لم يعد خافيًا على أحد أن العالم غير آبه لمطلب السوريين العادل برحيل بشار الأسد وزمرته، وأن مزاجًا عامًا يسود الأوساط المعنية بالشأن السوريّ لم تعكّره صور التعذيب في معتقلات نظام الأسد، ولا صور الجثث المحترقة بسلاحه الكيماويّ، وهو ما يمكن أن يمثل موضوعًا لدراسة جادة عن مدى صدقية القيم السائدة في العالم، وعن قيمة المثل التي قيل لنا إن إنزالها من السماء إلى الأرض سيحيلها إلى مثل أكثر نفعًا وعمومية وموضوعية.

ولكنّ الزاوية التي لم ينظر منها الكثير من المتابعين للشأن السوريّ من الذين لا يكفّون عن النوح والتذمر على صمم العالم، ولا إنسانيته، ومن الذين قسموا المشهد إلى قسمين متقابلين يحتلّون فيه موضع الثائر النقيّ صاحب الحقّ، ويحتلّ فيه خصومهم موضع الملطّخ بالسوء والرذيلة هي أن ما يجري من غدر بالثورة السورية، وتنكّر لدماء شهدائها، وتغافل عن أنّات معتقليها لا يُفسّر بهذا التموضع المصنوع صنعًا.

فلم تكن مخرجات مؤتمر الرياض بهذا البؤس، ولم تفصح عن عجز الفاعل السوريّ، ولم تُصغ بهذه الطريقة التي تحتمل تأويلات شتى تُفرغ مطالب السوريين من معانيها الحقيقية لو لم يكن في البنية التي تدعي التمثيل فتق عصيّ على الرتق.

فمن بين مدّعي النقاء الثوريّ في وفد المعارضة من طالب علنًا بإبادة الأقليات في سورية من علويين ودروز واسماعيليين؛ بناءً على عده لهم نجسًا ماديًا لا مناص من تطهير جسد المجتمع السوريّ منه؛ لأنهم في منظوره كفار بدين الحقّ.

ومنهم من احتجّ على إدانتنا لمجزرة المدفعية في حلب في بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ لأن تلك المجزرة في رأيه جهاد مقدس ضدّ كفار.

ومنهم من لا زال يعدّ تحاوره مع العلمانيين مرونة تستحق الثناء، وانفتاحًا لا بد من تقديره ورفع القبعة له.

ومنهم من استحقّ المساهمة في التمثيل، وهو لا يحسن القراءة والكتابة إلا بصعوبة، وقد أسرف في الاستجابة لمفرزات طائفيته المنتنة لمجرد أنه في صفّ محاربة النظام.

للمشهد تعبير موحٍ عن شرخ في الهوية السورية لم يكن مسبّبًا عن ظروف موضوعية، ولا عن بيئة مؤسسية، ولا عن تواطؤ خارجيّ فحسب؛ فقد ساهمت نخبنا منذ شروعها في بناء دولة الاستقلال في جرح هذه الهوية سعيًا وراء مصالح اقتصادية للبرجوازية المدينية، أو بتحريض من توق مرضيّ للسلطة من طرف المتلطّين خلف شعارات قومية ويسارية، أو استجابةً لفهم حرفيّ بائس للنصوص الدينية من طرف وكلاء الحقيقة المطلقة.

وقد أفرزت الهوية المشروخة والمجروحة في الثورة السورية كلّ مفرزاتها المنتنة وكلّ قيحها، وهي لا تزال تنزف في المشهد الحاليّ،  ولا تزال تصوغ ممثّلين مشوهين فكريًا ونفسيًا يتوهمون أن اصطفافهم الحاليّ كافٍ لمنحهم صفة الطهارة وصكّ النقاء الثوريّ.

ليست منصّا القاهرة وموسكو جسمين غريبين عن المجتمع السوريّ، فهما نتاج هذا الشرخ في الهوية والالتباس المسبّب عنها في الرؤية، وإذ يعبر ممثلوها عن فظاظة قبيحة في موقفهم، فإن للطرف المقابل دورًا في منحهم مساحة التعبير الكافي عن هذا القبح.

لا يحقّ لنا أن نكتفي بلوم العالم على الوقر في أذنيه-وهو لوم يستحقه- ما دمنا نُشرك في ممثلينا للتفاوض أنموذجات كالتي ذكرناها، وما دام فشلنا في صياغة هويتنا الوطنية الجامعة ذات الآفاق الإنسانية الجامعة لا يزال يصبغ أداءنا السياسيّ وخطابنا النظريّ.

رئيس التحرير