President of the National Coalition for Syrian Revolutionary and Opposition Forces Anas Al-Abdeh speaks during an interview in Istanbul on July 12, 2016. Al-Abdeh called for a stronger response by the international community against regime bombardments on rebel strongholds in Aleppo and Daraya, warning this could destroy a Geneva process to find peace to end Syria's over five year civil war. / AFP / OZAN KOSE (Photo credit should read OZAN KOSE/AFP via Getty Images)

أيمن أبو هاشم
ثمة قاعدة معروفة في أدبيات التفاوض والدبلوماسية تقول: ” حين يتنازل طرف عن أحد أوراقه التفاوضية بلا مقابل، لن يدخر الطرف الآخر الفرصة لتجريده من بقية الأوراق”. يبدو أن وفد هيئة التفاوض السورية في اجتماعات الدورة الرابعة للجنة الدستورية التي انعقدت في جنيف في30 تشرين ثاني/نوفمبر2020، لم يطق صبراً على استراتيجية وفد النظام، التي تقوم على التسويف والمماطلة وشراء الوقت، كما ظهرت بلا مواربة طيلة جولات اللجنة الدستورية، منذ انطلاقتها قبل قرابة العام ونصف. إذ قدم وفد الهيئة ورقة تتضمن مقترحاته للمضامين والبنود الدستورية، لن تترك للنظام وحليفه كما أوردت بنودها، أن يفكرا في تجريده من أي شيء، طالما أن تلك الورقة – كما يتبين من جوانب خطورتها – بمثابة صك تنازل عن طيب خاطر، لكل ما في جعبة المعارضة من أوراق.

تُحاكي النسخة الأخيرة من عروض وفد الهيئة في أقل تقدير، ما عملت عليه روسيا في مؤتمر سوتشي المنعقد في نهاية يناير/ كانون الثاني 2018، وما سبقه وتلاه من محاولات تفريغ القرارات الدولية من محدداتها المعروفة، واستبدالها بالمبادئ الإثني عشر التي خرج بها “سوتشي” وقتذاك، وأصبحت من غير مصادفةٍ مرجعية للورقة التي قدمها وفد الهيئة في الدورة الأخيرة للجنة الدستورية. استلزمت عملية تطويع المعارضة حتى وصلت إلى الانخراط في تطبيق مخرجات سوتشي، مشاركتها في لعبة المسارات والمنصات والسلال، التي أفضت إلى تغييرات جوهرية في الأسس والمراحل الناظمة للعملية السياسية، وفق قرارات المرجعية الدولية. لا عجب إذا أن تتوج الورقة تلك، المسار السياسي الكارثي للمعارضة، التي تقاطعت مختلف كياناتها ومنصاتها، على تطبيق واقعيتها السياسية، التي تستجيب لضغوطات وإملاءات الدول، على حساب التنكر لمتطلبات الحل العادل، الذي يستجيب لحقوق وتطلعات الشعب السوري.

ما هيأ للنظام القابض على سرديته الباطلة، الاستفادة القصوى من تنويعات المعارضة، التي أبدت استعداداً بلا رفة جفن، لتجاوز الانتقال السياسي، والقفز عن تسلسل مراحله وآليات تحققه، ثم انخرطت في المسار الدستوري بلا أية ضمانات، أو اشتراطات موثوقة. بحيث غدا حديثها عن الانتقال السياسي فارغاً من معناه، تلوكه حين تُحشر في مواجهة جمهور ناقم على أدائها. بوسعنا أن نتصور الابتسامة الصفراء التي ارتسمت على مُحيّا مسؤولي النظام، وهم يفصصون ورقة هيئة التفاوض، ويبحثون فيها عن فقرة خلافية ما، علّها تمنحهم مزيداً من الوقت، كي يرتبوا للخطوة التالية وهي “الانتخابات الرئاسية” وهي السلة التي ستجبُّ في المحصلة كل السلال الأخرى النافلة. لا يغير من هذه الحقيقة رد رئيس الوفد المشترك هادي البحرة على الأصوات التي انتقدت الورقة، والتي عزاها إلى “عدم وضوح تسلسل العملية السياسية لدى الكثيرين” وكأن أولئك الكثيرون من منظور البحرة، لا يعرفون أن منطقية التسلسل تخضع للتأويل والاستنساب بالفهم – كما تجود به قريحة إحاطاته – وأن مساره الدستوري المفتوح الآجال، لا يعكر صفو الانتقال السياسي غير المدرج واقعياً في العملية السياسية، ولم يبق من أثرٍ له، سوى في فهمه الخاص لتسلسل لا يستسيغه المنطق، ولا يمر مرور الكرام على عقول الكثيرين.

تكمن خطورة الورقة التي لا تنفصل عن السياق المكثف أعلاه، من الناحيتين السياسية والقانونية ذات الصلة بالقضايا الجوهرية التالية:

أولاً: تنص الورقة في الفقرة (6) على ما يلي ” يقرر الشعب السوري وحده مستقبل بلده بالوسائل الديمقراطية، وعن طريق صناديق الاقتراع بدون تدخل خارجي، وفقاً لحقوق الدولة السورية”.

يُخال للمرء حين يقرأ هذه الفقرة؛ أن اختيار الشعب لمستقبل بلده عن طريق صناديق الاقتراع، مسألة قابلة للتحقق في سورية كبقية دول العالم، وفي ذلك تجهيل فاضح على استحالة القيام بهذا الاستحقاق، في بلد محكوم أمنياً ما بين الشهقة والزفير، من عصابة قمعيّة لها باع طويل في تزوير الانتخابات وليِّ إرادة الناخب، وفرض النتائج التي تريدها. فلا إشارة البتة لدور الأمم المتحدة والمراقبين الدوليين لتأمين نزاهة وشفافية هذه العملية، لاسيما بعد صراع دامي عاشته سورية، وأصبحت على يد النظام دولة فاشلة بكل المقاييس والمعايير. بل إن الفقرة ذاتها تَقرن الاستحقاق الانتخابي بأنه من حقوق الدولة السورية، دون أي توضيح يفكُ الالتباس بين النظام الذي خطف الدولة ومؤسساتها، وحقوقها التي لا يمكن تحديدها بوجوده. من اللافت أن هذا المنطق يُصادق فعلياً على مواقف الروس والنظام، الذين دأبا في كل مناسبة على تكرارها في مقولة: “أن الحل يجب أن يكون من خلال صناديق الاقتراع في سورية، وليس عن طريق الأمم المتحدة”. المدعو للمفارقة أن وفد الهيئة تجاوز في هذه النقاط حتى التحفظات السابقة التي وضعتها المعارضة على اللاورقة non- Paper، التي قدّمها ديمستورا في مفاوضات جنيف نهاية العام 2017، والتي لا تخرج ورقة الهيئة عن مضمونها.

ثانياً: تقترح الورقة في فقرتيها (15 و16) إحداث الهيئة الوطنية للمهجرين، وإحداث الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، كهيئتين وطنيتين مستقلتين.

يكشف كلا المقترحين عن عيبين لا يمكن لأحدهما أن يغطي الآخر، الأول: ينمُ عن جهل قانوني في وفد الهيئة – رغم وجود قانونيين في صفوفه- ومكمنه عدم اختصاص اللجنة بإنشاء هيئات أو مؤسسات ذات طابع إداري أو تنفيذي، قبل الاتفاق على طبيعة النظام السياسي، وتحديد العلاقة والصلاحيات بين السلطات، طالما أن تفويض اللجنة ينحصر بالاتفاق على صياغة دستور جديد أو تعديل الدستور النافذ. بينما يمكن للإعلانات الدستورية المؤقتة، أن تقوم بهذا الاختصاص، لتغطية جوانب انتقالية لا غنى عنها، شريطة أن تنص على تحديد الجهة المعنية، بإحداث مثل تلك الهيئات، ومهامها، واختصاصاتها بصورة مفصلة – يمكن العودة إلى سوابق دول أنشأت هيئات وطنية في دساتيرها، التي صيغت على خلفية أزمات وحروب، تعرضت لها مثل جنوب أفريقيا والبوسنة- لكن في الحالة السورية كان على مقترح وفد الهيئة بهذا الخصوص، أن يُخبرنا عن الجهة التي سيحق لها إحداث هيئات من هذا النوع، لاسيما أنه لا توجد هيئة حكم انتقالي تتصدى لهذا الشأن، فكيف سيكون عليه الحال أن يتولى نظام بشار الأسد هذه المهمة !!. الثاني: يؤكد المخاوف السياسية المشروعة، من قبول وفد الهيئة التنازل عن مبدأ الانتقال السياسي وموجباته، وما إغفال الورقة لضرورة إحداث هيئة العدالة الانتقالية، التي تقع في صلب مهام أية هيئة حاكمة انتقالية، سوى مثال واضح على ذر المزيد من الرماد في العيون. ربما سيخرج علينا من يقول: لم تغب عن خلدنا هيئة العدالة الانتقالية ولكننا لا نرمي بضاعتنا بالجملة. والجواب سلفاً، وهل الخطأ في كسر تراتبية الأولويات يتم استدراكه بالتبريرات العقيمة.

ثالثاً: لا ذكر في كافة بنود الورقة للقرارات الدولية، لا نصاً ولا إشارةً ولا تلميحاً، مع أنها تبحث في قضايا تتوقف كما يبدو على العلاقة بين الوفود التفاوضية، وكأن بينهما من الضمانات والثقة ما يكفي. مع أن المنطق يفرض على وفد الهيئة خصوصاً، أن يؤكد صراحة على اقتران نجاح مقترحاته، بإلزام النظام التقيد بالمرجعية الدولية للقرارات ذات الصلة بالحل السياسي. ما معنى أن يتم ذكر “البنود 12” التي تضمنها البيان الختامي لمؤتمر سوتشي، كمستند لمقترحات الورقة، فيما تغيب القرارات الدولية الأبدى للتمسك بها من جانب وفد الهيئة. أما تبرير البحرة بأن الأولى لا تنفي الثانية، فهو انعكاس لخطاب المعارضة المزدوج، بين ما تلتزم به في منصات التفاوض، وما تبيعه من وهم للسوريين. وإلا لماذا رفض البحرة ورفاقه حضور مؤتمر سوتشي، ثم يدبجون اليوم ورقتهم بمخرجاته؟ بكل حال العبرة في التعامل الدولي، للنصوص المعتمدة من أصحابها، وليس للتصريحات والأقاويل الموجهة للجمهور، لاسيما حين يتحول غياب المصارحة والمكاشفة، إلى أسلوب براغماتي في تمرير اللامعقولية على جرعات.

رابعاً: توحي الورقة بدلالة مقترحاتها، غياب الناظم القانوني لدى وفد الهيئة، فيما إذا كانت رؤيته تقوم على الدفع نحو تأسيس دستور جديد، أو إحداث تعديلات معينة على دستور العام 2012، لكن يمكننا اشتقاق الناظم الذي يعمل عليه وفد الهيئة، حين نرى حجم التشابه بين ورقة الوفد واللا ورقة الديمستورية، والبصمات الواضحة للروسي فيتالي ناعوكين في تمرير ما يطابق بين مبادئ سوتشي ولا ورقة ديمستورا، وهو الشخص نفسه الذي ترأس الاجتماع التأسيسي لمنصة موسكو في العام 2015، قبل أن يصبح مستشار ديمستورا لاحقاً.

فلو كان المقصود بورقة وفد الهيئة الذهاب نحو دستور جديد، لكان عليها أن تقدم رؤية جديدة ومفصلة للنظام السياسي في سورية، تتمحور حول إلغاء المبنى الدستوري للنظام، الذي يمنح الرئيس سلطات تنفيذية شاملة، يسيطر بها على السلطتين التشريعية والقضائية، ولكان إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، كي تكون مؤسسات وطنية لا سلطوية كما هي عليه، من الشواغل الأساسية التي غابت عن الورقة كلياً. ما يرجح إما أن تعديل دستور النظام هو الناظم المُوّجه للورقة، وإما غياب الناظم من أصله، بانتظار التوافقات الأخيرة للدول حول الملف السوري.

خامساً: لا عجب لمن صمّوا آذانهم عن مخاوف وشكوك السوريين المنكوبين، منذ لعبة السلال الأربع التي وافقت عليها المعارضة، والتي قوبلت من جهابذة الأخيرة باستخفاف مع قدر لا يستهان به من التضليل، أن يتناسوا اليوم ذكر القرارات الدولية في ورقتهم، نزولاً على مقتضيات الدور السياسي الذي يسيرون في ركائبه. الأخطر من ذلك أن المقترحات التي وردت في الورقة، والتي خلَت تماماً من مناقشة شكل الحكم السياسي في الرؤية الدستورية، مع أنه القضية الأساسية التي لا يريد النظام الخوض فيها أو الاقتراب منها، لأنها تمس البناء السلطوي الذي هندسه بمواد دستورية، جعلت من النظام الرئاسي في سورية، قاعدة متينة لحكم شمولي ديكتاتوري. بالمقابل قام وفد النظام بإشغال اللجنة بمناقشة المبادئ الوطنية، وهي ليست بيت القصيد، وإنما (لهاية) لتمرير الوقت، واختلاق (مناكفات) عبثية، تحرف الأنظار عن القضايا الدستورية الجوهرية التي يجب التركيز عليها.

بلا غلوّ لم تتفتق ذهنية المعارضة منذ دخولها اللعبة بلا أوراق تحفظ ما وجهها، عن أسوأ من هذه الورقة التي قدّمتها بتذاكٍ مكشوف، ففيها يتوفر الغطاء لنظام مجرم، منحته المعارضة فيها أكثر مما يريد، وفيها تفريط وتنازل عن مطالب وأهداف الثورة. فضلاً عن استغلال ظروف السوريين، والقهر الذي يعيشونه لتمرير هذه المهزلة، وهي تندرج في سياق غاشم، لم تعد تستره التأويلات اللزجة. من محصلاته أن جعل من المعارضة السورية، بوابة للشماتة والسخرية، واستضعاف الثورة وإهدار تضحياتها العظيمة، ويستعصي على الضمائر الحرة أن تقبل بكل هذا التدليس غير المُحتمل