمرّاً في تنفيذ سياسة اغْتصاب الدّولة وتركيع الشّعب ونهْب خيْراتِ البلادِ بلْ زاد على ذلكَ بأنّ شَرعنَ الفسادَ وسيْطرةَ رأسِ المالِ المافيويّ على حياة الشّعب السوريّ منْ خلال الشّركات العائليّة الّتي استحوذتْ على مفاصلِ الدّولة الاقتصاديّة والمشاريعِ الحيويّة والّتي تصبُّ في نهاية المطاف في مزرعة بيت الأسد.

ومُنذُ أنّ خطى الأسد الأبن خطواته الأولى في السُّلطة قرّر أنْ يُكمل نهجَ أبيهِ في استعباد الشّعب السوري بشيبهِ وشبابهِ، المُسلمُون مْنهُم والمَسحَيين ليكونوا عبيداً في مزرعته الكبيرة سُوريّا، ولمْ يكُنْ اندِلاعُ الانتفاضةِ السُّوريّة، في بدايتَها، بسبب الطائفيّة كما روَّجتْ لها بُثينة شعبان، بل بفعل جُملة من المُمارساتِ الأمنيّةِ القاتلة الّتي استخدمها النّظام لقمع التّظاهرات والكمّ الهائل من التّظلُّمات السّياسيّة والاجتماعيّة النّابعة أساساً من فشلِ الإصلاحاتِ الاقتصاديّة الّتي طبّقها نظام بشار الأسد.

ومعَ استمْرارِ النّظام في استخْدام سلاح القتل اليوميّ والتدمير المُمنهج للُبنى التّحتيّة في المناطق الخارجة عن سيطرته بما فيها المشافي والمرافق الحيويّة ومع مَشاهدِ الدّم وأصوات التّفجيرات اختفت سُوريّا الجميلة الّتي يعرّفها العالم سُوريّا بلد الطّبيعة الجميلة والحضارة العريقة، حتّى أَصبحتْ إذا بحثتْ عْن اسمِ إيً منْ مُدنُها الجميلةِ ظهرتْ لكَ صُورُ الخَرابِ والدِّماء والحرب في كُلّ مكان. وباتَ اسمُ سُوريّا الضّحيّة مُرافِقاً لكُلّ ما تعنّيه الْمأْساة منْ معنَّى في هذا العالم. 

 ومَعَ استقْدامِ النّظام للميليشيات الإيرانية وعناصرَ حزْب الله وعصابات المُرتزقة من كُلّ بقاء الأرض للدّفاع عنْ حُكمهِ وما تلّاهُ من استجلاب وتسهيل للجماعات المُتطرّفة كداعش وغيرها والّتي استفادَ منْ وجُودها الأسد على أكملِ وجهٍ ومع التّدخّل الرّوسيّ في الصّراع السّوريّ أصْبحتْ سُوريّا ضَحيّةً لتصارعُ المصالِح بين المُستعمرين المُنخرِطين في النّزاع الدائر فيها والّذي يُهدِّدُ استمرارهُ باقتلاعِ سوريّة نفسها وتفكيكها وجعلها وحدّها تدفعُ ثمناً باهظاً لهذا الصّراع الّذي خلْق على مدى التّسعةِ أعوامَ الماضيةَ أبشعّ المأسيّ في تاريخِ البشريّة مخلّفاً عدّداً غيرُ معلومٍ من القتلى والجرحى وأجرى معهُ أموّاجاً من اللاجئينَ والمُهجّرينَ أغرقتْ كُلُّ بقاعِ الأرض وأعاد البلاد عقوداً إلى الوراء.

ومعَ انتشارِ جائحة كوّرونا حوْل العالم قبل أشهُر يَقَعُ على سُوريّا ظلمٌ منْ نوعٍ أخر يجْعل منها ضحيّة جديدة لهذا النّظام المُجرم الّذي دمَّر القطاع الصّحيّ في البلاد منْ خلال التّدمير المُتعَمَّد للمشافي والمراكز الصّحيّة في المناطقِ الخارجةِ عنْ سيطرتهِ ومنْ خلال اعتقال الكثير منْ الأطباء والعاملين في القطاع الصّحيّ في المناطق الواقعة تحتَ سيطرتهِ ناهيكَ عن الأعداد الكبيرة من الأطباء الّذين هاجرَ الكثيرٌ منهُمْ هرّباً من مُلاحقةِ النّظامِ أو الخدمةِ الإلزاميّة أو بحثاً عن حياة جديدة وهذا كُلَّهُ ينُذْرُ بكارثةٍ لمْ تشهدها سُوريّا منْ قبْل.

فتَفشّيِ الجائحة في سُوريّا البلد المُدَمّر سيكونُ لهُ تأثير كبير وخصوصاً مع وجود عشرات الآلاف من المُعتقلين في السُّجون. والّذين يُعانون أصلاً من أوضاع صّحيّة سيّئة جداً وعدم وجود أدنى درجات الوقاية ضدّ هذا الوباء القاتل وحرمانهم من الطّعام الكافيّ الّذي يُساعدُهم في تعزيز المناعة ضدّ المرض ، وانعدام الرّعاية الطّبيّة، ومرافق الصّرف الصّحيّ، والتّهوية والمساحة الكافية حيثُ يُحتَجز في غُرف ضيّقة عدد كبيرمن المُعتقلين في ظُروف حجز غير أدميّة واستخدام وسائل التّعذيب المنهجيّ وسوء المُعاملة والعُنف الجنسيّ على نطاقٍ واسع، والفئة الثّانية الأكثر عرضة للإصابة هم  الناّزحون في الكثير من المُدن والقرى داخل مناطق سيطرة النّظام أو خارجها والّذين لا يتمّتعون بأدنى وسائل العيش التي تحميهُم من الإصابة فلا بيُوت يأْوون إليها، ولا حتّى مستشفيات تقدُّم لهُم الِعلاجَ.

وفي ظلِّ تكتُمُ كبير من جانب النّظام على الأعداد الحَقيقيَّة للإصابة بفيروس كوّرونا يَخرج رأس النّظام ليُحذّر منْ خُطورةٍ تفشي كوّرونا بسبب سوء الوضع الصّحيّ في البلاد مُحملاً العالم المسؤوليّة نتيجة استمرار العُقوبات على سُوريّا متناسياً عمداً انه السّبب الرّئيسيّ في وصول البلاد إلى هذا الحال وكانتْ مُنظّمةُ الصّحّةِ العالميّة ِقد توقّعت بأنْ يَشملَ تأثيرُ جائحة كوّرونا كافّة مناطقِ سُوريّا دون استثنْاء سواء تلك الواقعة تحت إدارة روسيّة أو إيرانيّة في الجنوب والشّرق وحتّى في الساّحل السّوريّ، أو في مناطق الشّمال والشّرق الواقعة تحتَ إدارةُ قوّات سُوريّا الدّيمُقراطيّة منْ جهة أو فصائلِ الثّورةِ المواليّةِ لتُركيا منْ جهة أخرى فجميع هذه المناطق يجْمعُها عامل واحد هو تدهور الوضع الصّحيّ فيها وعدم وجود المقوّمات الأساسيّة للبنية التحتيّة الّتي تّساعد على مكافحة الوباء، والكارثة الأكبر التّي حذّرت منها الأمم المُتّحدة في تقريرٍ لِلجنة تقصّي الحقائق وكذلك فعلتْ مُنظّمةُ الصّحّة العالميّة هي النّازحين داخليّا ًوفي مخيّمات الشّمال وهُم الأكْثرُ ضعُفاً أمام هذا المرض القاتل إذا تفشّى بينهُم. وحسب التقرير فإن عدد النّازحين داخليّاً في سُوريّا تجاوز الـ 6.5 مليون شخص، وأكثر من مليون مدني (مُعظمهمْ نساء وأطفال) يُقيمون على طول الحدود مع تركيا في شمال غرْب سُوريّا في العراء أو في خياّم مُكتظّة أو في مّخيّمات مُؤقتة، وهؤلاء هم القُنبلة الّتي قد تنْفجر في أيِّ وقت.

والْيَوم مع بدَأ التَّطْبيق الْفعليّ لِقَانون قَيصر الْمَعنيّ أصلاً بِحماية الْمدنِيِّين السوريّين سيَكُون الشَّعب السوري المنكوب والْواقع تَحت سيطرَة النّظام وَتحت سيطرَة احتِلالات مُتعدِّدة أُخْرَى هو الضَّحِيَّة  الأساسيَّة لِتبِعات هَذا الْقانُون مَع اقتصاد مُنهار تماماً بعدَ أَنْ فُقدت الْعُملة الوَطَنِيَّة نَحو 70 فِي المئة أو أكثر مِن قيمتِها إمام العُملات الصَّعبة، صَحِيح أنّ القانُون ينُصَّ على عُقوبات إِجرائية لِكُلّ مُتعامل مَع النِّظام السوري ويستهدف بِشكل أَساسِيٌّ رأْس النّظام ومؤَسَّساته الأُمنيَّة والعسكرية ومن خلْفها إِيران وحزب اللَّه وتبعاته من فصائِل مُتعدِّدة ووقَف تمويلها وتسليحها، إلَّا أَن هذِهِ العُقوبات ستزيد مِن مُعاناةِ الشَّعْب السوري الفقيّر وحدَه وسيقع في دَوامة لَا تَنْتهي مِن غَلاء الأَسعارِ واِنْهِيار الْعُملة وازدياد مستويات الْبَطالة إلَى مستويات قياسية (سوريا تَحتَلّ الْمَركز الثَّاني بَين الدُّوَل الْأَكْثَر بَطالة في العالم) ستؤدي إلَى انْعِدام سُبُل الْعَيْش الْآدَميّ في ابْسط إشكالِه .

سُوريّا الضّحيّة الدّائمة لِهذا العالمَ ولنْ تَعُودَ سُوريّا الْجميلة كَما كانَتْ إلَّا بِسُقوطِ هَذا النِّظام.