أولاً: أحوال وتطورات الوضع السوري

       لا تزال الأوضاع السورية تتقلب على نار الصراع الإقليمي والدولي على اقتسام مناطق النفوذ فيها. وتدفع الدول المتصارعة بوطننا وشعبنا قدماً إلى أبعاد أكثر كارثية من قتل وتدمير وتهجير؛ وتتواطئ فيما بينها على حرمانه من حقه في الحياة والكرامة والحرية وتقرير المصير. ولا تتوانى عن السطو على مقدرات شعبنا وثرواته ومرافقه، وتعمل على تقسيم البلاد فيما بينها خدمة لمصالحها واهدافها العدوانية والتوسعية. وفي مثل هذه الظروف لا يمكن إلا أن تتوارى الحلول السياسية للقضية السورية في دهاليز التواطؤ والأجندات الخاصة لهذه الدول.  لذلك من المؤسف القول إن ضمن هذا الصراع المستمر على سورية، لا يبدو في الأفق بُقَعُ ضوءٍ قريبة.

1-أوضاع المنطقة الشمالية الغربية من سوريا

   لم يلتزم الروس باتفاق سوتشي حول إدلب مع تركيا، الذي كان قد لقي أيضاً دعماً من ألمانيا وفرنسا في القمة الرباعية بين الدول الأربعة. فغضت روسيا الطرف عن خروقات النظام اليومية ولم تتوان هي عن خرقه بطيرانها بين فترة وأخرى. وهكذا فقد بقيت ادلب منطقة لتبادل الرسائل النارية بين تركيا وروسيا. وإزاء فشل الروس في تحويل إنجازاتهم العسكرية عبر جولات أستانا وسوتشي إلى حلول سياسية تتفق مع مصالحهم، ومع بوادر تقارب أميركي تركي؛ كان لا بد من أن تستغل روسيا ثغرات اتفاق سوتشي متذرعة بعدم تنفيذ تركيا التزاماتها حول جبهة النصرة، لتوجيه رسائل دموية إلى الأطراف المؤثرة في الصراع السوري وفي مقدمتها تركيا. 

منذ أواخر نيسان الماضي وحتى الآن، يشن المحتلون الروس مع ميليشيات الأسد حرب إبادة جماعية على محافظة ادلب وريف حماة الشمالي وشمال اللاذقية.  فوصلت كثافة القصف على هذه المناطق إلى أكثر من 400 غارة جوية يومياً، ومئات البراميل المتفجرة وآلاف الصواريخ. وتم استخدام جميع صنوف الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيميائية والأسلحة الأخرى المحرمة دولياً. مؤخراً ذكرت بعض المصادر عن استخدم البرابرة الروس في قصف مدينة معرة النعمان ما سمي بالسلاح الفيزيائي والذي يعد من الأسلحة النووية التكتيكية. أدت هذه الحرب المستمرة إلى ارتكاب 32 مجزرة بحق المدنيين العزل، وإلى تدمير 316 من المراكز الحيوية من مشافي ومراكز الخوذ البيضاء والأسواق والأفران وغيرها، وإلى حرق آلاف الهكتارات من الحقول والمحاصيل الزراعية، واستشهاد المئات وجرح وإصابة الآلاف، ونزوح نصف مليون إنسان. كل هذه الجرائم تحدث في ظل صمت وتواطؤ دولي مشين وردود فعل خجولة اقتصرت على التحذير من استخدام الكيميائي من قبل الأميركان والأوربيين، وكأن قتل المدنيين بالأسلحة الأخرى لا يعتبر جريمة حرب. 

     يرغب الروس بالسيطرة على جنوب ادلب وريفي شمال حماة واللاذقية، لتحسين رصيدهم التفاوضي مع الغرب في الحل السياسي، وحماية مواقعهم العسكرية وتأمين باقي مناطق نفوذهم. وفي صراعهم مع الأتراك هو على المصالح الكبرى. فالتنازل الذي يريدونه من تركيا ليس في ادلب وإنما خارجها، في الملف السياسي (القرار2254، واللجنة الدستورية)، وكذلك يطمح الروس إلى استنزاف تركيا لإبعادها عن شرق الفرات وعرقلة تنسيقها مع أميركا حول المنطقة الآمنة. رغم المصالح المتناقضة بين حليفي أستانا فالروس بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجتها لهم. فالدولتان حريصتان ألا تصل الأمور بينهم إلى القطيعة. وتدرك تركيا أنها مستهدقة قبل غيرها من الروس. فمحاولات سيطرتهم، هم وميليشيا النظام على ادلب وشمال حماة، تشكل تهديداً لأمنها القومي ومناطق نفوذها ومصالحها ودورها في سوريا. وكذلك يعني موقف روسيا في هجومها الأخيرة أن بوتين يتجاهل اتفاقاته مع أردوغان، والدور الذي لعبته تركيا عبر مشاركتها في تشكيل مسار استانا الذي أدى إلى تفكيك فصائل معارضة عديدة، وعودة سيطرة النظام على مناطق عدة من سورية بدءاً من مدينة حلب إلى درعا، وكذلك يعني تنصل بوتين من اتفاقه مع أردوغان حول الوصول إلى حل سياسي متوازن في سوريا. لذلك تسعى تركيا اليوم إلى جعل معركة الروس وحلفائهم صعبة ومكلفة، بحيث تكبد القوات المهاجمة أكبر الخسائر للضغط على الموقف الروسي. وعدم ثقة أردوغان بالروس، دفعته إلى عدم تفكيك جبهة النصرة وحلفائها، وعززت تركيا قوة الفصائل الأخرى عبر توحيد صفوفها ودعمها عسكريا ولوجستياً. ولذلك لم يكن سير المعارك كما أراد بوتين، بعد أن اتخذت المواجهات العنيفة طابع الكر والفر وصمود فصائل المعارضة المتصدية للهجوم، وإيقاع الخسائر المتعاظمة لروسيا وميليشيا النظام في الأفراد والعتاد. وهذا ما أخرج لافروف عن طوره ليهدد (بسحق ادلب وفصائل المعارضة (. وإلى الآن لايزال الفشل يلاحقهم على محاور المعارك الدائرة في جبهة ادلب وشمال حماة واللاذقية. 

أما الولايات المتحدة، فهي ترغب باستنزاف روسيا وتركيا وإبعادهما عن شرق الفرات؛ ولها مصلحة في عراك روسي تركي كي لا تميل تركيا أكثر وتتجاوز الخطوط الحمر في علاقاتها مع روسيا. ولذلك فقد أعطت الضوء الأخضر للأتراك بتزويد الفصائل ببعض الأسلحة النوعية.

2 -أوضاع المناطق الشرقية 

تعرف المنطقة الشرقية بأنها ” سورية الغنية” لما تحتويه من ثروات نفطية وغاز وملح وكذلك ثروات مائية وحيوانية ومحاصيل زراعية استراتيجية من الحبوب والقطن وغيرها. فمواردها تشكل 70% من موارد الاقتصاد السوري. ولذلك فكل قوى الاحتلال تتجه أنظارها إلى هذه المنطقة. فالأميركان وضعوا يدهم على شرق وشمال الفرات كحضور استراتيجي لهم في سورية، وأداة ضغط على الروس والإيرانيين والنظام وحتى على حليفهم التاريخي اللدود تركيا. وكذلك الروس يعتبرون هذه المنطقة من اولوياتهم لمغانمها الاقتصادية. وكذلك الإيرانيون عيونهم عليها لفتح طريقهم البري الاستراتيجي الذي يخططون له منذ زمن للوصول إلى سواحل المتوسط، ويعتبرونها كذلك منطقة خصبة لنشر التشيع. أما الأتراك فتعتبرها أنها تشكل لتواجد ميليشيا قسد الكردية المدعومة من الأميركيين والتحالف الدولي خطراً على أمنها القومي. 

لقد عملت كل قوى الاحتلال بما فيها داعش والنظام على التنكيل وارتكاب المجازر بحق أهل هذه المنطقة وعلى تدمير مدنهم وقراهم وتهجيرهم وتعفيش ممتلكاتهم كي يخرجوا من معادلة المنطقة. وكذلك تشهد المناطق التي تسيطر عليها قسد بدعم من التحالف الدولي، حالة من الغليان وعدم الاستقرار والاحتجاجات والتظاهرات شبه اليومية. ولا تختلف ممارسات ميليشيا قسد القمعية عن ممارسات نظام الأسد وميليشياته.  فقد لجأت إلى حملات الاعتقال المستمرة والتجنيد القسري وفرض مبلغ ستة آلاف دولار للإعفاء من التجنيد. وكذلك يسود الفساد والنهب المنظم وفرض الأتاوات والرشاوي وابتزاز أهالي المعتقلين والمطلوبين. ولقد ازداد الغضب الشعبي لعدم اكتراث “الإدارة الذاتية” بالحرائق التي التهمت آلاف الهكتارات من محاصيل القمح والشعير. وهنالك خوف من أن تكون هذه الحرائق مفتعلة ومدبرة بقصد تهجير السكان. لذلك فإن عودة تنظيم داعش إلى المنطقة الشرقية يبقى احتمالاً وارداً، حيث لا تزال قائمة العوامل التي تغذي عودته، منها الممارسات الطائفية والقمع والاعتقال والتجنيد الإجباري والنهب والفساد، وكذلك غياب الحل السياسي وإنهاء الصراع، وصعوبة الوضع الاقتصادي والمعاشي وغياب الخدمات الأساسية.

عقدت عشائر المنطقة مؤتمراً في الفترة الأخيرة، وتحددت مطالبها بتشكيل إدارات ذاتية من أهالي المنطقة، وتوزيع عوائد الثروات على السكان المحليين والنازحين، وتقديم الخدمات لسكان المناطق وعودة المهجرين، وطرد الميليشيات الإيرانية. كما أكد المؤتمر على وحدة سوريا واستقلالها في ظل دولة مدنية ونظام ديموقراطي. ويبقى السؤال المطروح في هذا السياق هو حول مصير ومستقبل “قسد وPYD” الكردية في منطقة شرق الفرات التي معظم سكانها من العرب ولا تزيد نسبة السكان الأكراد فبها عن 15%؟  لن يجرؤ الروس أو النظام او الأتراك على الاقتراب من المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية. وهذا ما يشجعها على تعزيز وجودها واستكمال بناء مؤسسات كيان كردي شبه مستقل بدعم أميركي، وذلك بانتظار تطورات قادم الأيام وبتناغم مع المسار المماثل الذي جرى في شمال العراق رغم اختلاف الحالتين فيما يتعلق بنسب التركيب الديموغرافي. أما في حال انسحاب الأميركيين من المنطقة، فستضطر ميليشيات قسد التي لها موقف معادٍ من الثورة السورية إلى التفاوض مع الروس والنظام للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب. ويمكن أن تعود سيطرة الروس والنظام على تلك المناطق. ولكن الأتراك من جهتهم سيستمرون في ضغطهم لمنع قيام كيان كردي على حدودهم. 

  جاءت زيارة الوزير السعودي السبهان مع وفد أميركي إلى المنطقة، واجتماعهم مع وجهاء العشائر، الذي غابت عنه “قسد”، بُحث فيه مستقبل المنطقة الشرقية، وتحييد الصراع العربي الكردي، والانخراط في مشروع “قسد” ووقف الاحتجاجات، وتعويض الأهالي الذين تضرّروا من الحرائق وتحسين الواقع الخدمي والتنموي وإعادة اعمار المنطقة، والعمل على تأسيس قوة عربية من العشائر تكون قادرة على حماية المنطقة، لقد بدأ العمل بها مع احياء دور جيش مغاوير الثورة، وكذلك ابعاد العشائر عن تركيا وقطر وإيران، وأن تكون سداً منيعاً ودرع مواجهة ضد التمدد الإيراني في المنطقة، و قادرة على تنفيذ عمل عسكري لطرد إيران وميليشياتها من المنطقة. لكن العشائر حملت السبهان مطلب انسحاب مكونات قسد الكردية من المنطقة وتسليمها لأهلها. 

3-أوضاع المنطقة الجنوبية 

درعا: بعد مضي ما يقارب العام على تمكن النظام من السيطرة على درعا، بفضل التوافقات الدولية وتأمين مصلحة إسرائيل وتخاذل قادة الفصائل، والتسويات والمصالحات الروسية الخادعة، لا تزال منطقة درعا إلى الآن بعيدة كلياً عن الاستقرار. فالنظام ما يزال يمارس حقده على الأهالي، ويتعمد إذلالهم وإرهابهم، ولا يقدم لهم الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ومحروقات. ويمارس بحقهم الاعتقال والتنكيل والحصار والاغتيال وحتى تصفية عدد كبير من قادة الفصائل التي عقدت مصالحات وتسويات معه. ورداً على هذه الممارسات تشهد حواجز النظام ومراكزه الأمنية هجمات متكررة واغتيالات لعناصره من قبل مجموعات تطلق على نفسها المقاومة الشعبية. كما تشهد المدن والبلدات توزيع المنشورات والعودة الكثيفة للكتابات المناهضة للنظام على جدران الأبنية والتظاهرات والدعوة للعصيان المدني. ويوجد قلق لدى الروس مما يجري هناك فيضطرون أحياناً للتدخل ولجم مخابرات النظام خوفاً من انفجار الوضع وخروجه عن السيطرة، ويعملون على استيعاب عناصر المصالحات في الفيلق الخامس. لقد تعاظمت هذه الهجمات في الأيام الأخيرة، وهناك بعض الإشارات حول صراعات بين الروس والإيرانيين في المنطقة، وكان هناك استهداف إحدى الدوريات الروسية. 

السويداء: تعيش محافظة السويداء أوضاعاً اقتصادية ومعاشية صعبة، وحالة من عدم الاستقرار والفوضى والفلتان الأمني؛ حيث عمليات الخطف والقتل والتهديد، واشعال الحرائق وانحسار تسويق المنتجات الزراعية واغلاق السويداء وخنقها واطلاق يد العابثين بمقدرات الناس، حيث يقوم المسلحون وفي وضح النهار بخطف كل من يحاول أن يساعد الأهالي لتسويق منتجاتهم ( المقتصرة اصلا على التفاح والعنب والمحاصيل الحقلية كالقمح والشعير والحمص)حيث بقي انتاج التفاح بالبرادات ووصل ثمن الكيلو 150 ل س للنوع الاول الممتاز و50 ل س للنوع الثاني والثالث وهي لن تكفي لدفع اجور تخزينها.  
يسعى النظام إلى اركاع واذلال المحافظة واخضاعها لسيطرته بعد أن رفض الأهالي أن يصبحوا أداة بيده وامتنعوا عن إرسال أبنائهم ليكونوا وقوداً لمعاركه في مقتلة السوريين. فتجري اغتيالات لمناصري رجال الكرامة وفي المقابل هناك اغتيالات للشبيحة، وعمليات خطف وخطف مضاد تقف خلفها مخابرات النظام بهدف جر أهالي السويداء إلى الفتنة والتقاتل فيما بينهم، وذلك من أجل إحكام قبضته على المحافظة وإعادة سلطته إليها. ولكن جبل العرب بتاريخه الوطني ووحدة ابنائه وبقواه الوطنية الديموقراطية قادر أن يُفَّوِتَ على النظام مخططاته. ويبرز هنا دور تجمع القوى الوطنية وهيئتها الاجتماعية في افشال مشاريع الفتنة والاقتتال. 

4-أوضاع اللاجئين: 

بدأت حملة التحريض على اللاجئين السوريين من لبنان، بقيادة العنصري جبران باسيل حليف حزب الله، لإجبارهم على العودة إلى نظام التوحش والإبادة. ويقف خلف هذه الحملة حزب الله والروس لإضفاء الشرعية على نظام الأسد. لكن المفاجئ هي حملة التحريض على اللاجئين السوريين في تركيا والتي بدت شبه منظمة ورحل المئات منهم إلى الشمال السوري.
إن الأوضاع الصعبة والمخاطر التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في كل من لبنان وتركيا، والتي تتعارض مع القوانين والأعراف الدولية والإنسانية بشأن اللاجئين، وكذلك بعلاقات الأخوة وحسن الجوار المفترضة. 

5-الراهن السياسي للأزمة السورية 

يشهد الملف السوري حالة من الجمود السياسي، ابتدأت قبل أشهر من استقالة ديمستورا وهي مستمرة مع المبعوث الأممي الجديد.  ولا يبدو في الأفق أن هذا الملف سيتحرك باتجاه حلول متوازنة وذلك لعدم توفر الشروط السياسية. ولقد فشلت روسيا وجولات أستانا في تحقيق أي إنجازٍ على طريق الحل السياسي، يمكن أن يحظى بغطاء دولي من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

      المؤسف أن الأبواب مازالت موصدة حتى الآن لإنهاء الصراع في سوريا وعليها. يرتبط تطور الملف السوري إلى حدٍ كبير بالسياسة الأميركية، التي تمسك بخيوط هذا الملف وتديره وفقاً لمصالحها ومصالح إسرائيل أيضاً. ورغم صعوبة القبض على سياسة أميركية واضحة حول الوضع السوري؛ فما هو معلن على لسان أكثر من مسؤول أميركي حول الحل السياسي في سوريا هو أن يكون عبر بيان جنيف وقرار مجلس الأمن2254. ولقد أفشل الأميركان جميع محاولات الروس لإعادة تأهيل النظام ورئيسه، رفضوا مسار اللجنة الدستورية، كما شددوا العقوبات الاقتصادية عليه، وقد يوقع ترامب قانون قيصر الذي سيضيق الخناق أكثر على النظام. 

أما الروس فهم مصممون على إعادة تأهيل الأسد ونظامه، وفرضه على المجتمع الدولي، وهم يرون مصلحتهم في ذلك. فتدخلهم في ظل نظام الأسد قد أعاد لروسيا دوراً رئيساً على الساحة الدولية، ومكنَّها من تجريب أسلحتها على الشعب السوري، ولذلك فهم لا يتخلون عنه إلا مجبرين. وحتى الآن لا يوجد أي طرف يريد اجبارهم على ذلك، فالأميركيون مازالوا يصرحون تصريحات متناقضة بين حين وآخر حول هذه المسألة، ورغم انهم ضغطوا على حلفائهم كي لا يطبعوا مع نظام الأسد يعودون ليصرحوا أنهم لا يهدفون إلى تغيير النظام وإنما إلى تغيير سلوكه. يسعى بوتين إلى تشكيل اللجنة الدستورية تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة بحسب قرار مجلس الأمن 2254، ولكن على الصعيد العملي يُصِر على أن يكون أكثر من ثلثي عدد أعضائها من مُوالي النظام كي يضمن صوغ دستور لا يبدل في طبيعة الحكم القائم لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. كما يحصر بوتين الحل السياسي باللجنة الدستورية فقط. وبهذا الشكل يمكن ان تضمن روسيا انتخابات مصنَّعة من نمط الانتخابات الروسية وغيرها من الدول الشمولية الأخرى. 

فيما يتعلق باجتماع القدس بين رؤساء مجالس الأمن القومي في كل من روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فقد سمع باتروشيف لمطالب الأميركيين والإسرائيليين بإخراج إيران من سورية وقطع أذرعها في المنطقة وحل ميليشياتها، ولكن لم يعرف حتى الأن جواب الروس على هذه المطالب التي إذا ما حدثت ستشكل تغييراً في مسار الصراع في سورية ونتائجه. فمثل هذا التوافق يمكن أن يقوي موقف روسيا في سوريا، ويضعف النظام الذي يلعب على حبل الخلافات بين الروس والإيرانيين. وإذا كان خروج الإيرانيين من سورية يسهل التفاوض بين الروس والأميركيين على حل سياسي متوازن بين المعارضة والنظام، لكن السؤال الذي يبقى يطرح نفسه هو: كيف يمكن طرد الإيرانيين من سورية وهم الموجودون بكثافة مع حلفائهم من الميليشيات على الأرض؟ وكذلك المعطيات الجيوسياسية التي تجري في المنطقة لا تحيل إلى استغناء الروس ببساطة عن حليفهم الإيراني في استانا في الوقت الراهن. 

6-الأوضاع الاقتصادية والمعاشية في سورية 

         يعيش النظام السوري ورئيسه رهين الاحتلالين الروسي والإيراني، وفقد قراره المستقل في كافة المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، ولم يعد لديه الكثير من السيادة على أرضه. فبسياساته المعادية لشعبه دمر الاقتصاد بمجمل قطاعاته الإنتاجية والخدمية، وخسارته للنفط كان يشكل لوحده حوالي 50% من الصادرات السورية، إضافة إلى خسارته لواردات المعابر الحدودية وواردات الضرائب من كل المناطق الخارجة عن سيطرته. وما يُزيد الصورة قتامة هدر النظام لاحتياطي خزينة الدولة البالغ قدره (18 مليار دولار). لم يبق أمام النظام الذي أصبح على حافة الإفلاس غير الاستدانة وخطوط الائتمان واستجداء الدعم من الحلفاء الروس والإيرانيين، وهذا لا يتيسر دون بيع أو رهن للمرافق والممتلكات السورية العامة من مطارات وموانئ واستثمارات وعقارات. 

لم يصل الوضع الاقتصادي والمعاشي في أي مرحلة من تاريخ سورية الحديث كما وصل إليه الآن من تدهور وانحدار. حيث تستمر معاناة السوريين وتزداد عمقاً واتساعاً على كافة الصعد الحياتية. وقد بدأت معاناتهم تتخذ أشكالاً أكثر حدة، حين وصلت لدى القسم الأكبر منهم، إلى صعوبة تأمين لقمة العيش. فمداخيل عمال القطاع العام والقطاع الخاص والموظفين والمتقاعدين شبه ثابتة منذ بداية الأزمة السورية في الوقت الذي ارتفعت أسعار الحاجيات والسلع إلى (10-12) ضعفاً، وكذلك شمل الارتفاع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والأنترنت والضرائب بشكل عام.  فانخفضت دخولهم وزادت ضريبة دخلهم. ويمكن القول إن سورية أصبحت خالية مما كان يسمى بالبرجوازية الصغيرة أو الطبقة الوسطى. وأما البطالة فقد وصلت إلى نسب خيالية (50-60 %) وتشخص عيون السوريين الآن بخوف إلى انخفاض قيمة الليرة السورية المتواصل. فمعاش الموظف والمتقاعد الذي راتبه الشهري أربعون ألف ل.س على سبيل المثال، انخفض خلال الثلاثة أشهر الماضية من 90 دولار إلى 65 دولار وهنالك بطبيعة الحال معاشات تقاعدية منخفضة جداً لا تتجاوز العشرة آلاف ليرة سورية أي حوالي 16 دولاراً شهرياً. وبالفعل هنالك مخاوف لها ما يبررها لدى المراقبين من أن استمرار تطور الأوضاع على هذا النحو يمكن أن يؤدي إلى كارثة غذائية غير مسبوقة. فالارتفاع الحاد للأسعار في ظل تراجع مصادر الدخل وانعدام فرص العمل يعزز هذه المخاوف. فلقد وصل الاحتياطي النقدي إلى ما يشبه الصفر مع بداية 2019 وتوقف البنك المركزي عن دعمه لليرة السورية وصار قاصراً عن تمويل المستوردات الضرورية، مما يدفع التجار لشراء الدولار من السوق السوداء لتمويل مستورداتهم. وقد أصبحت الإيرادات الحكومية لا تغطي سوى 35% من الإنفاق العام وفق أعلى التقديرات. وهذا ما يدفع النظام لمسرحية الاقتراض من البنك المركزي الذي لا يعني سوى طباعة عملات جديدة دون تغطية. 

لقد كشفت أزمة المحروقات الخانقة التي مرت بها سوريا منذ أوائل هذا العام، الستار عما ينتظره السوريون من أزمات خانقة أخرى على كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وأنهم مقبلون على ازمة شاملة في ظل العزلة والحصار والعقوبات. فالمسألة لم تعد تقتصر على فقدان المازوت والغاز والبنزين والكهرباء، وإنما تأثير هذا الفقدان على الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات وتكاليف الإنتاج بشكل عام وفقدان السلع والحاجيات ومزيداً من الإفقار والنهب. إن فراغ الخزينة حَوَّل النظام إلى مكتب جبايات لجمع الضرائب والأتاوات بعد أن اتخذت شكل النهب الصريح والابتزاز الأمني؛ حينما سلَّط المؤسسات كلها من جمارك وبلديات وغيرها لنهب جيوب التجار والصناعيين والمتعهدين والمكاتب الهندسية والمهنيين وغيرهم ملايين الليرات بحجة رفع الضرائب وإعادة الإعمار. لم تعد معاناة السوريين تقتصر على الأزمات المعيشية؛ وإنما هنالك ظواهر أخرى لا تقل خطراً على حياتهم، وهي انتشار الفوضى والفلتان الأمني وسلطوية الميليشيات والمافيات المتعددة المجهولة مرجعياتها. ولقد أصبحت سطوة هذه الميليشيات من القوة التي تمكنها في مناطق نشاطها من فرض الخوات والنهب وتجارة المخدرات والخطف والقتل.

7-أوضاع المعارضة السورية

          لم يعد خافياً، انحدار المعارضة السورية إلى أسوا أوضاعها، حيث لم يعد بيدها أي رصيد تفاوضي تلعب به. فأوراق التفاوض على حل القضية السورية صار بيد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل. إن ضعف المعارضة لا يمكن إعزاؤه فقط للصعوبات والظروف الموضوعية المأسوية التي مرت بها الثورة السورية. إنما في كثير من الأحيان كانت الأحوال الذاتية للمعارضة هي أحد أسباب معاناة الثورة ومصاعبها. وضعف المعارضة يعود لمقدمات ابتدأت منذ سنوات كانت السبب الرئيس لهذا الضعف وهذه النتائج. فمنذ اللحظة الأولى للثورة واكبتها المعارضة بجسم مفكك يفتقر للوحدة سواءً على المستوى التنظيمي أو على مستوى الخطاب السياسي والقواسم المشتركة بين كياناتها. فعدد الكيانات السياسية “حدث ولا حرج” والكيانات العسكرية المسلحة فكانت تتوالد كالفطر. فوجئت المعارضة بالثورة السورية وهي لم تعد لها، رغم مضي أكثر من عام على اندلاع ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن. حاولت (المعارضات السورية) أن تواكب الثورة التي انطلق بها الشباب السوري بشكل عفوي في أذار عام 2011. ولكن من أكبر أخطائها أنها لاقت ثورة الشباب وبادرت إلى حضنها بجسم معارض بلا قيادة سياسية وبلا رأس. ومن المؤسف أن الرأس الذي تكون متأخراً في الخارج قد ولد في كواليس الأجندات الخارجية. وفي السياق التنظيمي ايضاً كان هنالك دائماً ما يسمى بالمعارضة السياسية والمعارضة العسكرية (الفصائل المسلحة).  وفي أغلب الأحيان كانت الثانية لا تلتزم بقرارات الأولى وإنما تخضع لسياسات الدول الممولة لها. وهذه الظاهرة استثنائية في تاريخ الثورات. وليس هذا فحسب، فإن الفصائل العسكرية ليس فقط انها لم تلتزم بقرارات الجسم السياسي، إنما لم تتوحد هي نفسها في قيادة عسكرية موحدة، وإذا كانت قد تشكلت في فترة ما مثل هذه الهياكل الموحدة فعمرها كان قصيراً جداً، وانزوى معظم الضباط السوريين المنشقين في البلدان المجاورة والأجنبية يدارون خيباتهم؛ في الوقت الذي كان من الممكن أن يقدموا خدمات كبيرة للثورة. لم تمتلك المعارضة السورية في معظم الأحيان أية قدرة تذكر على استخلاص القواسم المشتركة بين فصائلها. فالخطاب السياسي للثورة في ممارستها اليومية على الأرض بجناحيها السياسي والعسكري، لم يُحِلْ كثيراً إلى سمات الخطاب الوطني الممثل لكل المكونات السورية، الذي عرفه السوريون في أيام الانتداب الفرنسي وخمسينات القرن الماضي. فلقد أحال خطابها السياسي وكذلك رموزها وإشاراتها وأسماء فصائلها إلى الخطاب الديني الذي أفسح كثيراً في المجال للنظام وحلفائه وغيرهم من أعداء الثورة لكي يحاربوها تحت يافطة محاربة الإرهاب. وبالفعل هذا الخطاب قد فتح ثغرة لتغلغل التطرف الذي صار ذريعة لدى كل من يريد أن ينهش في سوريا. ولقد قام المتطرفون بتصفية الكثيرين من رجالات وابطال الثورة ورموزها. 

ومن أخطاء المعارضة القاتلة التي أثرت كثيراً على مسارها انتشار الكثير من الأمراض في صفوفها مثل النرجسية والشخصانية والنفاجية والخطابية ومظاهر داء العظمة. وكذلك ضمن هذا السياق لا يمكن غض الطرف عن مظاهر الانتهازية والنفعية والفساد المالي وتغيير الدكاكين والتنظيمات والمواقع والاتجاهات بما يتفق مع المصالح الشخصية.
    في كل الأحوال ورغم كل ما اعترى مسار الثورة السورية من أخطاء، فهي قد فتحت موضوعياً الآفاق واسعة أمام التغيير وعدم الرجوع إلى الخلف، وبالتالي فالآفاق لا تزال مفتوحة أمام المعارضة السورية كي توحد صفوفها في جسم سياسي موحد ليناضل سلمياً من أجل التغيير وبناء سوريا الوطنية الديموقراطية ودولة المواطنة. 

 يغيب السوريون اليوم عن طاولة معالجة قضاياهم. وهذا ما يستوجب ضرورة مواصلة العمل للخروج من هذا الوضع. وهو ما تتمحور حوله النشاطات واللقاءات والحوارات في الداخل والخارج لتشكيل كتلة وطنية، تتمتع بالاستقلالية والخبرة والنزاهة، ولديها القدرة على الاتفاق على قواسم وطنية مشتركة وتعمل برؤية استراتيجية لبناء مشروع وطني لإنقاذ البلاد وتحقيق أهداف الثورة، متجاوزة أخطاء الماضي وعثراته. 

ملاحظة: سنصدر في الأيام القادمة الجزء الثاني من هذه الرسالة وتعالج الوضع الإقليمي والمؤثرات الدولية في الوضع السوري.

دمشق أواخر تموز 2019
                                                                                                  اللجنة المركزية
                                                                                        لحزب الشعب الديمقراطي السوري