الكاتب: مناف الحمد

المحتويات

مقدمة

أولًا: رؤية للتجديد في علم الكلام

ثانيًا: تجديد في أصول الفقه

خاتمة

 

مقدمة

ليس تجديد الخطاب الدينيّ ترفًا لمتفكهين تخففوا من عبء أولويات، ولا هو زخرفة لبناء يراد لفت النظر إليه بعد أن ازورّت عنه العيون، وإنما هو ضرورة تقتضيها أولوية البقاء حيًا في عالم أصبحت فيه الثقافة حصن المقاومة الوحيد بعد أن انهارت السدود بين الأمم، ولم يعد استعلاء بعضها على البقية سلوكًا ينتهج على استحياء، وإنما بات مجهورًا به بالاستناد إلى ادعاءات في مقدمتها الادعاء بالتفوق الثقافيّ.

ولم يعد ينفع التجاور بين الخطاب الديني والمفهومات المعاصرة في الحيز، ولا التلفيق بينهما وإنما أصبحت تبيئة بعض هذه المفهومات، وجعلها جزءًا من بنية الخطاب أو اطّراحها، وتقرير فقدها صلاحية التناسج معه شرطًا لرفد الخطاب بديناميات جديدة تنفخ فيه القدرة على البقاء، وتخلّصه من قلق العبارة، والعجز عن المواكبة.

وإن تجديد الخطاب انطلاقًا من الأصول يؤتي أكلًا أكثر من التجديد في الفروع، لأن الانشغال بالأخيرة يبقي محاولات التجديد مفتقرة إلى الأساس الصلب الذي يوفق بين رؤى التجديد المختلفة.

ولأجل قناعتنا بأولوية التجديد في الأصول ستطرح هذه الورقة مقدمة لتجديد في علم الكلام وفي أصول الفقه، وهما الأصلان اللذان تتحرك في إطارهما علوم الدين، يمثلان نقاط استناد الخطاب الدينيّ.

 

أولًا: رؤية للتجديد في علم الكلام

ربما يكمن الجذر العميق للدور المدمر لعلم الكلام -عمومًا- وطبيعياته -على وجه الخصوص- في منع القدرة على التغلغل السلس لمفهومات الحرية؛ في عاملين:

1- اعتماده على ما يرادف مفهوم الحتمية، وهو مذهب الطبائع، وما ينطوي عليه من علّية وضرورة.

ووضع الطبيعيات في نظرية الوجود وتجييرها لحساب الثيولوجيا -في مسعى المشتغلين فيه إلىلإثبات عقيدة التوحيد-؛ ولهذا تجد أن محور طبيعياتهم هو دليل الحدوث الذي يقوم على تقسيم الوجود إلى جواهر وأعراض، والجوهر لا ينفكّ عن العرض، وبما أن الأخير حادث، فالأول حادث مثله؛ ما يعني بالضرورة أنه لا بد له من محدث. وهو استثمار للطبيعة والإنسان الموجود فيها في خدمة الثيولوجيا؛ الأمر الذي جعل الطبيعيات خارج نظرية المعرفة، وجعلنا مستوردين -دائمًا- لعلوم الطبيعة، بعد انكفاء أيديولوجيتنا التي يعدّ علم الكلام ممثلها الأساس على ذاتها، ونفورها من الأبستمولوجيا التي كان وضع الطبيعيات في صلبها كفيلًا بتجديدها، وجعل تمحورها حول الألوهية، لا يشكل عائقًا أمام تخلّفها، وتخلّف حامليها ([1]).

إن الانفصال، أو الهوة الشاسعة، بيننا وبين الحرية الأنطولوجية التي يمثّل امتلاكها شرطًا للحريات البعدية من سياسية واقتصادية ودينية، ناتج ليس عما ذكرناه بداية، من غياب اكتراث أيديولوجيتنا بالطبيعيات، إلا في سياق استثمارها للاهوت فحسب، وإنما من وقوعها تحت براثن الحتمية المطلقة الدوغمائية التي لا تفسح مجالًا لتخلف قوانين الطبيعة المفترضة، ولا تفتح فضاء للإمكان.

فالانفصال مسبّب -بعبارة أخرى- عن التقوقع داخل مفهومات الحتمية التي فجرتها الميكانيكا الموجية، ونسبية أينشتاين، العامة والخاصة، التي ألغت فهم الزمان المطلق والمكان المطلق، وجعلت الزمن بعدًا رابعًا، وأدخلت المراقب بوصفه متغيرًا في المعادلة لا يمكن إغفاله، وأثبتت أن الاحتمالية من طبيعة الأشياء، وليست ناتجة من قصور معرفة الباحث، ولا قصور أدواته، وأن الجوهر الفرد -بحسب تعبير المتكلمين- محض خيال بعد انشطار الذرة، وتحول المادة إلى طاقة، واكتشاف الطبيعة المزدوجة للأشياء الموجية والجسيمية، ومبدأ (هايزنبرغ) في اللاتعين الذي جعل الحتمية أثرًا بعد عين، وحول القضية المنطقية المشار إليها سابقًا، إذا كان… فإن دائمًا إلى الصيغة: إذا كان… فإن بنسبة معينة([2]).

إن تجديد علم الكلام بقطيعة معرفية تستوعبه وتتجاوزه، وتجسيد ذلك -عمليًا- بوضع الطبيعيات في نظرية المعرفة، وليس في نظرية الوجود، وهو ما يتطلب استيعاب ما تحقق في فلسفة العلم المعاصر من نفي للحتمية، هو أحد الآفاق الممكنة لتجديد الخطاب.

ويمكن العثور في التراث على خيط رفيع يمكن استثماره لكسر جدران الحتمية؛ فعلى الرغم من أن ما حكم المذهب الأشعري في سياقه هو منطق العصر الذي جعل مؤسسيه ينكرون مذهب الطبائع، وينكرون السببية الطبيعية؛ من أجل ردّ الأسباب كلّها إلى الله، وتجريد الأشياء من أي طبيعة خاصة تنزيهًا للخالق، وخوفًا من الشرك، فإن مطوّر المذهب الأشعري أبا حامد الغزالي قد ناقش السببية مناقشة يمكن أن تستثمر في السعي لزحزحة الطبيعيات الكلامية من علم الوجود إلى نظرية المعرفة؛ فقد عمد إلى تفكيك القضية السببية إلى قضيتين شرطيتين؛ الأمر الذي يتيح فتح فضاء للإمكان لما تتضمنه القضية الشرطية في مقدمها من طبيعة افتراضية.([3])

وقبل عرض جزئي القضية ربما يستحسن الإشارة إلى أن القضية الشرطية نوعان: قضية شرطية إنّية: وهي التي تناقش العوالم القريبة ويكون مبتدأ المقدم فيها بالأداة (إن)؛ ولذلك سميت بالإنية، ومثالها القضية: «إن كان العالم حادثا فله صانع»، ويكون مقدمها غير معلوم القيمة صدقًا أو كذبًا.

وقضية شرطية لويّة: وهي التي تناقش العوالم البعيدة أو النظائر وفق المصطلحات الكلامية، ويكون مبتدأ المقدم فيها بالأداة (لو)، ولذلك سميت باللوية، ومثالها القضية:

(لو امتلكت خياشيم السمك لعشت في الماء)، ويكون مقدمها معلوم القيمة الصدقية وهو الكذب.

وعليه فإن القضية: كلما لاقى الثوب النار احترق يمكن أن تقسم إلى قسمين:

– أيًا كان الشيء من قطن أو صوف أو كتان إن لاقى النار احترق.

– أيًا كان الشيء من جلد أو غيره لو لاقى النار احترق.

وواضح أن القضية الشرطية الأولى تختص بالثياب وهو العوالم القريبة، والثانية تختص بالعوالم البعيدة، وما كان يرفضه الغزالي ليس الاقتران الحاصل بين الاحتراق وملاقاة النار في العالم المشاهد والمحسوس والعوالم القريبة منه، ولكن تعدية هذا الاقتران إلى العوالم البعيدة وغير المشاهدة بعكس ما يروّج البعض من إنكاره للسببية التي لم يكن ينكرها أصلًا بوصفها مبدأ، وانما كان ضد تطبيعها في سبيل ردّ الفعل كله إلى الله في سياق انتظامه في مقولات مدرسته، وإنكار حتى تعدية محض الاقتران إلى العوالم البعيدة، وهو إنكار للتعدية يمكن أن تعزّزه كشوف العلم الحديث التي فجّرت مفهوم الحتمية، وأثبتت أن الاقتران الذي كان يشاهد في عوالم الفيزياء الصلبة ليس ضروريّ الحدوث في عوالم الميكرو الفيزياء التي كانت عالمًا بعيد الإمكان بالنسبة إلى العصر الذي نوقشت فيه المسألة، وكانت العلوم فيها تتعامل مع مورفولوجيا الجسم الصلب.

2- إن الانشغال بالسؤال حول علاقة الصفات بالذات الإلهية، يمكن أن يعدّ سببًا معوقًا لاستقلال الذات ([4])؛ لأنه يعبر عن إهمالها، وعدّها ذاتًا محوزة مع ما تملكه لله.

إن الهوّة التي تفصل بين آخر ما وصل إليه تطور مفهوم الذات وحيازاتها من جهة، والمفهوم الدينيّ من جهة أخرى، يمكن توضيحه بحصر علاقة الذات بحيازاتها بهذه الاحتمالات:

أنا إما مالك لحيازاتي، أو حارس عليها، وملكيتها لذات أخرى، وهو تصور المسيحيين الأوائل الذين يعدّون الملك جميعًا لله، والمنظومات اللاهوتية الأخرى، أو مؤتمن عليها ولا حاجة إلى الزعم بملكيتي لها أو ملكية غيري، أو الادعاء الاجتماعيّ العام بالحق على الحيازات الطبيعية ([5]).

إن المشكلة كامنة في التوفيق بين الاحتمال الثاني الذي يعدّ الذات حارسة على حيازاتها -وهو ما تقره المنظومات اللاهوتية- من جهة، وما يشترطه الاستقلال الذي يتضمن ضرورة أن يكون ثمة حيازات مملوكة للإنسان.

وبغض النظر عن التطور الذي حصل للنظرية الليبرالية، فإن القاسم المشترك بين تنويعاتها، هو رفض مفهوم الحراسة الدينيّ؛ لأنه يجرد الذات من استقلالها، وهو كفيل بدوره بإضعاف مفهوم العدالة.

الذات الحارسة التي لا تملك شيئًا، ولا تحوز شيئًا بالمعنى التكوينيّ القويّ على حد تعبير راولز،([6]) ومن ثَمّ لا تستحق شيئًا، لا يمكن أن تكون حاملة بذور تحوّلها إلى مشروع مواطن سياسيّ يمثل بؤرة نظام ديمقراطي.

إن المطلوب هو الهبوط بالاهتمام بالذات من السماء إلى الأرض، فالذات الإلهية لم تعد مظنّة الخلاف، وصار الانشغال الأساس هو حرية الفرد، واستقلاله، وامتلاكه لإرادته، وهو انشغال لا تلبّى مقتضياته ما لم تصبح الذات سابقة لغاياتها، متمتعة بشكل من أشكال الحقوق على حيازاتها، قادرة على اختيار غاياتها عن طريق بعد إرادويّ، لا على محض اكتشافها بعدّها محدّدة مسبقًا من خلال بعد معرفيّ.

إن جانبًا آخر من جوانب الذاتية لا يمكن إغفاله، ونحن بصدد الحديث عن التجديد، وهو البعد الإبستمولوجيّ، وبيان ذلك أن الذات في نظرية المعرفة قد أصبح لها دور مختلف بعد فضّ المطابقة بين المعرفة والوجود

فقد أصبحت المعرفة لا تحوط بالوجود، وهو ما حقق نصرًا للكليّ الاسميّ على الواقعيّ.

ولتوضيح علاقة ذلك باستقلال الذات سوف نعرض باختصار لمفهومي الاسميّ والواقعيّ.

فالفلسفة الاسمية تنكر وجود الكليات، وتعدّها لا وجود واقعيًا لها؛ ما يجعل علم الفرد، وعمله نسبيين، لا يسعيان للتطابق مع موجود مطلق خارجي.

أما الواقعية فهي تقر بوجود الكليات وجودًا واقعيًا، وهي ممكنة الإدراك لأن نفس الإنسان لامادية، ولكن هذا الإدراك إدراك فردي يتوسل خيال الشاعر وتجربة الصوفيّ ([7]).

الكليّ الواقعيّ النظريّ هو القاسم المشترك بين حدي الأفلاطونية المحدثة (أفلاطون وأرسطو)، وإن كانا يختلفان في أن هذا الكليّ مثل مفارقة لدى أفلاطون، وصور محايثة لدى أرسطو، وكلاهما يعدّ الكلي قائمًا بذاته، ينفعل به العلم الإلهي والإنساني.

حدّا الأفلاطونية المحدثة، هذان، ظلا القطبين اللذين يحددان بنية الأفلاطونية المحدثة في أشكالها كلّها الهلنستية، والعربية، واللاتينية، والألمانية، ولكن هذه الأفلاطونية المحدثة قد تجلت في أشكال مختلفة، مع ثبات هذا التقاطب بين الحدين: الأفلاطونيّ والأرسطيّ ([8]).

أما الشكل الذي أخذه الكليّ الواقعيّ في الأفلاطونية المُحدثة العربية، فقد كان له تجلّيان أساسيان هما:([9])

أشعريّ يعد هذا الكليّ تابعًا لعلم الله، ومتبوعًا لعلم الإنسان.

ومعتزليّ يعدّه متبوعًا لعلم الإله، تابعًا لعلم الإنسان ([10]).

وقد حدثت هذه النقلة في الكلام الإسلاميّ بفضل الفاعلية المنسوبة إلى الذات الإلهية التي أضعفت الواقعية المطلقة، ولكنها لم تُزلها؛ لأن تبعية علم الإنسان للكليّ تبقي قدرًا من واقعيتها بالنسبة إلى الإنسان، وتبعية علم الإله لفاعلية الإنسان النظرية تُبقي قدرًا من واقعيتها بالنسبة إلى الإله.

إن فرض جوهر ثابت للكلي يغلقه على استقبال أفراد جدد؛ لأن الجوهرة تجعل الأفراد الذين يشكلونه طاردين لكلّ ما يمكن أن يستجدّ، وهو يجعل الكليّ موجودًا قائمًا بذاته؛ ما يُتبِع العلم لماهيّة موجودة، ويحدّ من الاجتهاد، والمبادرة الإنسانية، وفاعليتهما الخلّاقة.

حصل الانتقال إلى الكليّ الاسميّ في الفلسفة الإسلامية على يد ابن تيمية، بتوسط الاعتزال والأشعرية اللذين أضعفا -كما أشرنا آنفًا- واقعية الكليّ؛ ما سهّل نقض واقعية الكليّ، وعدّ الحدود غير مطابقة للماهيّات، وإنما محض أسماء من اختراع عقل الإنسان الذي يختار صفات لازمة للأشياء، وليست معبّرة عن ذاتيتها، ويحاول أن يعرّف بها الأشياء تعريفات لا تدّعي مطابقة الماهية، ولا جوهرة العموم الذي يظل قابلًا لشمول أفراد جدد، وهو ما يُبقي علم الإنسان في حالة تطور دائم ([11]).

نقض ابن تيمية واقعية الكليّ النظريّ عندما قال: إن الأسماء ليست مطابقة للماهيات، وإنها اختراع بشري، وإنها رمزُ تميّزِ ابن آدم الذي أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة﴾ إلى آخر الآية (البقرة، 31)؛ فبعلم الأسماء مُنح الإنسان منزلة أعلى من منزلة المخلوقات الأخرى.

لكن هذا العلم ليس إلا فاعلية إنسانية، تنتج التشاكل عن طريق إضافات منطقية ورياضية بين الرموز (بما هي أعيان الأسماء)، والمرموزات (بما هي أعيان المسميات).

فالحدود لا تطابق الماهيات –بحسب ما يدعي المنطق الأرسطيّ- ولكنها تحتوي صفات تُنتقى من بين صفات الموجودات؛ للإشارة إليها، ومن الطبيعي ألا يطابق المنطقيّ الوجوديّ؛ لأن الوجوديّ أكثر كثيرًا من أن يحصى ﴿قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا﴾ (الكهف، 109). أما المنطقيّ اللغويّ، فيمكن حصره، ولا يطابق المحدود غير المحدود.

هذه الفاعلية الإنسانية التي تستحيل الكلّيات -بسببها- إلى كلّيات اسمية، لا كلّيات واقعية، هي الكفيلة بتجسيد تميز الإنسان، واضطلاعه بمهمته التي استخلفه الله في الأرض؛ للقيام بها.

إنها إبداع العلم الذي لا تطابق رموزه طبائع الأشياء، وتجعل هذا العلم فعلًا تاريخيًا، لا يتعالى على الطبيعة، ولا يتعالى على التاريخ.

وهي الكفيلة بوضع الأساس لعلم الطبيعة التي يمثل المنطق الصوريّ -بما هو حسابات لعلاقات صورية فحسب-، والمنهج التجريبي أداتي التعاطي معها.

إن المدرسة العقدية الأشعرية المهيمنة في العالم الإسلامي (بما انطوت، وتنطوي عليه من إمكان الانتقال إلى الاسمية التي تحققت على يد ابن تيميّة) هي التي يجب الاشتغال على تطويرها؛ من أجل تحقيق هذه النقلة التي تتطلبها ضرورة فتح الأبواب على مصراعيها أمام مبادرة الإنسان المعرفية التي تتجسد بصراع بين واضعي الرموز، من دون الطموح إلى التوصل إلى المطابقة مع ماهيات يستحيل التطابق معها، والاكتفاء بإبداع التشاكل بين الرموز والمرموزات.

وهي تمثل حقل الاشتغال المتاح؛ لأنها تمثل المعتقد السائد الذي لا يمكن الضرب صفحًا عنه؛ بحكم هيمنته من جهة، وبحكم الاستعداد الكامن فيها للانتقال إلى الاسمية (كما حدث ذلك سابقًا) من جهة أخرى.

ثم إن الأشعرية تقترن بالعرفان الذي يمثّل الجانب الروحيّ الذي يصعب من دونه جَدْل الصلة الحقيقية بين الفرد وخالقه، وهي صلة ننشد مستحيلًا إذا تخيلنا إمكان قطعها في مجتمعات، يمثل التوحيد محور حياة أغلبية أفرادها ([12]).

وجزمنا بصعوبة، إن لم يكن استحالة جدل الصلة الحقيقية بين الفرد وخالقه من دون العرفان إنما يستند إلى مستندين:

الأول، أن منهج البرهان الذي يدّعي أنصاره أنه السبيل الأجدى لإثبات الغيبيات، فضلًا على غيرها، لا يجدر أن يحتلّ موقع الصدارة؛ لأن الدعاوى الدينية المستندة إلى البرهان العقلي، لا تصمد أمام دعاوى التفنيد التي تعدّ القضية غير القابلة للتفنيد قضية ليست ذات معنى.

ويمكن توضيح ما يقصده منظّرو التفنيد من خلال قصة مشهورة هي قصة حارس الحديقة ([13]) التي يجعل الحوار فيها بين مؤمن بكائن متعال غيبيّ وغير مؤمن من الصعوبة بمكان دحض دعوى منظري التفنيد إلا باللجوء إلى فضاء آخر غير فضاء البرهان العقلي.

وقد تخيل (ويسدوم) ([14]) قصة حارس الحديقة؛ لتأكيد أن الإيمان بالله قضية من جنس القضايا غير القابلة للتفنيد، ومن ثَمّ ليست ذات معنى.

عاد شخصان إلى حديقتهما المهملة منذ زمن طويل، ووجدا بين النباتات القديمة أعشابًا نامية نموًا لافتًا، فقال أحدهما للآخر: لا بد أن الحارس كان هنا، واعتنى بهذه النباتات. وبعد سؤال الجيران، قال الجيران: إنهم لم يروا أحدًا دخل الحديقة، فقال الأول للثاني: لا بد أنه عمل بينما كان الجيران نائمين؛ فقال الثاني: لو كان ذلك صحيحًا لسمعه أحدهم.

فقال الأول: انظر إلى الطريقة التي رتبت بها هذه الأعشاب، توجد غاية وإحساس بالجمال، أظن أنه يوجد شخص اعتنى بها، وهو غير مرئي بالعين المجردة، أظن أننا إذا بحثنا أكثر سنجد تأكيدًا أكبر على ذلك.

فحصا الحديقة بحرص أكبر، وكانا يصلان أحيانًا إلى أشياء جديدة، تؤكد وجود الحارس، وأحيانًا أخرى يصلان إلى نتيجة أخرى تؤكد عكس ذلك، إلى درجة أنهما ظنا -في بعض الأحيان- أن شخصًا خبيثًا مخرّبًا كان يعمل في الحديقة.

وبعد أن انتهيا من البحث، قال الأول: ما أزال أظن أن الحارس كان يأتي، بينما قال الآخر: أنا لا أظن.

يناقش وسدوم أن الاعتقاد الأولي بوجود حارس غير ملاحظ، كان فرضًا تجريبيًا، ولكن مع تقدم التجربة بات واضحًا أنه لم يعد هناك واقع قابل للمراقبة، عن حارس يختلف حوله المعتقد بوجوده، وغير المعتقد بذلك.

خلافهما الوحيد كان حول وجود حارس غير مرئي، وغير مسموع، ولم تعكس كلماتهما المختلفة الخلاف حول ما وجداه في الحديقة، ولا الخلاف حول ما يمكن أن يجداه لو فحصا أكثر، ولا الخلاف حول ما ترك في الحديقة من دون عناية.

لم تكن غاية وسدوم إقناع قرائه بوجود الله أو بعدمه، ولكنه يناقش أنه في ما خصّ بعض الأسئلة؛ إذ لا نستطيع أن نصدر حكمًا يفصل بين أجوبة محورية عبر تحرّ تجريبي، ولكن يمكن أن يكون من الملائم البحث عن جواب أكثر معقولية.

ويناقش وسدوم أن سؤال المرء عن وجود الله يصاحب شعورًا تجاه العالم.

خلاف الصديقين حول وجود حارس غير مرئي، يترافق بخلاف حول شعور كل منهما تجاه الحديقة.

إن تكييف (فلو) ([15]) لقصة وسدوم كانت عبر تحرٍّ تجريبي، يقوم به الصديقان باستخدام سياج كهربائي، وكلاب بوليسية، لكنهما لم يعثرا على علامة مباشرة تدل على الحارس.

لكنّ المؤمن ما زال يقول: يوجد حارس غير مرئي، وغير محسوس، لا يصدر صوتًا، وليس له منظر، إنه حارس يأتي إلى الحديقة؛ لكي يعتني بها؛ لأنه يحبها.

أخيرًا يصيب الشاكَّ اليأسُ؛ فيقول: ماذا تبقى من تأكيدك الأصلي؟

كيف يختلف حارسك غير المرئيّ، وغير المحسوس عن الحارس المتخيّل، أو عن عدم وجود حارس على الإطلاق؟

ومنه، يستنتج (فلو) أن الاعتقاد المفترض بوجود حارس غير مرئيّ، وغير محسوس، ليس تأكيدًا على الإطلاق؛ لأن التأكيد الذي لا يمكن تفنيده لا يؤكد شيئًا، وهو بلا معنى، والعبارة عن الله تشبه عبارات المعتقد بوجود حارس الحديقة غير المرئي، ليخلص فلو إلى نتيجة أن المؤمنين، والحال هذه، يفشلون في إنجاز المطالب الوصفية للغة ذات المعنى التي حدّدها برتراندرسل ([16]).

بمعنى أن المصطلح الذي يشير إلى المطلق لا يستند إلى أرضية تجريبية.

ولكنّ ما يفنّد هذا الادعاء أن التجربة الإنسانية أوسع من التجربة الإمبريقية، فالكائنات البشرية لا تدرك ذاتها من خلال إدراك حسيّ فحسب، وإنما من خلال إدراك لا حسي أيضًا، والدعاوى الثيولوجية تستند إلى تجارب لا حسية.

والأرضية التي تجعل للمصطلح الذي يشير إلى المطلق مرجعية، هي عجز الناس عن تجنب عدّ حياتهم ذات معنى، وعجزهم عن تجنب امتلاك ثقة بالقيمة النهائية للوجود ([17]).

الثاني؛ أن الإلهيات الإسلامية (التي تنتمي إلى البيان)، التي حاولت محاكاة الأساليب البرهانية تعاني-كما يقول طه عبد الرحمن- من معضلات عدة:([18])

أولاها أنها رمزيّة لا وجوديّة؛ بمعنى أن أدلتها تستخدم اللغة التي لا تشخّص الوجود، ولا تستحضره؛ فاللغة بنيات رمزية، تعبر عن تصوّرات، وهي مستقلة عن مستوى الوجود.

وثانيها أنها تشبيهية لا تنزيهية، فصفات الموجود المطلق لا يمكن أن تُدرك من دون تشبيهها بحالات محدودة، هي أنموذجات مثلى للحالات العينية المدركة.

وتجدر الإشارة إلى محاولة ابن تيمية ستر (عورة اللغة) التي تجبر مستخدمها على التشبيه، فقد قال ابن تيمية بيد لله ليست كالأيدي، وهو بذلك، لم يفعل أكثر من الهرب من تأويل إلى تأويل؛ لأن اليد قد وضعت في أصل اللغة للجارحة، والقول إنها ليست كالأيدي هرب من تأويلها بمعلوم، كما فعل الأشاعرة (أصحاب الحلّ الأكثر توفيقًا كما نزعم) الذين أولوها بالقدرة إلى تأويل بمجهول ([19]).

وثالث المعضلات أن مقدماتها ظنية، لا يقينية، فالاستدلال الآتي:

إما أن الكون غير موجود، أو أن الله موجود.

ولكنّ الكون موجود.

إذًا الله موجود.

مقدمته الكبرى ظنية، لا يقينية.

صحيح أن استدلالات علم الإلهيات كفيلة بتحصيل ظنّ راجح، ولكنها تحتاج إلى شيء آخر يحيلها إلى يقين.

ثم إن الشعور تجاه العالم الذي يستبطنه المؤمن في قصة حارس الحديقة ضروريّ لتأكيد اعتقاده؛ لأنه إذا نقلناه إلى مستوى الوجود الكليّ لا يستطيع تجنب الثقة بالقيمة النهائية للوجود، ولا تجنب إحساسه بقيمة وجوده، وهما عدم قابلية للتجنب، يضفيهما الوجدان، والإدراك اللاحسّي الذي يمنحه العرفان، يحتاج محصّل الظنّ الراجح من استدلالات علم الإلهيات الإسلامي إلى تجربة حية، تحول ظنّه الراجح هذا إلى علاقة وجدانية حية مع المطلق.

هذه التجربة الحية التي يمنحها العرفان تضيف إلى الظن إحساسًا نابضًا بالحب للصانع ومخلوقاته، وهو إحساس نابع من تجربة معايشة المطلق، والإحساس الدائم بمراقبته.

يمكن تأصيل العرفان في القرآن الكريم؛ لأن بعض آياته تشير إلى قيمة نهائية للوجود، وإلى إحساس بمعنى الوجود في الحياة، وهذا الإحساس، وتلك القيمة لا يكرّسهما إلا العرفان.

﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ (المؤمنون-115).

﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ (الدخان:38-39).

إن المدرسة الأشعرية تتميز بفتحها إمكان تأويل المعطى الشريعي تأويلًا لا يغالي في تضمين هذا المعطى باطنًا فلسفيًا (كما تفعل الفرق الباطنية)، في الوقت الذي لا تقبل فيه بحرفية ظاهرية تغلق الباب أمام التأويل؛ الأمر الذي يفضي إلى تجميد المعطى الشريعي، وجعله عاجزًا عن مواكبة المتغيرات ([20]).

من هنا؛ فإن مفهوم التأويل الذي كان موضع خلاف بين المدارس الإسلامية، وكان مصدره الآية القرآنية:

﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب﴾. (آل عمران، 7).

هو مفهوم محوري يضخّ الحركة في محاولات مواكبة تجديد الخطاب الإسلامي؛ من أجل التصدّي لمحاولات إخراج المسلم من التاريخ، وهو المنتمي إلى الرسالة التي كانت الأجدر بإدخال الإنسانية في التاريخ؛ لأنها قطعت صلته المباشرة بالمطلق حالَ موت مبلغ الرسالة.

وعلى الرغم من وجود قراءتين للآية، تقف إحداهما عند لفظ الجلالة في الآية، جاعلةً علم التأويل مقتصرًا على الله، وتعطف القراءة الثانية على لفظ الجلالة الراسخين في العلم، وتجعلهم عالمين بتأويل ما تشابه منه([21])، فإن ضرورة قراءة النص قراءة معاصرة لنا، تقتضي الأخذ بالقراءة الثانية التي تفتح فضاء التأويل أمام الفهم الإنساني؛ لأن قصره على الله بعد انقطاع الوحي، منعٌ للخليفة من المبادرة التي أمره بها المستخلِف، وحجر على عقله الذي أمره المستخلف باستخدامه؛ لفهم آلائه طبيعية وشرعية.

 

ثانيًا: تجديد في أصول الفقه

1- على الرغم من أن مقاصد الشاطبي تعد مرجعية مهمة جدًا لكثير من المنظرين الإسلاميين المعاصرين، في بحثهم عن تأصيل إسلامي لمفهومات معاصرة، فإن نظرية المقاصد الشاطبية تعاني-بحسب طه عبد الرحمن- عيوبًا يمكن إيجازها بالآتي:([22])

-التقسيم الخماسي للمصالح (الدين والعقل والنفس والنسل والمال) لا يستغرق المصالح كلها، ومعروف أن من قواعد التقسيم الصحيح أن يشمل الأقسام كلّها، فمثلًا لا وجود لمصلحة العدل، وهي مصلحة بالغة الأهمية من منظور إسلامي وغير إسلامي، هذا العيب الأول.

-من شروط التقسيم الصحيح أن تتغاير الأقسام، ولا تتداخل في ما بينها، والنفس والعقل لا يتغايران تغايرًا كليًا، وهذا العيب الثاني.

-من شروط التقسيم الصحيح أن تكون الأقسام جزئيّات تندرج تحت الكليّ، ومصلحة الدين لا تندرج تحت مصالح الشريعة، بل هي أعمّ منها، وهذا العيب الثالث.

-إن عدّ مكارم الأخلاق من ضمن التحسينيات، حطّ بها من مقام عال، إلى مقام كماليّ لا يليق بها، وهذا العيب الرابع.

إذا أعيد النظر في مقاصد الشاطبيّ ولوحظت هذه الهنات فيها، فإن الأحكام المشتقة، -بالاستناد إليها- ستكون أكثر قدرة على مواكبة أحوال العصر، وأكثر مرونة في الاستجابة للمستجدات التي تطرأ على حياة المسلمين.

وخصوصًا محاولة استغراق المصالح الإنسانية، وتبديل موضع مكارم الأخلاق، ورفعها من مقام التحسينيّات إلى الضروريّات.

ونظنّ أن هذا التبديل في الموضع لمكارم الأخلاق راهن وملحّ؛ لأنه كفيل بمزاحمة معيار المفاضلة الذي يستخدمه المتطرّفون، وهو سلامة المعتقد، وهو معيار يجعلهم لا يقيمون وزنًا للأخلاق في ممارساتهم، وهو أحد العوامل التي نظنها مفيدة في فهم إسرافهم في الوحشية، واستمرائهم القتل والتعذيب ([23]).

ثانيًا- إن النصّ القرآني قابل للانفتاح على إمكانات تأويل هائلة، فهو مثل أي نصّ ينطوي على قصدية، وقصديته تتوسط بين قصدية المؤلف وقصدية القارئ، وهو منطوٍ أيضًا على قابلية استعادة تأويلية مستمرة، ولقد سبق أبو إسحاق الشاطبيّ منظّري التأويل المعاصرين في وضعه محدّدات للتأويل تلفت النظر في تشابهها الكبير مع أحدث المحدّدات التأويلية.

فمن محددات التأويل الشاطبية مسلّمة اللسان، وهي شبيهة إلى حدّ كبير بالموسوعة الثقافية والمعرفية لامبرتو إيكو فسيميائية الأخير ([24]) لا تمنح السلطة كاملة للقارئ لكي ينتهك النصّ مثل ما يحلو له، كما تفعل تفكيكية دريدا، ولا تهمّش القارئ، وتقتل المؤلف مثل ما تفعل البنيوية، وإنما تعدّ النصّ قابلًا لإعادة الإنتاج عبر موسوعة معرفية يمتلكها كلّ من القارئ والكاتب. وهي موسوعة يختلف كمّها ونوعها لدى الطرفين، ولكنّ وصولهما إلى منتصف الطريق ممكن ما داما ينتميان إلى السياق الاجتماعيّ والثقافيّ نفسه.

ومسلمة اللسان الشاطبية مع مقاصد النصّ، ووحدة النص وانسجامه تمثّل محددات التأويل الشاطبية([25]) ، ولكنها على الرغم من سبقها الزمني لا يمكن أن تكون صالحة للاستثمار في تجديد الخطاب بالكشف عن طبقات معنى جديدة ما لم يستغنَ عن فهم الشاطبي الأصليّ لها، فالأخير حصرها بمعهود العرب الأميين، وقد نجد له العذر في ذلك؛ لأنه كان يريد تضييق حدود التأويل إلى أضيق نطاق؛ خشية تغلغل البدع، وتفريق شمل الأمة، وهو ما كانت الأوضاع السياسية آنذاك تنذر بحدوثه.

أما وحدة النصّ، وانسجامه، ومقاصد النص، فإن شبهها الكبير بمحددات تأويل أمبرتو إيكو لا يحتاج إدراكه إلى كبير جهد.

فلكي يكون التأويل منضبطًا عند إيكو ينبغي الأخذ في الحسبان مقام الخطاب، وهو أحد قيدين وضعهما إيكو على التأويل، وهما العلاقة بين الذات المتلفظة والذات المؤولة، والعلاقة بين كلّ من الذاتين وبين الموضوع اللغويّ.

ولأن النصّ نقطة التقاء الذاتين، فإن محاولة كشف مقصده جزء أساسي من ضوابط صحة التأويل، ولا يتجسّد مقصد النص إلا من خلال وحدته وانسجامه ([26]).

ثالثًا؛ لما كان النصّ مركزيًا في الاستراتيجية الأصولية، فإننا يمكن أن نلحظ من تقسيم الأصوليين مستويات الفعل اللغوي في النصّ مركزيّة الاحتمال فيه، واختراقه مستويات الفعل اللغوي كلّها إلا واحدًا.

فالفعل اللغويّ وفق تصنيف الأصوليين الأشهر يقسم إلى ([27]):

النصّ هو ما كان لفظه دليله، وبتعبير آخر هو رجحان من دون احتمال.

والظاهر رجحان مع احتمال.

والمؤول رجوح مع احتمال.

والمجمل احتمال مع تساو.

واضح أن الاحتمال قاسم مشترك بين هذه الأقسام -ما عدا القسم الأول، وهو المسمّى (النص)- وهو في نظر جمهور يعتدّ به من العلماء نادر وقليل العدد ([28])، والمؤوّل من النصوص يقسم إلى:([29])

-تأويل قريب إذا كان دليله قادرًا على تحويل المرجوح في نفسه راجحًا.

-وتأويل بعيد إذا كان دليله ضعيفًا، وعلى الرغم من اعتماده في قوته وضعفه على توسط الدليل- يبقي الفضاء مفتوحًا؛ لأن الأدلة تتفاوت بحسب مخزون المؤول وقدراته، وتظل قابلة للقبول والرفض.

رابعًا؛ يمكن أن تستثمر الاستراتيجية الأصولية في تصنيف الدلالات استثمارًا يساعد مساعدة بالغة الأهمية في فتح النصّ على فضاءات معنى هائلة؛ لأن فيها ما يتيح فتح آفاق النصّ على عوالم متنوعة، وغنية، ومتعددة؛ وهو الأخذ في الحسبان للسياق الذي تعبّر عنه الدلالات.

وبيان ذلك أن القوة اللزومية للدلالات تتفاوت بين أنواع الدلالات، وهذه الأنواع هي ([30]):

دلالة العبارة، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الدلالة، ودلالة الإشارة.

فللقول الطبيعي – بحسب القراءة الأصولية – استلزامات متنوعة منها – وهو ما يهمّنا في هذا السياق – استلزام مقام الكلام وقواعد الخطاب.

ولكي نوضّح بالاقتصار على شرح دلالة العبارة ودلالة الإشارة وصولًا إلى غايتنا، نقول: إن دلالة الدلالة هي استلزام القول لمعنى تابع للمعنى العباريّ أي مع توسط دليل مشترك تكفي في إدراكه قواعد التخاطب، ومن غير توقف فائدة القول على هذا المعنى.

ومثالها ﴿ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما﴾، فالنهي عن الإيذاء الأقل يستلزم النهي عن الإيذاء الأعلى، والإيذاء هو الدليل المشترك، ولكن المعنى اللازم عن القول العباري ليس شرطًا تتوقف عليه الفائدة من القول الأخير كما هو واضح فليس انعدامًا لفائدة القول وجود لازمه.

إضافة إلى أن اجتماع القول الأصلي مع نفي اللازم لا يؤدي إلى التناقض، وهذا محكّ توسط الدليل في ماهية هذه الدلالة؛ لأن نفي الدليل يؤدي إلى نفي الحكم.

ودلالة الإشارة تتحقق عندما يستلزم المعنى العباريّ اللازم، ولا يستلزم نفي الأول نفي الثاني.

وهي بالتعريف: «استلزام القول لمعنى تابع للمعنى العباري من دون توسط دليل مشترك، ولا توقف فائدة القول عليه». ومثالها:

(البقرة، آية 233). ﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾.

لهذا القول العباريّ مقصودان: أصليّ وتبعيّ، الأصليّ هو: تجب على الوالد نفقة الوالدة المرضعة في حالة الطلاق.

والتبعيّ هو: ينتسب الولد إلى الوالد.

واللوازم الإشارية للمقصود الأصلي كما يوضحها طه عبد الرحمن في كتابه اللسان والميزان ([31]).

1-لا ينزع الطلاق من الوالدة حق إرضاع ولدها.

2-لا يحرم الطلاق الوالدة المرضعة من حق إنفاق الوالد عليها.

الإنفاق على الوالدة المرضعة إنفاق على الولد الرضيع

ومن المقصود التبعيّ تلزم اللوازم الإشارية الآتية:

  • يتبع الولد الوالد في الانتساب إلى أسرته.
  • تورث النسبة إلى الوالد حقوقًا له على والده وحقوقًا لوالده عليه.
  • تجعل هذه النسبة لحقوق الوالد امتيازًا على حقوق الولد.

اللوازم عنهما مجتمعة:

  • تكون النسبة علة في وجوب الإنفاق على المطلقة المرضعة.
  • ينزل الإنفاق منزلة استئجار المنتسب إليه للمطلقة على إرضاعها.
  • لا يتوقف وجود النسبة على تحقق الإنفاق.

ومن مقومات اللزوم الإشاري أن لا تتوسطه علة، ويلزم عن عدم توسطها أن يؤدي اجتماع الأصل مع انتفاء اللازم إلى التناقض بعكس الحاصل في حالة دلالة الدلالة وتوضيحه هنا:

يجب على الوالد نفقة المطلقة المرضعة مع أن الطلاق ينزع عنها حق الإرضاع، والتناقض واضح بين المقصود الأصلي ونفي اللازم الإشاريّ.

لا تجب على الوالد نفقة المطلقة المرضعة؛ لأن الطلاق ينزع عنها حق الإرضاع.

إن القوة اللزومية لدلالة الإشارة تكمن في استعصائها على الإحصاء فقد لزم –كما عرضنا– عن القول العباري تسعة لوازم إشارية؛ وهو ما يثبت أنها قادرة على التكاثر إلى حدود بعيدة، وعلى التغلغل من دون الوقوف عند أفق معين؛ لأنها مباشرة من غير توسط دليل وغير مقوّمة بمعنى أن فائدة القول لا تتوقف عليها.

 

خاتمة

إن لمحاولات تجديد الخطاب الديني غاية أساسية هي جعله قادرًا على التجاوب لمفهومات أصبحت تبيئتها ضرورة للنهوض، والانفلات من دورة التخلف الخبيثة.

وهذا الخطاب الذي يستحيل شيئًا آخر إذا نزعت منه مركزية الواحد المفارق ومركزية النص اللتان يستمد منهما هذا الخطاب وجوده لا يمكن له أن يتفاعل تفاعلًا مثمرًا مع تلك المفهومات ما لم نعمد إلى استثمار أدوات من داخله، لا بتطويعه لأدوات مخارجة له، ولا بقسره على تجاور في الحيز مع مفهومات منبتّة الصلة به، أدوات قادرة على تليين صلابة المبدأ المركزي فيه الذي يتفرع إلى مركزية الواحد المفارق، ومركزية النصّ.

وهي محاولة للتليين لا تعدم أسبابها الموضوعية، وسندها من داخل الخطاب، فتحرير الفرد من قبضة الحتمية التي فرضها مذهب الطبائع في علم الكلام ممكن كما رأينا، وتحويل العلاقة بالكائن المتسامي إلى علاقة عمودية بسبب عجز مبادئ العقل وبراهينه عن الوصول إليها بمعزل عن العلاقة الروحية الفردية ممكنة أيضًا، وفي قصور أدلة علم الكلام البرهانية وصعوبة دحض دعوى منظري التفنيد ما يعزز إمكانها.

والانتقال إلى الكلي ّ الاسمي الذي حصل على يد ابن تيمية بعد إضعاف الكليّ الواقعيّ على يد الأشاعرة والمعتزلة بفضل الفاعلية الإلهية يمنح الذات مبادرتها الخلاقة، ويحرّر سعيها للمعرفة من التبعية لماهيات موجودة، ويطلق بعدها الإرادوي الذي حجبه بعدها المعرفيّ المقتصر على الاكتشاف بدل الخلق.

والاحتمال الذي يخترق مستويات النصّ، ويفتحه على فضاءات الإمكان، كفيل بتليين صلابة الشق الثاني من المبدأ المركزي، مثل ما تفعل دلالة الإشارة الشيء نفسه.

وما يسهم في تليينه أيضًا، والتحرر من أسر حرفيته الإمكان الذي عرضناه لإعادة النظر في مقاصده وتوسيعها، ورفع الأخلاق إلى موقع الصدارة في المصالح التي أثبت استقراء النص أنها غايته الأخيرة.

ولبيان ضرورة تليين صلابة المبدأ المركزي نضرب مثالًا عمليًا:

إن أبعاد الديمقراطية الثلاثة الصفة التمثيلية للزعماء، والمواطنية، والحقوق الأساسية، لا تصلح أبعادًا لها إلا إذا نظمها ناظم وحيد هو غياب المبدأ المركزي للسلطة –بحسب تورين- تظهر في غيابه وتختفي في حضوره ([32])

وليس بدعًا القول إن هذا المبدأ المركزي عقبة كأداء في طريق الديمقراطية؛ لأن أحد أكثر تعريفاتها تعبيرًا عن فحواها هو أنها مكان للغياب ([33]).

غياب القائد بعد حضوره، وغياب الحزب الحاكم بعد حضوره، وغياب الأكثرية بتحوّلها إلى أقلية، بعدّها أكثريةً تدعم برنامجًا، لا أكثريةً ثابتةً دينيةً، أو قوميةً، أو غير ذلك.

ولأن الغياب جوهرها، فإن المبدأ المركزي، بمركزيته هذه، يحول المكان الذي لا يتسع إلا للغياب إلى مكان مشغول بمبدأ صلب عصيّ على التغييب.

إن لهذا التعريف للديمقراطية سنده المنطقي؛ لأن الجدل الخلاق الذي تتطلبه الديمقراطية؛ لكي تكون ما هي، سوف يصطدم بسقف يحدد ارتفاعه المبدأ المركزي الذي لا يقبل متبنوه فكّ مركزيته.

ولتعزيز الفكرة نقول:

إن التشبث بمبدأ مركزي سبب رئيس من أسباب التطرف، الذي لا يكمن تهافته في سلوك ممثليه، وانغلاقهم داخل فهم حرفي للنصوص فحسب، وإنما في أن تصور الله نفسه ليس واحدًا عند من يريدون فرضه مبدأ مركزيًا على المجتمع والدولة.

فبعيدًا عن الثقافة الإسلامية الشعبية التي تنوس بين التصور القرآنيّ الخام للتوحيد، والوصول في بعض الأحيان إلى الوثنية، تعاني الثقافة العالمة تشظّيًا في محاولات تجسيده.

فهو عند البعض من أهل هذ الثقافة العالمة لا يتجسّد إلا في إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشرع، وتقيم حدود الله.

وعند آخرين يتجسّد في علاقة روحية عمودية بين الفرد وخالقه، تطهّر روح المخلوق من أدرانها، وترتقي بها في مراقي الفلاح.

وعند غيرهم يمثّل بناء المجتمع التقيّ الورع النهج الوحيد الصالح لتجسيد هذا المبدأ.

إنه تصور متنوع عند من يريدون فرضه، وهوما يحول إرادة فرض تصور معين له إلى سلوك استبدادي ينتهجه أشخاص لهم فهم مختلف لكيفية تجسيده.

هي حال لا تثير الاستغراب إذا سلّمنا بأن الشعارات (مفارقةً، أو محايثةً) تحتاج إلى صوغ علاقة جدلية لها مع السياق التاريخي؛ لكي تفعل فعلها المثمر.

لكن هذا السياق الذي يشبه حوضًا مائيًا يفتح سكورًا لممكنات، ويغلقها أمام ممكنات أخرى يتطلب فاعلين اجتماعيين مدركين أيَّ سكور يفتحون بما يلائم الممكنات الأكثر قابليةً في اللحظة التاريخية المعطاة للتحول إلى واقع.

لأجل هذا فإن المبدأ المركزي الذي لا يدرك متبنّوه ممكن خيار الحرية -بما هي جوهر الديمقراطية- سيظل عائقًا في سبيل تحقيقها، وسيكون فضاءً ممكنًا لها إذا انجدل في علاقة جدلية مع هذا الممكن الأكثر إلحاحًا، وقابليةً للتحول إلى واقع.

ومن هنا تأتي ضرورة وضع ناظم لنزع مركزيته لدى الإسلاميين (الذين هم أول من يتشظّى لديهم المبدأ) بجدله مع الواقع، وفق ما يتيحه الممكن الذي يتيحه السياق التاريخي.

فهو لن يمسخ مكان الغياب بحضور غير منقطع؛ لأنه سيكون ذا تجليات متنوعة ذات طابع نسبي بصدورها عن فهوم بشر نسبية، ويلزم عن ذلك عجزها عن التشبث بالحضور، واضطرارها إلى قبول الغياب.

 

المصادر والمراجع

باللغة العربية

  • الخولي. يمنى، الطبيعيات في علم الكلام، من الماضي إلى المستقبل، (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1995).
  • فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الآفاق المستقبلية، سلسلة عالم المعرفة، (الكويت: 2000).
  • الزركشي، البحر المحيط، تحقيق لجنة من علماء الأزهر، ط1، (القاهرة: دار الكتب، 1994).
  • الصديقي. العربي، البحث عن ديمقراطية عربية، الخطاب والخطاب المقابل، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007).
  • الغزالي، المنخول، محمد حسن هيتو (محقق)، ط2، (دمشق: دار الفكر، 1980)>
  • المرزوقي. أبو يعرب، إصلاح العقل العربي، من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون، ط2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996).
  • تورين. آلان، ما الديمقراطية، عبود كاسوحة (مترجم)، (دمشق: وزارة الثقافة، 2000).
  • رمضان. يحيى، القراءة في الخطاب الأصولي: الاستراتيجية والإجراء، ط1، (عمان، الأردن: جدارا للكتاب العلمي، 2007).
  • ساندل. ج، الليبرالية وحدود العدالة، محمد هناد (مترجم)، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009).
  • عبد الرحمن. طه، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998).
  • العمل الديني وتجديد العقل، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1997).
  • طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994).
  • موسنييه. روالن، موسوعة تاريخ الحضارات العام، يوسف أسعد (مترجم) داغر وفريد م. داغر، ط2، (بيروت/ باريس: دار منشورات عويدات، 1987).
  • محمد أبو زهرة، ابن تيمية: حياته وعصره-آراؤه وفقهه، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1991).

 

باللغة الإنكليزية

  • Allan Knight. John, Liberalism versus Post liberalism: The Great Divide in Twentieth-Century Theology), Oxford University Press, New York, 2013

([1]) انظر يمنى الخولي، الطبيعيات في علم الكلام، من الماضي إلى المستقبل، (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1995)، ص63-66.

([2]) انظر يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الآفاق المستقبلية، سلسلة عالم المعرفة، ع: 264، (الكويت: 2000)، الفصل الرابع (ثورة الفيزياء من منظور فلسفة العلم)، ص. 173 وما بعدها.

([3]) انظر: طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998)، ص. 362-365.

([4]) مناف الحمد، «في تطور الذات الليبرالية ومعوقات تبيئتها»، موقع الأوان، 2015

https://goo.gl/tQPBNS

([5]) انظر: ج. ساندل، الليبرالية وحدود العدالة، محمد هناد (مترجم)، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009)، ص. 173.

([6])ج. ساندل، الليبرالية وحدود العدالة.

([7]) روالن موسنييه، موسوعة تاريخ الحضارات العام، المجلد الرابع، يوسف أسعد (مترجم) داغر وفريد م. داغر، ط2، (بيروت/

باريس: دار منشورات عويدات، 1987)، ص. 14 ،45.

([8]) أبو يعرب المرزوقي، إصلاح العقل العربي، من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى اسمية ابن تيمية وابن خلدون، ط2، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996)، ص. 31.

([9]) أبو يعرب المرزوقي، إصلاح العقل العربي، ص63-68.

([10]) إن تعقيل المضمون النقلي الذي يُمثّل جوهر مذهب الاعتزال، كان وسيلة للحد من القدرة الخالقة، والإرادة الآمرة للخالق، وجعلهما متعلقتين بماهيات تسبق فعل الخلق والأمر.

فالخلق من عدم لا يعمل في عدم محض، وإنما في عدم (شيء)، له ماهية لا تضيف إليها القدرة الخالقة إلا الوجود.

والإرادة الآمرة المُشرّعة لا تعمل في أشياء (معدومة) عدمًا محضًا، وإنما في أشياء لها قيم ذاتية، وإن كانت معدومة فتُقيد بذلك من اعتباطية هذه الإرادة الآمرة، وإطلاقها.

تقييد القدرة الخالقة، والإرادة الآمرة عمل يتوخّى جعل العقل والغاية، أو الماهية والقيمة متقدمتين على القدرة الإلهية الخالقة، والإرادة الإلهية الآمرة، وهو ما يلزم عنه منطقيًا مذهب التحسين والتقبيح العقليين الذي ظُن أنه انتصار للعقلانية على النصية.

([11]) أبو يعرب المرزوقي، إصلاح العقل العربي، ص. 599.

([12]) مناف الحمد، «ماركس ارحل أبا الحسن امكث لنحاورك»، جيرون، (8 كانون الأول، 2016).

http://www.geroun.net/archives/70346

([13]) John Allan Knight, Liberalism versus Post liberalism: The Great Divide in Twentieth-Century Theology), Oxford University Press, New York, 2013(, p. 46.

([14])  فيلسوف لغة بريطاني، شرح أعمال فتجنشتاين، وأضاف إليها.

([15]) فيلسوف إنكليزي، ينتمي إلى المدرسة التحليلية، اشتهر بدفاعه عن الإلحاد.

([16])متطلبات رسل الوصفية:

تشير الأسماء إلى أشياء محددة، بقدر ما تمثل وصفًا محددًا، يصف موصوفًا، هو مرجعية لها، وهو مطلّب يتضمّن اشتراطين فرعيين:

-معنى الموضوع: هو مجموع الشروط الوصفية الضرورية، والكافية التي تجعل الموضوع يشير إلى الشيء

معنى المحمول: هو مجموع الشروط الوصفية الضرورية، والكافية لجعل المحمول صحيحًا لموضوعه.

([17]) Ibid, p. 75.

([18])طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1997)، ص.26-29.

([19]) محمد أبو زهرة، ابن تيمية: حياته وعصره-آراؤه وفقهه، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1991)، ص. 234.

([20]) مناف الحمد، «ماركس ارحل».

([21])محمد أبو زهرة، ص 238.

([22]) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994)، ص 111.

([23])من القصص الطريفة التي تؤكد اعتماد سلامة المعتقد معيارًا وحيدًا للحكم على الهداية ما يروى عن فخر الدين الرازي مؤلف كتاب المحصول الكتاب الموسوعي في أصول الفقه وعدد من الكتب الأخرى:

فيروى أنه كان له خصوم كثيرون، وقد بلغ بهم الفجور في الخصومة أنهم كانوا يرفعون له الرقع في أثناء دروسه في المسجد مكتوبًا فيها أن امرأته تزني وتفسق وأن ابنه كذلك فكان يجيبهم بقوله: «إن هذه الرقعة تتضمن أن ابني يفسق ويزني وذلك مظنة الشباب فإنه شعبة من الجنون، ونرجو الله تعالى إصلاحه والتوبة، وأما امرأتي فهذا شأن النساء إلا من عصمها الله، وأنا شيخ ما فيّ للنساء مستمتع. هذا كله ممكن وقوعه ولكني والله ما قلت عن الباري جسم ولا إن له شبهًا ولا ابني يقول ذلك ولا زوجتي تعتقده ولا غلامي فأي الفريقين أهدى سبيلا».

في جواب الرجل معيار للحكم على الهداية مستقل عن السلوك الأخلاقي حتى لو كان هذا السلوك منافيًا للمنظومة الخلقية المنبثقة من التشريع؛ فما يمس الأخلاق ليس ذا شأن خطر حتى لو تعارض السلوك المنتقد مع أوامر الله ونواهيه من مثل ارتكاب الزنا إذا ما وضع في كفة، ومسائل الاعتقاد في كفة أخرى؛ فالحكم على الهداية دالة ليس للسلوك الأخلاقي وإنما لسلامة المعتقد.

([24])  يحيى رمضان، القراءة في الخطاب الأصولي: الاستراتيجية والإجراء، ط1، (عمان، الأردن: جدارا للكتاب العلمي، 2007)، ص 18-20.

([25]) يحيى رمضان، القراءة في الخطاب الأصولي، ص 61.

([26]) يحيى رمضان، القراءة في الخطاب الأصولي، ص 458.

([27]) يحيى رمضان، القراءة في الخطاب الأصولي، ص 376.

([28]) الغزالي، المنخول، محمد حسن هيتو (محقق)، ط2، (دمشق: دار الفكر، 1980)، ص. 165.

([29]) الزركشي، البحر المحيط، تحقيق لجنة من علماء الأزهر، ج5، ط1، (القاهرة: دار الكتب، 1994)، ص 37.

([30])  طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998)، ص. 108.

([31])  طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1998)، ص 124-127.

([32])  آلان تورين، ما الديمقراطية، عبود كاسوحة (مترجم)، (دمشق: وزارة الثقافة، 2000)، ص 253.

([33]) انظر: العربي الصديقي، البحث عن ديمقراطية عربية، الخطاب والخطاب المقابل، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007).