لا تخطئ العين الناقدة في مستوى مقبول من التبصر، أن لشخصية (رياض الترك)، القائد السياسي السوري المعارض، أربعة أبعاد مُزجت في مزيجٍ مركبٍ، واحديِّ البنية. وأن هنالك بعضَ الصعوبة التي قد تعترض أغلبُنا، (إن لم أبالغ بالقول: جميعُنا)، في تفكيك مثل هذه الشخصية الفائقة التعقيد. ولن يذهلَ أي مؤرخ أو متابع ومراقب على درجة من الحصافة للواقع السوري، عن أن شخصية رياض الترك إنما هي شخصية تأويلية أكثر مما هي فيزيائية. أي أنها قابلة للفهم بالحدس المباشر، أكثر من قابليتها للاختبار في مخبر دراسي للأبحاث. وهذه الملاحظة الأخيرة قد تنسحب على السياسة بشكل عام، تفكيراً وممارسة، أكثر مما تنطبق على الشخصيات السياسية. في هذه الملاحظة الأخيرة، ربما كانت السياسة تستعير من الفن مبدأ قابلية التعدد وتأويل الأوجه المشهودة، أكثر مما تقترض من العلوم والمعارف الباردة، والقطعية الثبوت.

الأبعاد الأربعة التي يجب أن نعزلها مؤقتاً في شخصية رياض الترك، يمكن إفرادُها كإجراء استقصائي، يُسَهِّلُ عمليةَ فهم المُرَكَّب، أكثر مما يصفه وصفاً خارجياً، هي: أولاً: رياض الترك السياسي التاريخي المعارض للنظام (في سياق المعارضة التاريخية السورية التقليدية). ثم ثانياً: رياض الترك الثائر ضد الاستبداد السياسي للسلطة القائمة في سوريا منذ ما قبل وحدة 1958 بين سوريا ومصر، والمشارك في كل الانتفاضات الشعبية ضد أنظمة الاستبداد، حتى الثورة السورية في 2011.  وثالثاً: رياض الترك الإنسان. اليتيم الفقير، الذي نشأ في ملجأ للأيتام حتى ما بعد دخول مرحلة الدراسة الابتدائية، وصولاً إلى شخصية رياض الترك القانوني، خريج كلية الحقوق، ثم الزوج والأب، ورب العائلة المسؤول. ورابعاً: وأخيراً، رياض الترك الذي حمل في المُخيّلة والذاكرة السورية الجمعية، لدى النخبة الخاصة والعامة الشعبية، رمزية مقاومة النظام ـ وكل أنظمة الاستبداد السابقة له ـ على عاتقه منذ أكثر من ستين عاماً إلى اليوم. حتى تفرَّدَ تقريباً من بين مجموع السوريين بهذه الرمزية، التي جعلته في الموضع الذي يصعب أن يحتلَّهُ غيرُه أو ينافسَه فيه. على الأقل حتى وقتنا وأوضاعنا الراهنة.

إذن هنالك أربع نسخ لشخصية رياض الترك: المعارض، والثائر، والإنسان، والرمز. مع يقينٍ مسبق بأن هذه مغامرة تشريحية غير مسبوقة، ومحفوفة بالمغامرة والصعوبات التي لابد منها. وقبل أن أخرج من هذه المقدمة، ينبغي أن أسجل بأن البعد الرابع من شخصية الترك، هو البعد الوحيد المُجمَع عليه سوريّاً، والذي لا مشاحة فيه ولا خلاف حوله بين القوم، عكس الأبعاد الثلاثة الأولى. والتي هي موضع خلاف وجدال لم ينته حول الرجل منذ عقود، وليس مظنوناً أن ينتهي قريباً، حتى بعد وفاته بزمن طويل. وأن طبيعة المشكلة كلها تتلخص في إنكار هذه الرمزية (ضمناً) بدلالة المجادلات التي تدور رحاها (علناً)، في حقول الأبعاد الثلاثة الأولى، التي تُسهل عملية رفض هذه الرمزية، وتفتح أبواب الإنكارات على مصاريعها.

منذ ستينات القرن الماضي، وحتى جزءٍ من العشرية الأولى بعد الألفين، كان الحال السياسي السوري، كنظائره في الوطن العربي على امتداده. لم يكن هنالك من سلطات حاكمة سوى الأنظمة الديكتاتورية الشائخة الباطشة. ولم يكن ثمة من معارضة لها، إلا أحزاباً وتجمعاتٍ وقوى استحوذت عليها منظومات القوى الثلاث السائدة في الوطن العربي: اليسارية، والقومية، والإسلامية الدينية. سوى هذه القوى المعارضة لن تجد بالكاد غير حالات فردية قليلة، لا تكاد تُذكر أو يصلُ صوتُها لأحد، أو يتعرف عليها أحدٌ. كانت الأفكار الليبرالية التي يُنادَى بها اليوم، من حرية وديمقراطية وحق المواطنة والمساواة والعدالة للجميع، والفصل بين السلطات الثلاث، ونبذ التمييز العرقي الإثني والطائفي الديني، كانت ـ في عقود ما قبل الثورة السورية ـ مجرد أفكار مستهجنة، سخيفة وسفيهة، ومقرفة وتثير الاشمئزاز. لا.. بل كانت تحظى بأعلى درجة من التقييم في سلم “الخيانة”.

الفكر القومي كان يعتبر الليبرالية وشعار الحرية مؤامرة خارجية على الأمة، وعمالة لإسرائيل والإمبريالية، وخيانة صريحة وتدخلاً خارجياً وقحاً يترقى إلى مصاف إعلان حرب على الأمة العربية جمعاء. اليساريون كانوا يعدون هذه الشعارات، هي تحديداً وضبطاً، شعارات الإمبريالية الأمريكية وربيبتها إسرائيل في المنطقة، وهي معتقد البورجوازية المعادي بسفور وصفاقة للشعوب المُضطَهَدة المحبة للسلام، وللطبقات البروليتارية الكادحة والفلاحين والمسحوقين من الفقراء. أما الإسلاميون، فكانوا يختصرون الحكم عليها بكونها كفراً بواحاً، وردة صريحة عن حاكمية الله ودينه، كافية لخروج المنادين بها من ملة الإسلام، وخلودهم في نار جهنم.

في هذا الوسط، وتلك الأجواء ذات الألوان والروائح المتقاربة والمتشابهة، تفتَّح وعي الترك، وتعرّف على أولى خطواته الكفاحية، في وعي مجتمعي يعززُ من قيّم الفاشية ويرفعها إلى رتبة القداسة، ولديه كل القابلية لإبادة الآخر المغاير. ويرى كلَّ الخير والمثل الأعلى في استئصال الخصوم، والحكم بنكوص ورِدة كل خارج أو آبق أو مخالف. فاستحق بحق، لقب (الطريد المطارد) من كل المحيط: اليسار الماركسي لأنه انقلب على إرث الأب ـ الرب، خالد بكداش، الذي دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بكونه أقدم أمين عام وقائد وزعيم سياسي لحزب واحد، لفترة قاربت ثلاثة أرباع القرن، أو تخطت ذلك بعد أن أورث مقعده في قيادة الحزب الشيوعي لزوجته، عقب موته، والتي بدورها، تنازلت عن المنصب، ومقعدها في قيادة حزب العائلة، وأورثته بعد موتها لابنها البكر عمار حتى يومنا. فكان الترك في رأس قائمة المطرودين والمطاردين، في حزب العائلة الماركسية اللينينية الحاكمة. 

أهل القومية العربية، وأحزابها الحاكمة، لم يتعدوا الحكم على الرجل بكونه شرَّ المطاردين المطلوبين، فاعتقلوه مراراً وتكراراً، منذ الوحدة السورية المصرية، مروراً بفترة البعث والأسدين الأب والأبن، حتى اقتربت فترات تغييبه في المعتقلات قريباً من ثلاثة وعشرين عاماً. أما الإسلام السياسي بكل فئاته، فقد طرده من رحمة الله، تخوفاً من أن يحوز قصب السبق في امتلاك رمزية مطلقة، لمرحلة خلت من الرموز الكبرى المُحرِّضة والجاذبة للجمهور العام. فكان يتوجس ريبةً من رمزية الرجل الأسطوريِّ العناد، في وجه البغي السياسي والحكم المطلق والديكتاتوريات الفردية.

يمكن التعرف على حقيقة لم تعد موضع جدال؛ وهي أن الجانب الرابع في محمول شخصية الترك: “الرمزية”، هي التي كانت وحدها مطرودة ومطاردة، دون سواها. إنه الابن الذي خرج على اليسار الأبوي البطريركي، لكي يقتلَ الأب رمزياً، ويَرِثَهُ ويُحِلَّ محلَّه ديانةَ عبادة الابن، كما يرى آباء التحليل النفسي، وبذلك تحول الترك من شخصية سياسية، إلى عقدة فردية وجماعية، حزبية ومذهبية. فهو الابن الذي قرر بعزم وإصرار عنيد، أن يُطيح بـ (الأب السوفياتي)، بكل رمزيته، وهو الابن الذي حمل صليبه وتهمته، بمحاولة قتل الأب الكبير بكداش، وقتل الأب الكبير الآخر، القائد الخالد حافظ الأسد، بل وصل به الأمر إلى الابن بشار الأسد (الذي كان ابناً، فتحول ليكون أباً بديلاً عن أبيه). 

أَوَلم تَدْرُجْ الحضارة الإنسانية منذ مدارجها الأولى، قبل آلاف السنين، على رمزية قتل الأب وحلول الابن محله؟ ألم يكن أبعد نكران اليهود وجحودهم، هو القول: “حذارِ أيها المسيحيون.. إنكم تخرجون من رحمة الله وديانته، باتباعكم يهودياً مُرتدَّاً جاحداً لفضل الأب يَهْوَه، زاعماً بعد ردته وجحوده، أنه هو الإله البديل عن يَهوه.. وأنه هو المسيح ابن الله“؟ 

ففي كل واقعة سياسية جزئية قابلية للتأويل، بمقدار ما في الواقعة المُفَسِّرة والمُأَوِّلة من قابليات عقلية وعاطفية وسايكولوجية. بهذا المعنى فإن اختبار الواقعة السياسية ورموزها الفاعلة الرئيسية، سوف يفضي بالضرورة إلى قابليات للتأويل والفهم متعددة ومتراكبة، بمقدار تعقيد الشخصية السياسية نفسها. 

مراحل تكون العقدة النفسية، الفردية والجماعية، التي يجتازها العصابيون، كما يرى آباء التحليل النفسي الكلاسيكي، هي المراحل التالية: صدمة مبكرة. غياب الصدمة في طوايا النسيان. كبتها لسنين طويلة ومنعها من الطفو على سطح الوعي المبكر بها، ومقاومتها بشدة كل تلك الفترة. محاولتها العودة إلى دائرة الاستذكار، ورفض وكبح كل محاولة لها للخروج من طوايا اللاشعور بها من ظلام النسيان. تحولها بسبب المقاومة والرفض، إلى سلوك رمزي يقاربها أو يُنَفِّس مكبوتاتها بالتثبيت على ذلك السلوك، للخروج من محاولتها اليائسة الظهور الى مساحة الشعور بها. استقرار العُصاب عند محاولة تثبيتها برمزية جديدة تكون بديلاً عنها. (وهو ما يسمى في المصطلح التحليلي: التحول والتثبيت).. هذه باختصار، هي مراحل سيرورة العقدة النفسية، منذ مهد الإنسان، وحتى نهاية رحلته في الحياة.  

إذا تجاوزنا بعض الاستثناءات القليلة في مجموع النخب السياسية السورية، فإن الوصف العام لشريحة ليست قليلة العدد، يمكن وصفها بأنها فئة تعيش حالة عُصابية نفسياً، رافضة لفكرة ترميز الابن كبديل عن رمزية الأب. وإن ظلت تجادل بأن “الأمر ليس كذلك”. 

عقدة رمزية الأب، التي تصاحبها ـ كأعراض ـ مشاعر ضدية متباينة: إثمية شديدة مصحوبة بالخوف والقلق، مقابل ريبة وعدوانية شديدة مصحوبة بعداء سافر لكل شيء. هذا الألم الباطني الذي يعيشه العُصابي من الطفولة وحتى خاتمة العمر، لا يُحتالُ عليه مؤقتاً، لكي يُخَفَّفَ من وطأته ويبرد لهيبَه الذي لا يكاد يهدأ، إلا بالاعتذار لمرموزات الأب المقتول وإسقاطاتها، ورفض رمزية الابن واسقاطاتها، كنوع من تبرئة الذات ـ لا شعورياً ـ من تهمة قتل الأب. 

وحتى أقربَ الفكرة بمثال واضح: لك أن تتخيل، على سبيل الفرض، أن رياض الترك، هو من فاوض النظام الأسدي المجرم على التنازل عن جزء من الوطن، وجغرافيته أو بعض أقاليمه ومحافظاته، مقابل الظفر بالنصر والاستيلاء على السلطة.. وليس لينين الذي فاوض الألمان المهاجمين، على أن تتنازل روسيا عن مقاطعتي “بريست ـ ليتوفسك”، مقابل السماح لها بالخروج من الحرب العالمية الأولى، وذلك لكي يضمن تثبيت وانتصار سلطة الحزب الشيوعي وعدم تهاوي السلطة السوفياتية. ولك أن تتخيل كذلك، أن رياض الترك، هو من قتل عشرين مليون إنسان من شعبه، وأقدم على تهجير شعوب وأمم سوفياتية من أراضيها في سبيل توطيد أركان الثورة وديمومتها، وضمان تقدمها واستمرارها، وليس ستالين..

إذا تخيلت هذه المتخيلات السابقة، بالوسع الآن فهم وتصور مقدار مقاومة العُصاب العنيدة، لفكرة القبول برمزية انتصار الابن على الأب. أما الدعوات المُرسلة بأن الترك قد (تحالف مع الإخوان)، وأنه (جرَّ الثورة السورية جراً إلى التسلح)، فـ(هو وحده من يتحمل تبعات فشلها)، فسوف أُعرِضُ عنها ولن أناقشها كثيراً، لا لأنها أُشبِعت جدالاً بلا طائل حتى اليوم، بل لأن من ينادون بها، لم ولن يستطيعوا أن يبرهنوا عليها برهاناً وثيقاً مؤكداً بالأدلة، ولأنها ـ كما أعتقد ـ هي بعض المُسَكّنات المهدئة التي تخففُ من ضغط العُصاب النفسي وصداعه وقلقه، حتى ينجو العُصابي، مؤقتاً، من الاعتراف برمزية عبادة الابن، ويحتفظ بمشاعر الإثمية والعدوانية والتعبد اللاشعوري في محراب عبادة الأب الرمز، بكل تلاوينه التي تمليها عليه الإسقاطات المختلفة المتنوعة، إملاءً قهرياً، ليس بالوسع التخلص منه. 

أختم بالقول، إن المذهب الشيعي في الإسلام، تخلص من عقدة قتل الابن والتحول لعبادته، بما سُمي بالتطبير والشروع في جلد الذات إلى الأبد. بذلك شفى الإثمية اللاشعورية بهذا المهدئ المُسَكِّن لآلام العُصاب النفسي العميقة، والتي تُرَتِّب عليه لا شعوراً قاسياً مُمِضَّاً، بأنه قتل الأب وتحول عنه إلى عبادة الابن (الحسين). كذلك، رمّزت الديانات الابراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، برمزية تخليص الضمير من وطأة هذا التحول و“تثبيته” لا شعورياً من تهمة قتل الابن، برمزية الأضحية، حيث حلَّ الكبشُ حلولاً موافقاً ومناسباً، لكي يُذبحَ بدلاً عن الابن؛ إسماعيل في الإسلام، أو الابن اسحاق في اليهودية. أما بعض النخب الثورية والمثقفة السورية، فقد وجدت حلاً مؤقتاً يخفف عنها عبء العُصاب وآلامه الباطنة بتحميل جريمة فشل الثورة السورية، (بادعاء تسليحه الثورة وتحالفه مع تنظيم الإخوان المسلمين) للابن الرمزي: رياض الترك.

 

معبد الحسون     26/ 4 / 2020