مضت تسع سنوات على الانتفاضة السورية ضد النظام. بدأتْ بزخم حقيقي في 15 مارس/ آذار 2011، فقد انتفض الشعب السوري، بعد أربعة عقود من المعاناة تحت حكم نظام استبدادي، أذاقه أقسى صنوف القمع والإذلال، وتَسَبَّبَ هذا النظام، بفساده وسوء إدارته الشأن العام، بمعاناة اقتصادية ازدادت حدّتها قبيل الربيع العربي، بفعل ظاهرة قحط في منطقة الجزيرة السورية (شمال شرق البلاد) لم يكن لها مثيل منذ خمسمائة سنة، ونتج عنها هجرة مليون سوري من الريف إلى محافظات حمص وحماة ودمشق وغيرها، ما زاد في المعاناة الاقتصادية وتفشي البطالة.
الانتفاضة التي استلهمتْ ثورتي تونس (18 ديسمبر/ كانون الأول 2010) ومصر (25 يناير/ كانون الثاني) طالبت بالإصلاح، ثم بإسقاط النظام بعد أن واجهها ببطش هائل، ونادت بتحقيق الحرية والكرامة وحياة اقتصادية أفضل. بعد هذه السنوات الدموية التسع، هل اقترب الشعب السوري من تحقيق هذه الأحلام المشروعة؟ على الرغم من أن الاحتجاجات كانت سِلْمِيَة، عموما، خلال الأشهر الثلاثة الأولى (مع استثناءات)، إلا أن النظام واجهها بوحشية وبطش يستعصيان على الوصف. ولم يكن هذا وليد اللحظة، ولا يتعلق بطبيعة النظام فحسب، بل إن موقع سورية الجيوسياسي الشديد الأهمية جعلها ساحة حرب بالوكالة بين النظام والقوى الداعمة له (إيران وأدواتها وروسيا) من جهة والمعارضة السورية والجهات التي “تَبَنَّتْها” من جهة أخرى، حرب تُبرهن صحة مقولة باتريك سيل إن من يسيطر على سورية يتحكّم بالشرق العربي.
اعتبر النظام المواجهة مع شعبه الذي تجرأ وكسر جدار الرعب، قضية وجودية. وقبيل الاحتجاجات، استدعى رئيس إدارة المخابرات العامة، اللواء توفيق يونس، المعارض البارز ميشيل كيلو، وقال له مهدّدا: “سوف نقتل كل من يتظاهر في الشارع”. أما المرشد الإيراني، خامنئي، فقد طلب من رأس النظام، بشار الأسد، الضرب بيد من حديد في تعامله مع المتظاهرين السلميين، ولم يكن مضطرا إلى بذل جهد كبير في إقناع الأسد، كما يظهر من كلام الأخير في اجتماع بدمشق في أواخر مارس/ آذار 2011، بحضور قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني (في حينه)، قاسم سليماني، وقائد الحرس الجمهوري، العميد ماهر الأسد (شقيق بشار): “عَلّمناهم درسا في حماة أسكتهم أربعين سنة، وأنا سأُعَلِّمُهم درسا سوف يسكتهم مائة سنة”. وقد أبلى ماهر الأسد لاحقا “بلاء” أكثر من حسن في قمع المحتجين، وحين وُضِع على قائمة الحظر الأوروبية التي شملت كثيرين من مسؤولي النظام، وَصَفَه الاتحاد الأوروبي بأنه “المشرف الرئيس على ممارسة العنف ضد المتظاهرين”، وهو توصيف أكَّدَتْه ممارسات ماهر، ومنها أن عناصره لما كانت تحاصر بلدة داريا جنوب دمشق أمرهم أن يجتاحوها بأي ثمن، ولو اضطروا لتسويتها بالأرض. وقد عَلَّقَ الباحث نيكولاس فان دام بأن كلاً من المتظاهرين والمعارضة المسلحة وداعميها (الغرب وحلفائه الخليجيين وتركيا) “أخطأوا في تقدير مستوى بطش النظام”.
وبينما كانت قواته الأمنية تقتل المتظاهرين السلميين، ألقى بشار الأسد خطابه أمام “مجلس الشعب”، وأَعلنَ أن الاحتجاجات مؤامرة يجب “دفنها”، ومن لا يشارك في الدفن يكون جزءا منها، وهذا باختصار كان تهديدا للشعب السوري قاطبة، كما كان بمثابة إعلان عن خطة العمل الجهنمية التي ما زال يلتزم بها. وقد كانت حادثة اعتقال 15 تلميذا من درعا، وأعمارهم بين 8 إلى 11 سنة، لكتابتهم شعارات تطالب بإسقاط النظام، ثم تعرّضهم للتعذيب في مركز المخابرات، بما في ذلك الحرق واقتلاع الأظافر، كانت نذيرا “بسيطا” بما سوف يأتي لاحقا من جرائم وفظائع. وقد تعمق القمع واشتد بعد ظهور المعارضة المسلحة المنظمة في أواخر أغسطس/ آب 2011، وعمد النظام إلى محاصرة المدن “المتمرّدة” وقطع الماء والكهرباء
مارس النظام وحلفاؤه “لعبة” التغيير الديموغرافي (التطهير العرقي) بإحلال عناصر إيرانية ولبنانية محل المهجرينوالاتصالات عنها، ومصادرة المواد الغذائية الداخلة إليها، هذا بالإضافة إلى استخدام الدبابات والطائرات الحربية والقصف بالبراميل المتفجرة بدون تمييز بين مسلحين وعزّل، وحتى بالسلاح الكيماوي، ولم يَسْلَم من القصف أي هدف مدني: الأبنية السكنية، المخابز، الأسواق، المستشفيات، المدارس .. وهذا ترافق مع حملات اعتقال لا تنتهي، وتعذيب في منتهى السادية، وإعدامات مستمرة طاولت عشرات الآلاف.
مارس النظام وحلفاؤه الإيرانيون وحزب الله “لعبة” التغيير الديموغرافي (التطهير العرقي) بتهجير سكان من “الهوية” الطائفية الأخرى، وإحلال عناصر إيرانية ولبنانية (من عناصر حزب الله) مكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية والقابون والمنطقة بين دمشق والحدود اللبنانية والقصير وبعض أحياء حمص وحلب ودير الزور والبوكمال، ومَنَحَ الجنسية السورية لمقاتلين أجانب (من الطائفة الشيعية) استقدمتهم إيران بشكل رئيس من باكستان (لواء الزينبيين) ومن أفغانستان (الفاطميون) “متطوعين” لنصرة النظام، ولم يأبه النظام بالأثر السلبي والمستفِز لهذه التسميات الطائفية ومثيلاتها من القوات “الرديفة”: “لواء أبو الفضل عباس”، “قوات الرضا”، “فوج ذي الفقار”.
وبدأت المعارضة المسلحة رسميا بإعلان تشكيل “الجيش السوري الحر” في 29 يوليو/ تموز 2011 من الضباط والجنود الذين انشقّوا عن النظام، ولكن مأزق المعارضة المسلحة كان في مصدر التسليح، وكان تعمُّق “عسكرة” الثورة يسير يدا بيد مع “أسلمتها” وإعطائها طابعا جهاديا وطائفيا، بتأثير أجندات مانحي السلاح. ولا تتسق معظم هذه الأجندات مع طموحات الشعب السوري، وماهية التغيير الذي ينشده في وطنه، بل بدت جميع الجهات الداعمة بالسلاح والمال (بما فيها الولايات المتحدة) متفقة على أن يكون الدعم العسكري غير كافٍ لحسم الحرب مع النظام. وقد شكا مقاتل سابق في صفوف المعارضة بمرارة للكاتب روبرت فيسك في أغسطس/ آب 2017، وقال إن الولايات المتحدة وحلفاءها الخليجيين “أغدقوا سيلا من الأسلحة في سورية، أسلحة كافية لتدمير سورية، ولكنها لا تكفي لإسقاط النظام، ثم حاولوا توجيه الجماعات المسلحة من تركيا والأردن”.
ولم تكن الحياة في المناطق السورية التي سيطرتْ عليها المعارضة المسلحة تشبه الصورة التي كانت غالبية الشعب السوري تحلم بها، حين انتفضت ضد الاستبداد، فقد كانت الهيمنة، عموما، للتنظيمات الجهادية التي أرادت أن تَحْكُم السكان وفق “شريعتها”، فأنشأت المحاكم “الشرعية” والسجون، ومنعت حرية التعبير والصحافة، وكانت أحيانا تطلق النار على المتظاهرين السلميين المعارضين لها. وارتكبت مجازر بحق المدينيين، حين دخلت بعض قواتها إلى قرى في ريف اللاذقية، وهي ترتكب نوعا من التطهير العرقي والإثني، كما حدث في بعض مناطق إدلب (تهجير الشيعة) وفي عفرين (تهجير الأكراد)، كما مارست “وحدات حماية الشعب” الكردية سياسة مماثلة ضد مناطق عربية في الشمال الشرقي السوري، ومارست فرض التجنيد الإجباري في مناطق سيطرتها، بما فيها محافظتا الحسكة ودير الزور (مثلما فعل النظام السوري في مناطق سيطرته). وأطلقت فصائل أسماء طائفية وإثنية على تشكيلاتها: “حركة نور الدين زنكي”، “فرقة السلطان مراد”، “جيش السُّنَّة”، “ألوية الفاروق”، “جيش الإسلام”، وهذا لا يعكس طبيعة تفكير غالبية الشعب السوري البعيد عن الاستفزاز الطائفي. ولا يؤتى هنا على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لأن الكاتب لا يعتبره، على الرغم من خطورته، ظاهرة سورية، وتستوجب دراستها سياقا منفصلا.
أما المعارضة السلمية، بجناحيها الليبرالي واليساري، فقد همشتها الدول ذات الوزن، والتي رأت في الخيار العسكري، بدماء السوريين وعلى حساب وطنهم، ضمانا أكبر لإدارة الصراع وفق مصالحها المتصارعة، أو جرى استقطاب بعض رموز الليبراليين من الدول التي تبنّتهم، من دون أن تتبنى قضاياهم بشكل عام. وللأسف، حيل بينهم وبين لعب أي دور فاعل في الأحداث، بل يؤخذ على غالبية المعارضين الليبراليين السكوت عن كثير من ممارسات الفصائل المسلحة وعدم إدانتها.
إذاً ما يزال الشعب السوري بعيدا عن حل سياسي يضعه على بداية الطريق نحو حياة أفضل، بعد تسع سنوات من القتل والدمار ومقتل ما يزيد عن ستمائة ألف إنسان، معظمهم من المدنيين، ومعظم هذا الدمار والقتل كان على يد النظام الذي قُتل تحت التعذيب في مراكز أمنه عشرات الآلاف، بما فيهم نساء وأطفال، وما يزال قرار مجلس الأمن 2254 الذي ينص على مرحلة انتقالية، تنتهي بتقرير الشعب السوري مصيره بدون أنياب، وما يزال الشعب السوري وما تبقى من وطنه يُطحن بين حجري الرحى: النظام والقوى الجهادية الظلامية. وكما قال تشومسكي قبل سنوات: إسرائيل وأميركا تستمتعان بالمشهد بينما تنحدر سورية نحو الانتحار.