ما يحدث على الحدود التركية ـ اليونانية مشهد مؤلم، بشر/ لاجئون لا أحد يرغب بهم، هربوا من الموت في بلادهم التي لاحقتهم بالقتل، والبلاد التي لجأوا لها لا تريدهم، والبلاد التي يحاولون الوصول إليها لا تريدهم أيضاً. هذه هي حياة اللاجئ الهشّة، والمجبولة بالقلق الدائم الذي يعيشه اللاجئون في كل مكان، واللاجئون السوريون في دول الجوار بشكل خاص. لأن اللاجئين هم الطرف الأضعف في الأماكن التي يعيشون فيها، فسرعان ما يكونون عرضةً للانتقام، بوصفهم سبب المصائب في المكان الذي يعيشون فيه، ولذلك يسعى الجميع إلى التخلص منهم، بالتضييق أو بالترحيل أو بالحرمان من الحقوق، وفي أحيانٍ كثيرة بالقتل. لذلك ليس من الغريب أن يكون اللاجئون أول المتهمين، وآخر من يفكر العالم في إنصافهم. 

اللاجئون ضحايا صراعات وحروب دفعوا ثمنها عدة مرّات، بخسارتهم بلادهم وأملاكهم وبيوتهم ومجتمعهم الذي كانوا يعيشون فيه. من حق البشر، كل البشر، عندما تتهدد حياتهم وتلاحقهم الطلقات والقذائف والبراميل المتفجرة، كذلك المعتقلات والتصفية والقتل، أن يبحثوا عن مأوىً آمن لهم ولأولادهم، فالحق في الحياة الآمنة هو حق لكل البشر، وعندما يفتقدون هذه الحياة، وتصبح حياتهم مهدّدة، من حقهم أن يبحثوا عن ملجأ آمن، والحصول على هذا الملجأ ليس منّة من أحد في المكان الذي وصل إليه اللاجئ، بل هو من حقوق الإنسان، كما تقول شرعة حقوق الإنسان، إذا بقي قيّم في هذا العالم، وبقي من يرى لحياة الإنسان قيمة، بعد كل هذا الاستخفاف بحياة البشر في كل مكان.

ليست مشكلة اللاجئين فردية للاجئين، هم أنفسهم المسؤولون عن حلها، حيث يتركون لمصيرهم البائس، يتخبّطون في مخاطر مميتة، للوصول فردياً إلى النجاة من الموت والحاجة والتهديد. مشكلة اللاجئين مشكلة المجتمع الدولي الذي يغضّ النظر عن المتسبب في المشكلة أصلاً، ما يُفاقمها، بدلاً من حلها، والمشكلة السورية اليوم هي المثال الصارخ على تجاهل المجتمع الدولي لمشكلة القتل، ما يؤدي إلى ولادة مشكلة للاجئين ضخمة. بالتأكيد، النظام السوري هو المتسبب الأساسي بولادة المشكلة، فهو الذي قمع مطلب الحرية والتغيير في سورية، واستخدم كل وسائل القتل ضد السوريين في المدن والقرى السورية. وبذلك لم يتسبّب بمشكلة اللاجئين خارج البلد، بل داخلها أيضاً، وتسبب بمقتل مئات الآلاف من السوريين واعتقال أمثالهم وتدمير البلد. ما فعله النظام في سورية ما كان ليستطيع فعله لولا صمت المجتمع الدولي على القتل المنفلت من عقاله. وكأن المجتمع الدولي، بصمته عن المجرم، أقرّ له بأن البلد مجرد مزرعة له، ومن حقه أن يتصرّف بهم كأغنام، على اعتبار أن السوريين الذين تعرّضوا للقتل ليسوا أكثر من أغنام في مزرعة بشار الأسد. لم يكن قتل النظام للسوريين سراً، بل كان قتلاً متعمداً وعلنياً أمام الكاميرات، شاهده العالم في بثٍّ مباشر، لكنه لم يرغب في رؤية هذا القتل، واعتباره جريمة ضد الإنسانية، والعمل على التخلص من المجرمين والقتلة في سورية. حتى عندما تخطّى النظام الخطوط الحمر التي وضعتها الإدارة الأميركية له، لم تتحرّك الولايات المتحدة، ولم يفعل المجتمع الدولي شيئاً من أجل حماية السوريين، بل باع النظام للأميركيين التخلي عن السلاح الكيميائي، واشترت الولايات المتحدة هذه السلعة لصالح إسرائيل. لكن السوريين استمروا يتعرّضون للقتل من النظام، حتى بالسلاح الكيميائي الذي باعه النظام لإدارة باراك أوباما. وظهرت الصفقة بوصفها تصريحاً للنظام بقتل مزيد من السوريين.

من الطبيعي أن ينتج القصف بالمدفعية والبراميل المتفجرة مشكلة لاجئين. عندما يتهدم بيت الإنسان بفعل القذائف التي تلاحقه هنا وهناك، من الطبيعي أن يتحول إلى لاجئ في دول الجوار أو غيرها. من الطبيعي عندما يصبح المرء مطلوباً للاعتقال في المعتقلات التي تمت تصفية عشرات الآلاف فيها من دون محاكمة أن يهرب، وأهله الذين لن ينجوا من الاعتقال، إلى دول الجوار. والقتل الذي مارسه النظام هو الذي تسبب بمشكلة اللاجئين السوريين في سورية، والسوريون بشر مثل غيرهم، عندما تتهدد حياتهم وحياة أولادهم يهربون إلى مكان آمن، لعله يأتي وقت وتتوقف فيه دوامة القتل حتى يعودوا إلى ديارهم.

نعم، تسبب الجحيم السوري في ولادة مشكلة لاجئين، المشكلة التي وصل لاجئوها إلى أوروبا، وتسببت بأزمة داخل هذه البلدان، بالنمو السريع لليمين الشعبوي واليمين العنصري، واُعتبر هؤلاء يشكلون خطراً على مستوى الحياة في الدول الأوروبية، ما استدعى سياسات هجرة مشدّدة، أقل ما يقال فيها سياسات تطفيشية للاجئين. وجاءت إعادة تقييم الأوضاع في سورية، بعد استعادة النظام أغلب الأراضي السورية. والنموذج السويدي الرديء لإعادة التقييم اعتبر المناطق التي سيطر عليها النظام، مثل دمشق والساحل، آمنة لا يقبل لجوء القادمين منها. نعم، السويد النموذج “الإنساني” توصلت إلى هذه الخلاصة الفظيعة، العيش في مناطق يحكمها المجرمون والقتلة آمن.

ما جرى ويجري على الحدود التركية ـ اليونانية يفتح الجرح السوري، وكل الجروح التي أدى فيها القتل أو الحروب إلى مشكلة لاجئين مقتلعين من ديارهم. ويشير هذا الجرح نفسه إلى التعامل الرديء لدول الجوار مع اللاجئين السوريين، في دول الأشقاء، مثل لبنان والأردن ومصر، التي تقصدت جميعها إذلال اللاجئين السوريين وتعاملت معهم بعنصرية، كما الحالة اللبنانية.

من أسوأ ما يجري في قضية اللاجئين السوريين على الحدود التركية ـ اليونانية أن هذا الاستخدام يضر بالتعاطف والتضامن الباقي في أوروبا مع اللاجئين وقضاياهم. يأتي التعاطف من مساعدة لاجئين فارّين فردياً من حروب، وعندما يتحوّل هؤلاء إلى أداة سياسية بيد تركيا أو غيرها، يتراجع التعاطف معهم، وهذا ما شاهدناه في التعامل اليوناني سلطوياً وشعبياً مع هذه الموجة من اللاجئين. وقد كان نموذجها الرديء تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية التي اعتبرت اليونان “الدرع الأوروبية”. ولكن بمواجهة من؟ بمواجهة اللاجئين المساكين الفارّين من الموت! يا للعجب، ويا للإنسانية.

العربي الجديد:7/3/2020