المثنى الشيخ عطية

الديكتاتور والمثقف، يجتمعان كفصلٍ محوري من فصول جحيم الديكتاتوريات، في رواية “بلاد القائد” للروائي اليمني علي المقري: الأول في ذروة تسلطه واستبداده وفساده واستيهاماته التي تودي به إلى مصير تحوله الذي لا يحتمل مناصاً آخر، جثةً مغمورةً بالبراز على يد وأفعال انتقام الثوار؛ والثاني في حضيض احتياجه وتورطه وحيرته في صورة نفسه متورطاً بمغامرة كسبٍ مخزيةٍ لصورة المثقف، وإن بتبريرات حاجته للمال من أجل علاج زوجته التي يحب.

في إبداع هذه الرواية القصيرة نسبياً، على صعيد السيناريو، يلتقط المقري فكرةً بالغة البساطة، والقوة الروائية إن أمكن تحقيقها، هي الحاملة بذاتها مقومات هذا التحقيق؛ وتتجلى هذه الفكرة في قبول روائي معروف، المشاركةَ المأجورة سراً في كتابة سيرة ديكتاتور إحدى الدول العربية، والقيام من خلال تنفيذ هذه السيرة ببلورة الصورة الوهمية التي يصدرها الديكتاتور وتابعوه عن نفسه، وبلورة نقيضها الذي يحمل وجوه الحقيقة عن هذه الصورة. كذلك إضافة تصوير المآلات المصيرية لأفعال الديكتاتور وانتهازية المثقفين، وهو ما يوفره له الواقع الذي حدث فعلاً في بعض ثورات الربيع العربي، ويحدث في الصراع المأساوي المفتوح الذي لا ينتهي بين الاستبداد والحرية.

وفي هذا السيناريو البسيط يتجلى التعقيد الشائك عند التنفيذ الروائي، فبلورة صورة ديكتاتورٍ روائياً ليست بأمر سهل على الإطلاق، في ظل ما تم الشغل عليه من روايات عالمية وعربية ناجحة كروايات أستورياس وماركيز، توْقِع سالك طريق البلورة هذا في فخاخ النسخ والتكرار. وكذلك في ظل تتبع وتحليل استنقاع الآبار وجريان الأنهار الجوفية النفسية لشخصية الديكتاتور، التي تؤثر في صنعها على صورة السفاح عوامل معقدة تتعلق بمنتجات العصر الذكوري الأبوي، وعلاقة الديكتاتور بأبيه وأمه وإخوته. إضافة إلى ما تنتجه تعقيدات هذه العلاقة من مشاعر الدونية وإثبات الذات للأب، والذي يصل إلى حدود تهورات التفوق على الأب، كما حدث على سبيل المثال مع بشار الأسد الذي عاش إلى جانب نقصه أمام أقرانه، عقدةَ نقص تفضيل أخيه من قبل أبيه، والتي دفعته لأن يتفوق على (الأب القائد) في ارتكاب المجازر بهولٍ لا يضاهى، وبجبن متأصل في شخصيته المصنوعة من عقد الدونية ومساعي الإرضاء، كما أشارت العديد من الدراسات حول هذه الشخصية. يضاف إلى هذا كله تفرد الحالات النفسية للإنسان، رغم تشابهات شخصيات الديكتاتوريين وأفعالهم، والتي أجبرت كما يبدو الروائي المقري على حصر أكثر من ثمانين في المئة من شخصية ديكتاتوره في ديكتاتور ليبيا معمر القذافي، الذي تشير سيرته الحقيقية وشخصيات أبنائه وأفعال جرائمه وأحداث مصيره إلى تشابهه مع ديكتاتور الرواية بوضوح، رغم تصريح الروائي على إحدى القنوات الفضائية أنه جمع شخصيات ديكتاتوريين وعرب في هذه الشخصية.

ويستطيع القارئ المحترف للرواية خلال توغله فيها، تلمس مأزق ما وضع الروائي نفسه فيه، وتلمس جرأته في التوغل في غابة أغرته حفاوة استقبال طلائع أشجارها الساحرة له، وتلمس إيجاده لحلول فك تشابكات أشجار غابته، واختيار الطريق الذي يجنبه الفخاخ، ويوصل روايته إلى النجاح. ويبدو جلياً (بتصريح الراوي مع نجاح حله المبتكر، المتداخل بتألق مع بنية السيرة التي وضعها الراوي مع الديكتاتور، كفصوص عقد، وتركيز محور روايته على الخوف الذي يشيع في بلاد القائد ويمسخ كل ما حوله)، أن المقري الذي سار على صراط خطر في بلاد القائد، قد وجد طريق إنتاج رواية ناجحة مفتوحة النهاية وممتعة في الوقت ذاته، وإن لم تَطِرْ على بساط ريح الواقعية السحرية الذي حمل روايات مشابهة إلى جائزة نوبل:

“فكرت وأنا أستذكر مشهد الجثة الوسخ الموزع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي صارت منتشرة، بأن أسمي الفص المئة وواحد بـ: فص القذى، معطياً وصف الجثة كلمة أكثر تهذيباً، كما عمل البعض من قبلي. أي اسم كان سيطلق على هذا الفص الذي أراده أن يكون الأعظم؟ أراده في مئة كلمة وكلمة، بزيادة كلمة عن الفصوص الأخرى. لن أتقيد بتوجيهه، فقد انفرط العقد، أو نصفه على الأقل، ومعه انفرطت التعاليم، بل والإطار انفك، وها أنا أكتبه، الآن، بلا عدد للكلمات أو إطار. ربما يكون هذا الفص فاصلاً، بين قسمين من العقد، وقد صار القسم الثاني متروكاً للآخرين، وعليهم هم وحدهم، أن يكملوا شكل وتنظيم وتسمية وكتابة فصوصه المتبقية”.

على صعيد البنية، يشكل المقري روايته من أربعة أجزاء تحمل أسماء فصوص، ثلاثة منها مأخوذة من تكوين كتاب سيرة الديكتاتور الذي توافق “راوي” المقري معه أن تكون السيرة على شكل فصوص عقد جمان، بعدد مائة وواحد فصّ، أي بزيادة فصين عن عدد حبّات المسبحة الإسلامية البالغة تسعاً وتسعين حبّة، بعدد أسماء الله الحسنى، التي يطيب للديكتاتور التماهي بها. والفصّ الرابع، وضعه متوافقاً مع واسطة عقد الفصوص الذي يشرح مآل سموّ الديكتاتور إلى جثّة مغطاة بالبراز بعد سقوطه. ويتكون كل فصّ من أقسام صغيرة مرقّمة بعدد يتراوح بين الخمسة والتسعة: (فصّ المرجوّ 9 ــ فصّ المبجّل 6 ــ فصّ الاكتمال 6 ــ فصّ القذى 5). ولا يراعي المقري في تكوين فصوله عدد الكلمات التي اقترحها الديكتاتور بمائة داخل كل فصّ، ومائة وواحد كلمة داخل واسطة عقد الفصوص، حيث تختلف صفحات وأعداد كلمات كل فصّ، وفق السرد الطليق الذي يقوم به راوي الرواية.

على صعيد منظومة السرد، يلجأ المقري إلى البساطة المتألّقة المتناسبة مع احتياجه لبلورة شخصيةِ مثقّفه كمتورّط بانتهازية الانتفاع السرّي، وكشاهدٍ على ما يرى ويسمع من أحداث. وهو يقْصر السّرد على راوٍ وحيد هو الروائيّ الذي يتورط بمشاركة لجنة الديكتاتور في كتابة سيرته، ويكشف من رواية هذا الراوي جحيم الخوف الذي عاشته بلاد القائد الديكتاتور منه، وجرائم القائد الفانتازية التي تتجاوز فنون القتل والاعتقال في ما يسمّى جزيرة الموتى، إلى اغتصاب النساء والفتيات والأولاد. هذا إلى جانب تصدير نفسه وتصدير أتباعه المسوخ له، كما فعل القذافي ويفعل بشار الأسد والسيسي، كقائدٍ ومرشدٍ للبشرية، وتعليةِ هذه النفس المهلهلة الرخيصة إلى مصافّ الربّ، باحتيال سقيمٍ مضحكٍ ومبكٍ بآن.

وعلى صعيد القراءة، يتجلّى لقارئ هذه الرواية بوضوح فني، ومن دون مباشرة تُسقط الروايات عادةً في مزالق التمجيد، موقفَ الروائي الأخلاقي من الديكتاتوريات، وانحيازه لحرية الناس، مع كشف تغيّراتهم ومواقفهم خلال لحظات تغيّرٍ كبيرة نوعية مثل الثورة. وكذلك كشف انزلاقات الإنسان في هذه اللحظات إلى نزعة الموت التي يغذّيها الخوف أكثر من انزلاقها إلى نزعة الحياة، مع إدانته كذلك لمواقف المثقفين المنتفعين، وإن ببعض تعاطفِ المسامحة لانزلاقاتهم في مخازي الانتفاع، ولكن أيضاً في تبيان مآلات هذا الانتفاع التي تتضمّن الخسارة والخزي.

والمقري، شاعرٌ وروائيّ يمني، ولد عام 1966، أصدر عن دار الساقي روايات عديدة، وتمَّ اختيار روايتيه “طعم أسود.. رائحة سوداء” و”اليهودي الحالي” ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” في دورتي 2009 و2011. كما حازت روايته “حرمة” بترجمتها الفرنسية على تنويه خاص من جائزة معهد العالم العربي للرواية ومؤسسة جان لوك لاغاردير في باريس 2015، وفي السنة نفسها اختيرت روايته “بخور عدني” ضمن القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، وتُرجمت أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والكردية.

علي المقري: “بلاد القائد“

منشورات المتوسط، ميلانو 2019

126 صفحة.