المثنى الشيخ عطية

ربّما يكون عبثاً أن نعيد المكان إلى ما كان، حين ينظر الزمن بعين السخرية، إلى ما وفّرنا له من تفاصيل أكبر مما تَوفّرَ له من حياة.

ربّما نصدق قول: “ما الحياة إلا مسرح، وما المسرح إلا حياة”، وربّما دفعتنا آلامُنا وأسرارُ خذلان الآخرين لنا إلى ارتداء ثياب هاملت، وصنع مسرحيتنا التي نكتشف فيها تداخل المسرح والحياة…

ربّما رأينا بأمّ أعيننا هذا التداخل ونحن على المسرح، ورأينا انكشاف أسرار الآخرين من ردود أفعالهم في المقعد المقابل لنا، حيث: “يمكن لمسرحية أن تدعي أنها تشبه الحياة”، وحيث نستنتج أنه: “لا يمكن التلاعب بالحياة”، وفق كشف مسرحيتنا لما خفيَ في هذا التداخل، ولكنْ، من يحمي أعيننا من سطوع الحقائق، وكيف علينا ولنا أن نتصرف بعد أن فرض الزمن حقائقه على حياتنا؟

في الارتقاء بروايةٍ تتوخّى عرض تاريخ مرحلةٍ أو مراحل تاريخية من خلال المكان وشخصيات المكان، كما تتوخّى عرض المكان الذي ربّما كان أيضاً من صناعة هذه المراحل؛ تصهرُ الروائية الفلسطينية سعاد العامري، في روايتها “دمشقيَ”، التاريخَ بعمقِ الثقافة ودقّة الحرفة الروائية، لتصنع روايةً مبدعة أقلّ ما يُقال فيها أنها تضرب سَحَاب الأعين التي عَرفت دمشقَ القرن الماضي بصاعقةِ الدمع الذي سينهمر متخطياً تأثير الذكرى، إلى عيش الإعجاب بالسرد الشهرزادي الروائي البسيط في تألقه، وإن لم يستخدم الواقعية السحرية إلا قليلاً، لأحد فصول أحد أهم المدن التي عرفها التاريخ، دمشق:

“كنت أنا من عبّر عن الغضب هذه المرة قائلةً: “ها هي تعود إلى كلامها المباح مرة أخرى”. نعم، ينبغي أن أعترف أنني مثل أمي، شعرتُ أن هناك خطأ ما في وجود نسخة طبق الأصل من بيت جِدّو نعمان في الدوحة أو في أي مكان آخر. أحسست بالضبط كما شعرتْ والدتي تجاه مرآة الجادينة المطعّمة بالصّدف والكراسي الاثني عشر التي جاءت معها: نسخةً من بيت جِدّو نعمان، ولا يمكنها أبداً أن تكون البيت نفسه. لم أستطع، بقدر ما أحببتُ نورما وأُعجبت بمواهبها وقدراتها، أن أفكّر أو أتخيّل أو أقبل بهذا البيت المطابق خارج زقاق الصواف، خارج حيّنا حيّ مدحت باشا، أو خارج دمشق القديمة. ربما كان شعوري الداخلي بأن دمشق مدينتي الحبيبة، ومركز التجمع التجاري والزراعي لبلاد الشام، وكذلك الدول والثقافات العربية المتوسطية جميعها، كانت تفقد بريقها لصالح البلدان العربية النفطية الغنية الفتية”.

في “دمشقيَ”، التي يتداخل فيها التاريخ بالخيال، يتغلب التاريخي الذي توثّقه الكاتبة كما يبدو، بتأريخ الأعوام، وبأسماء الشخصيات مثل شخصية الشاعر نزار قباني، على الخيال. ولكنْ أيضاً بالتقاط لحظاته النوعية التي تجعل منه خيالاً روائياً مبدعاً، يتألّق بربط هذه اللحظات بفواصل حياة الشخصيّات التي تتحرك فعلياً بتأثيرات ما يقع لها، وما عاشته في طفولتِها من وقائع تؤثّر في ردود أفعالها. ويكشف هذا التاريخي، الذي يعرفُ أنه محصن من حُفَر التوثيق، نفسَه بصراحةِ وجرأةِ عدم الخوف من تحوّل الرواية إلى توثيق؛ بإفصاح الروائية نفسها عن أنها راوية الرواية، من خلال توثيق عمرها مع عمر الراوية، ومنح هذا التوثيق بعض الخيال في تغيير اسمها سعاد (الواقع) إلى ليلى (الرواية).

وفي “دمشقيَ” هذا التداخل، تسرد الراوية ليلى حفيدة واسطة عقد حبْل الرواية، جَدّها نعمان، تاريخَ ووقائع حياة وأسرار عائلة البارودي الدمشقية الآسرة، لثلاثة أجيال تبدأ من نهايات القرن التاسع عشر، ولا تنتهي في بدايات القرن الواحد والعشرين عام 2014، تاريخ بداية كتابة الرواية كما يبدو، حيث تترك الراوية بعض الأسرار للقارئ دون كشف. وفي هذا السرد تنجح الروائية في تصويرها الروائي الذي لا يخلو من التوثيق لهذه العائلة صنواً لمدينتها دمشق، ليس من خلال الأحداث السياسية وهي الأقل عرضاً فحسب، ولكن من خلال غنى طبيعة دمشق الأرستقراطية، وعلاقاتها التجارية المتشابكة بعلاقاتها الاجتماعية، مع من حولها: حوران، الأردن، لبنان، وبالأخص فلسطين. ويدخل، في هذا التصوير المتشابك مع حركة ومصائر الشخصيات، توثيقُ أسماء العائلات الإقطاعية والبورجوازية الصاعدة المتنفذة المتداخلة المصالح، في دمشق وفلسطين بدايات القرن العشرين. كذلك يدخل توثيق عادات الزواج التي يُتوّجها تصوير ليلة الدّخلة بين السوري “جِدّو نعمان” من عائلة البارودي، والفلسطينية “تيتة بسيمة” من عائلة عبد الهادي؛ وكذلك توثيق طبيعة بناء قصر البارودي، بتصويرٍ معماريّ يتجاوز الهيكلية والحركة فيه إلى أدق تفاصيل الزّخرفة الشاميّة العريقة، وإلى أعرق تفاصيل الأثاث. ثمة كذلك توثيق أشكال وألوان وأنواع ونكهات الطعام في وليمة الجمعة الجامعة للعائلة ببيت البارودي، بما يعكس غنى المطبخ الشامي، بتفاصيل تتداخل مع طقوسية استقبال كبير العائلة وبقية الضيوف. وكذلك توثيق طقس الحمّام يوم الجمعة، وتوثيق حدث الموت وإحياء ذكرى أربعين الميّت، وتتويج هذه الذكرى بطقس المولوّية الذي يربط دمشق بعوالم الصوفية المتناهية إلى تسبيح الخالق وفق حركة دوران الأرض في الكون. ثمّ التوثيق السياسي بتثبيت الأعوام لما مرت به سوريا وفلسطين من أحداث، مع عرض تناقضات اليسار واليمين وأهل الدين، بمرورٍ عابرٍ لا يوقع الرواية في الانحياز. ولا تنسى الكاتبة/ الراوية في كل عروضها التفصيلية الثرية، الارتقاءَ بالتوثيق إلى الإبداع الروائي على جسور التشابكات مع حياة الشخصيات وعلى أجنحة الخيال السحري أو الواقعي الذي يرتقي لمستوى الخيال.

في “دمشقيَ” هذا الثراء الباذخ، تجود الروائية في ترقية الأسلوب الروائي الكلاسيكي في السّرد إلى السّرد المتداخل الحديث، الذي تتبادل فيه الأزمنةُ أمكنةَ بعضها بالذكرى في الجريان المتسلسل للزمن، ضمن منظومةٍ سردية بسيطة على لسان الحفيدة التي تقوم بالسرد كما تفعل الجَدّات. وتُدخل الراوية سرد بعض الشخصيات وفق ما يفي بالحديث أو الاعتراف دون إخلال بتسلسل جريان سردها، لكنْ بتقسيمه في ستّة أجزاء تتضمّن ثلاثاً وعشرين فصلاً، مع وضع عناوين للموضوعات داخل كل فصل. وكأنها شهرزاد التي تروي حكايات يتوقف فيها الكلام المباح عند الفجر، ليبدأ في الليلة التالية؛ وتفصح الروائية صراحةً عن طبيعة منظومة سردها الشهرزادي، بطبيعة سلوك بطلتها نورما في السرد والفعل.

وفي “دمشقيَ” الحكاية التي تجري كما لو على لسان حكواتيّ في مقهى النوفرة بآخر سوق الحميدية في دمشق القديمة، تُدخل الروائية أعمدة المسرح العالمي الذي تأخذ منه ما يخص مواجهة الخطايا وكشف أسرار ما تخبّئه النفوس، بإثراءٍ بالغ من هاملت شكسبير، متداخلاً بثقافة العصر الذي تجري به أحداث الرواية. كما تأخذ منه ما يشي بطبيعة مصير بطلتها نورما التي تمّ تهريبها رضيعةً، بما يشبه ما حدث لعايدة في أوبّرا فيردي، من مدينة القدس إلى دمشق، وتم إخفاؤها بستارِ أنها ماتت، عن أمها البيولوجية التي أتت لاستعادتها من بيت البارودي، وحمتْها أمّها كريمة المتبنّية لها:

“ومثل راداميس، المحارب المصري الشاب، كانت خالتي كريمة تحبّ نورما حبّاً جمّاً. ونتيجة لذلك، دخلت أيضاً حروباً لا نهاية لها، بعضها متحضر، وبعضها لم يكن كذلك، لصون حبّها الأوحد، وحمايته، حبّها الأبدي الذي يدعى نورما”.

وهذا الإدخال لأعمدة المسرح، واستخدامها بالصورة الإبداعية التي فعلتها بها العامري، أضفى السحر والتفرد على شخصيتها النسائية نورما، كما منح روايتها حوامل الارتقاء من الحكايات إلى الرواية الإبداعية، والطيران بها كما لو على بساط الريح في فضاء الرواية التاريخية.

وفي “دمشقيَ” الاكتمال، وانفتاح الرواية في ذات الوقت، لم تنس العامري مسحَ روايتها بروح التعاطف مع المقهورين من شخصياتها، مثل تعاطفها المُدين للعبودية مع شخصية الخادمة الأفريقية غالية التي اختُطفت وبيعت في سوق العبيد قبل أن تلغى العبودية، وكانت “هدية زفاف”، جِدو نعمان للخدمة في بيت البارودي، من أخته التي تقطن مدينة جدة. ومثل تصويرها الحياة القاسية التي دفعت بعضَ شخصياتها إلى ارتكاب أخطائها وخطاياها، مثلما فعلت في معالجتها لشخصية مريم الفتاة الحورانية التي تم تزويجها بيْعاً وهي في العاشرة من عمرها، ومثل تعاملها الحاضن المحب مع جميع شخصياتها في الرواية.

سعاد العامري: “دمشقيَ

منشورات المتوسط، ميلانو 2019

286  صفحة.