من الظلم مقارنة دخول سجن في عالمنا العربي مع أي سجن في العالم

سعد بن طفلة العجمي وزير الإعلام السابق في الكويت

الجمعة 10 أبريل 2020 0:03

كنا شباباً نقرأ “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و”بيروت بيروت” لصنع الله إبراهيم، و”شرق المتوسط” لعبد الرحمن المنيف. جسدت الرواية الأخيرة بطلاً نتخيله بسجون الأنظمة العربية الوحشية التي يدخلها الشخص ويختفي لمجرد أنه لم يطبل للنظام الحاكم. وبقي بطل الرواية لسنين يعاني التعذيب والقهر والظلم والسجن الانفرادي. شخصية ذلك السجين تجسدت لاحقاً في السجين السوري رياض الترك، وهو شخصية سياسية سورية يسارية، ولد في حمص عام 1930 ودرس الحقوق واعتنق الشيوعية منذ سنوات شبابه الأولى وتعرض للاعتقال مرات عدة في الخمسينيات والستينيات، وكان أطول اعتقال له في سجون حافظ الأسد امتد ثمانية عشر عاماً من عام 1980 وحتى عام 1998. ودخل السجن في عهد بشار الأسد عام 2001 وبقي في السجن شيخاً مريضاً لشهور بتهمة ازدراء النظام والتحريض عليه، وسبق التهمة لقاء تلفزيوني هاتفي علق فيه على موت حافظ الأسد بقوله: مات الديكتاتور.

وكان رياض الترك من أشهر السجناء العرب، ومن أشهر ألقابه “ابن العم”، لكنه اشتهر بلقب “مانديلا سوريا”، واشتهر خارج سوريا بـ “مانديلا العرب”. ومعروف أن نيلسون مانديلا شخصية تاريخية مناضلة ضد الظلم والتمييز العنصري في بلاده جمهورية جنوب أفريقيا، وقد قضى في السجن سبعة وعشرين عاماً نتيجة موقفه الأسطوري الرافض لنظام “الأبارتايد” العنصري في بلاده.

لكني أظن أنه مخطئ من يحاول مقارنة “ابن العم” رياض الترك بنيلسون مانديلا الذي اشتهر بلقب ماديبا داخل جنوب أفريقيا والذي يعني “الأب” باللغة المحلية.

أقول إنه من الظلم مقارنة دخول سجن في عالمنا العربي العتيد- وتحديداً سجون نظام البعث الأسدي أو الصدّامي- مع أي سجن في العالم وإن كان سجن الأسطورة نيلسون مانديلا، حتى وإن كانت مدة سجن مانديلا أطول بكثير من سجن الترك، فثمانية عشر يوماً- وليس سنة- في سجون أي نظام وحشي ديكتاتوري في عالمنا تعادل عشر سنوات في سجون جنوب أفريقيا العنصرية.

دخل رياض الترك السجن من دون محاكمة ومن دون توجيه تهمة رسمية، لأنه عارض وحشية نظام الأسد- خصوصاً سرايا الدفاع التي كان يقودها شقيقه رفعت الأسد- في قمع التمرد ضد النظام في حماة وحلب وحمص عام 1980، وبقي في السجن الانفرادي ثمانية عشر عاماً، تخيلوا وحشية نظام يسجن إنساناً من دون تهمة كل هذه المدة انفرادياً في زنزانة طولها وعرضها واحد: متران فقط تحت الأرض من دون شمس أو ضوء أو فسحة خارجها.

قبع نيلسون مانديلا في سجن في جزيرة روبين مع سجناء آخرين، بل وبعضهم من حزبه- المؤتمر الوطني- حيث مارسوا الرياضة والسياسة وهربوا البيانات والتصريحات، بل تعلموا وقرأوا وكتبوا، ومن بينهم جيكوب زوما الذي حكم جنوب أفريقيا بعد رحيل رفيقه نيلسون مانديلا. كان زوما أمياً فتعلم القراءة والكتابة في السجن. أما مانديلا نفسه فقد أنهى دراسته الجامعية التي أوقفها الاعتقال وحصل على شهادة في الحقوق أثناء سجنه.

في عام 2002، وبعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، قمت وصديق كويتي كان معتقلاً في العراق أثناء احتلال الكويت بزيارة الجنوب. ومن ضمن المعالم التي زرناها معتقل الخيام الذي صار رمزاً للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكان دليلنا الذي يشرح لنا واقع المعتقل أثناء الاحتلال سجيناً سابقاً فيه. تعجبت من هول المعتقل وألوان الاضطهاد فيه، فمال علي صديقي وهمس في أذني، “هذا المعتقل يعتبر فندق خمس نجوم مقارنة بالمعتقل الذي كنت فيه بالعراق”.

أدار ملل الحجر الصحي تحكم التلفزيون لأرى أمامي رياض الترك على شاشة “بي بي سي” العربية، التي تلاشت أمام ناظري منذ سنين بسبب تراجع مستواها المهني ومحتواها الإعلامي، فغرت فاي إعجاباً وفرحاً للاستماع لأيقونة من أيقونات الحرية العربية، رياض الترك على الشاشة، تحولت إلى “آذانٍ صاغية”، سأستمتع لبعض آهات السجون بحديثه. خاب مسعاي بسبب من أجرت المقابلة، الإعلامية جيزيل خوري، شرقت وغربت بأسئلة تافهة لم تركز على أساس هذه الشخصية الفريدة وهي تجربة السجون، بلا تحضير وبلا ذكاء إعلامي ولا جهد في الإعداد، فبدت الأسئلة متفرقة ومبعثرة وسطحية أضاعت وقت المقابلة ففقدت المقابلة أهميتها، وشعرت بأسى لأن المقابلة أضاعت الدروس والأهداف من شخصية كهذه، لا أظن جيزيل خوري قد قرأت من أدب السجون قبل المقابلة شيئاً، ومن المؤكد أنها لم تقرأ رواية “القوقعة” للسوري مصطفى خليفة الذي عاد من دراسته بفرنسا مهندساً ليعتقل ويختفي في سجن تدمر ثلاث عشرة سنة بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين من دون محاكمة، يذكر أن مصطفى خليفة من مسيحيي جرابلس في شمال سوريا! ولم تسأل جيزيل “مانديلا العرب” عن مدة سجن بشار الأسد له ولا كيف خرج منه. ولم تكلف نفسها عناء السؤال عن طريق الخروج من سوريا قبل عامين من إجراء المقابلة كي تركز على نقطة معينة في ذاك الطريق الأخير خارج سوريا، وجاء آخر سؤال في المقابلة كي يختزل الخيبة من متابعتها:

هل تعتقد إنو كانت بتحرز؟ هل كانت بتحرز هذه المسيرة النضالية أن تمضي أفضل سنين حياتك بالسجن؟”.

وكان الضيف أكثر غرابة من السؤال فقال: “شو؟ شو؟”.
بقي رياض الترك رمزاً للنضال الدؤوب ضد الدكتاتورية في سوريا، حتى غادرها قبل عامين (2018) إلى فرنسا، غادر شيخاً شارف على التسعين من عمر قضى معظمه في السجون، وأتمنى لو أن هناك من يسجل سيرة حياته في السجن بطريقة سردية أكثر مهنية، ويجري حواراً ذكياً تفصيلاً للوقوف على معاناته في السجن حينها، ليكون توثيق ذلك بمثابة تسجيل رسالة تضامن مع كل السجناء العرب في سجون القهر العربي الوحشية من دون محاكمة وفي زنازين انفرادية.