مناف الحمد

يمكن الشخصية أن تساهم في مدّ ظلال بحجم وطن إذا نذرت كل ما تملك لهذا الوطن، ويمكنها أن تصبح من رموز هذا الوطن إذا أصبحت حريته حلمها الذي لا ينازعه أي حلم.
وبقدر ما تصبح المنظومة الشمولية سجناً يكتم أنفاس مسجونيه، بقدر ما تستحيل إلى أفق رحب إذا شرعت أبوابها على التفاعل مع الفضاءات خارج حدودها.
وبقدر ما تحلق الشعارات بعيداً في فضاء المثل، وتجعل مردّديها محل نقد محق، أو سخرية مبررة، بقدر ما تصبح ثماراً دانية القطاف عندما يمتزج السعي إلى تحقيقها بالدم والدمع والألم.
تلك ثلاثة عوامل جعلت من رياض الترك أيقونة لا يجرؤ منتقدوها على مسّ رمزيتها النضالية، وقصارى ما يصلون إليه في نقدهم تعبير عن خلافات في الرؤية وافتراق في المواقف السياسية.
العامل الأول، فقد رصد التاريخ السياسي السوري منذ أكثر من ستة عقود رجلاً ذا هوى رسالي لا يحتل ساحة فكره وقلبه إلا سورية، منذ سن الشباب مروراً بالكهولة التي انصرمت معظم سنواتها في أقبية الاستبداد، وصولاً إلى الشيخوخة التي لم تفتّ في عضده، فعاد بعدها إلى النضال بروح الثائر وعنفوان المناضل.
ليست هذه قصيدة مدح للترك، لكنها وصف موضوعي لأنموذج تجرّد من كل أهواء النفس، واتخذ قراره منذ بداية تفتّق وعيه، أن يكون ذا قضية يخدمها ولا تخدمه، ويعقد العزم على الفناء لأجلها، ولا يمتهنها لأجله.
أما العامل الثاني، فقد تجسّد في تداول الأفكار مع رفاق الدرب من الشيوعيين اللبنانيين، ومع الراحلين الكبيرين ياسين الحافظ والياس مرقص، وفتح العقل على إمكان تلاقح هذه الأفكار لاتخاذ موقف أمسّ رحماً بالواقع الذي يراد تغييره، ومن هنا نؤكد بلا ريب أن من مقومات رمزية الترك أنه لم يرض أن يسجن بين جدران منظومة شمولية مغلقة قائمة على الإغلاق الأيديولوجي، وفتح أمام فكره الأبواب لكي تتفاعل منظومته مع رؤى تجعل المنظومة وسيلة لخدمة الغايات، لا غاية يتلطى خلف الاستحالة الموضوعية لتحقيقها الانتهازيون والمزايدون.
فلسطين والوحدة العربية وضرورة الديموقراطية، نقاط خلاف أساسية بين الترك وقيادة الحزب الشيوعي السوري المستلبة للاتحاد السوفياتي.
مرحلة عقب مرحلة كانت فيها للترك بصمة لا تُمحى، فبعد رفض التغليب الانتهازي للأيديولوجيا، والانشقاق الفعلي عن الشيوعي السوري في بداية السبعينات وتشكيل المكتب السياسي، يأتي الرفض للانضمام إلى الجبهة الوطنية التي أسسها الأسد الأب، وهو الموقف الذي أرّق حافظ الأسد وأربك خططه في تدجين الأحزاب.
ويأتي بعدها الإعلان عن الوقوف ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان، والمساهمة الفاعلة في تأسيس التجمع الوطنيّ الديموقراطيّ الذي تلاه بعد فترة قصيرة انتقام الأسد الأب من التيار الذي يقوده الترك في بداية الثمانينات، والإلقاء به وبعدد كبير من رفاقه في غياهب السجون ردحاً طويلاً من الزمن.
وكانت التهمة الملفّقة عن تحالف الترك مع الإخوان المسلمين، والتي لم يستطع لا نظام الأسد الأب، ولا نظام وريثه، ولا خصوم الترك إثباتها بأي دليل حسيّ.
وفي إصرار فريد من نوعه على رفض الانغلاق على المنظومة الشمولية، يعلن الترك بعد فك أسره الطويل عن تغيير اسم الحزب إلى حزب الشعب الديموقراطي السوري الذي يتبنى الديموقراطية الاجتماعية، في مواكبة لا بد منها لمتغيرات العصر، وشجاعة نادرة في التغيير لمصلحة الغاية الأخيرة التي هي سورية الحرة الكريمة المستقلة المزدهرة لجميع أبنائها.
ويكون للترك الدور الأكبر في تأسيس مظلة وطنية جامعة للقوى السياسية السورية عبر إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي.
ودور أساسي آخر لا ينكره إلا مكابر أو جاهل في تأسيس قوى الثورة السلمية عند انطلاقتها، وفي تأسيس كيانات المعارضة، وعلى رأسها المجلس الوطني السوري.
والعامل الثالث هو ما تعرفه الغالبية عن الزنزانة الانفرادية التي خرج منها الترك بعد سبعة عشر عاماً بنفس قوته وثوريته وعنفوانه، والتي وصف بعدها الأسد الأب بالديكتاتور في شكل علني، وطالب الأسد الابن بالإصلاح أو الاعتزال في منتدى الأتاسي الذي ساهم في تأسيسه معرّضاً نفسه لعسف النظام ومعتقلاته مرة أخرى.
وهي التجربة – مع أخرى قبلها وبعدها من تجارب الاعتقال – التي جعلت الترك مساهماً في صبغ كلمات العدالة والحرية والديموقراطية بصبغة وجدانية ودلالات رمزية، لأنه مزج النضال لأجلها بالتضحية والألم وأشد صنوف المعاناة.
نظن أن الناس ثلاثة أصناف:
صنف لا يأبه إلا لأهوائه، فمثل هذا لا يكون إلا بهيمة في صورة إنسان.
وصنف تتنازعه الرغبة في الانسلاخ عن أهوائه والتوق إلى تمثل القيم، فتراه غادياً رائحاً بين العالمين، متقلباً بين إفراط وتفريط.
وصنف يملك إرادة جبارة تجعله يتجرد عن أهواء نفسه، وينذر نفسه لقضية كبرى فيستحيل هو إلى رمز، وهذا هو الصنف الذي ينتمي إليه الترك، والذي يجعل نفراً من الصنف الثاني يرى فيه نقصه، فيناصبه العداء، ويترقب له الأخطاء والزلات. وهو ما يستبطن إحساساً عميقاً بالنقص، لأنه يطالب الرمز بأن يكون ملاكاً بلا أخطاء. ولا يطالب بهذا إلا من أدرك هذه الرمزية، وجعل صاحبها – من دون أن يفصح – في مصاف الملائكة غافلاً عن أن صاحب هذه الرمزية مهما بلغ في رمزيته سيظل بشراً له أخطاؤه، ومن غير المحظور نقده.
* رئيس تحرير موقع حزب الشعب الديموقراطي السوري