عباءة المطران الكهنوتية التي خبأت الديناميت في زهرة المدائن وجرائم الأسد في جنيف2

أحمد عليان

بروكار برس:25/5/2020 

بصورتين متباينتين، ظهر المطران الحلبي الراحل هيلاريون كبوجي لمتابعي مواقفه السياسية من قضايا وصفها أصحابها بالأخلاقية، فهو رجل الدين المسيحي الذي حمل القنابل والديناميت للفدائيين الفلسطينيين تحت حصانة عباءته الكهنوتية، واعتقل في السجون الإسرائيلية بتهمة “الإرهاب”؛ لكنه في الوقت ذاته “مطران النظام السوري”، على حد وصف كثيرين، حيّرهم موقف الرجل الذي سارع في أواخر عمره لإيصال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة ضمن قافلة الحرية، في حين تعهّد بالرقص فرحا في سوريا عقب “الانتصار” الذي كانت تصدّره وسائل إعلام النظام في مدينة حلب، تلك المدينة التي كانت أحياؤها الفقيرة محاصرة ببراميل الأسد من السماء، وميليشيات إيران من الأرض، تزامناً مع التعهّد وتأكيده.

قصة كبوجي المثيرة بمواقفها الانتقائية على أسسٍ دفنها معه، تعود إلى الساحة السورية من بوابة الدراما الناطقة باسم النظام ووجهة نظره، ليبدو الأمر وكأن عباءة المطران النضالية مفصلة بمقص النظام الحاد الذي ضيّقها ووسّعها بما يتناسب مع مصلحته، حسبما يرى منتقدو العمل على الجانبين الفلسطيني والسوري.

وما بين كبوجي في دراما النظام، وكبوجي في وجدان السوريين الضحايا، ظهر صوت هيثم مناع (من أحد تيارات المعارضة) ليشد العباءة نحوه، مشيرا إلى زيف ادعاء الدراما، ملوحا بوثيقة حالت ظروف كورونا دون نشرها مطبوعة في الوقت الحالي.

وبين شد رواية النظام وجذب هيثم مناع، كشفت عباءة المطران، عن جملة قالها عام ٢٠١٤، تشير إلى رؤيته لما يجري في سوريا خاصة أنّها قيلت في حديث “حميمي” مع رموز النظام خارج إطار وبروتوكولات المنصّات الرسمية. إذ يحتفظ بروكار برس بتسجيل حصري يتعهّد فيه المطران بالرقص في سوريا فرحا، عندما “ينتصر” النظام.

وكان المطران شارك في الجولة الثانية من مباحثات جنيف عام 2014، ضمن وفد النظام السوري الذي ترأسه وزير خارجيته وليد المعلم، وضمّ وزير الإعلام السابق عمران الزعبي ومستشارة بشار الأسد الإعلامية والسياسية بثينة شعبان، وفيصل المقداد وحسام الدين آلا وبشار الجعفري وأحمد فاروق عرنوس ولونا الشبل وأسامة علي.

وفي الفترة الممتدة من تاريخ 22 كانون الثاني/ يناير، إلى 31 من الشهر ذاته لعام 2014، ظهر المطران كبوجي وهو يجلس على كرسي وراء وليد المعلم في القاعة المخدّمة والمكيّفة، في حين كانت عدسات الناشطين توثّق بالصوت والصورة أطفالاً ينتشلهم المنقذون من تحت أنقاض المباني السكنية المدمّرة ببراميل الأسد.

مشهدان في حلب تزامنا مع تعهّد كبوجي بالرقص

وبينما كان وفد النظام بمن فيه المطران كبوجي يستعد لدخول أول يوم بالمفاوضات، قُتل في 21 يناير، 10 أشخاص على الأقل في قصف بالطيران الحربي، على مدينة حلب، وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان حينها، إنّ غارة للطيران الحربي التابع للنظام استهدفت كراجا للحافلات الصغيرة في منطقة جسر الحج شرقي حلب، أدّت إلى مقتل 10 مدنيين وإصابة 11 آخرين.

وفي يوم 22 يناير 2014، انتشل المسعفون من تحت الأنقاض الطفلة جينا خليل، ذات الـ 14 شهراً فقط، في مشهدٍ تحدّثت عنه وسائل الإعلام السورية والأجنبية كواحدٍ من “الهولوكوست السوري”.

وأمام هذه الصور والتسجيلات، يحتفظ يوتيوب بكلمات لكبوجي وهو محاط بصور بشار الأسد، يقول في أحدها أمام جمع، إنّ الألم يعتصر قلبه جرّاء مؤامرة صهيونية على سوريا، مردّدا رواية النظام التي لطالما واجهها توثيق الصحافة لدماء المدنيين وأشلائهم.

كبوجي في جنيف

في التسجيلات المؤرشفة في بروكار برس، يُفرط كبوجي باحتضان مسؤولي النظام، ويظهر فرحا وهو يضحك ويقول إنّه سيرقص في سوريا بعد “الانتصار”، فيرد وزير الإعلام السابق الزعبي بالتأكيد على أنّهم “سيدبكون”، فيرد المطران بالتأكيد على معرفته بالدبكة ويضحك. (أحد فنون الرقص الشعبي).

أمّا بالنسبة لمشاركته في الوفد، فقد اعتبرها سياسيون سوريون معارضون للنظام تدعيما لرواية الأخير الذي صدّر نفسه للعالم كحامٍ “للأقليات” الذين تهدّد وجودهم “الأكثرية”.

وفي إفادة سابقة للمعارض السوري جورج صبرا مؤرشفة في صحيفة الشرق الأوسط قال فيها منتقدا حضور كبوجي: “كان على كبوجي رفض القبول بأن يكون أداة لستر عورات النظام السوري وجرائمه”.

ورقة كبوجي التي سقطت بقصر الأسد

كتب هيثم مناع في صحيفة رأي اليوم مقالاً تحدّث فيه عن ورقة سياسية تقترح إجراء حوار بين النظام والمعارضة بحيث يكون الحوار سوري ـ سوري.

ولفت مناع في مقاله إلى أنّ الورقة تأخذ ما جاء في بيان جنيف، وإجراءات بناء الثقة من إفراج عن المعتقلين السياسيين والمخطوفات والمخطوفين وتسهيل عودة اللاجئين، معتبرا أنّ هذه الورقة فرصة لجمع “الأخوة المختلفين من أجل وقف نزيف الوطن”.

وبعد اعتماد الورقة، توجّه كبوجي إلى دمشق، والتقى رأس النظام بشار الأسد، وبعد اللقاء، اتصل مع مناع وقال له: “يا ابني جهزوا حالكم، انشاء الله خير، الرئيس استحسن الفكرة وسيبعث لي برد رسمي عليها”.

وما إن عبر المطران الأراضي السورية إلى لبنان، اتصل بمناع من بيروت، وقال: “يا ابني اتصلوا بي من القصر الجمهوري وقالوا لي انسَ الموضوع، لا تتحدث لا مع مناع ولا غيره، ونرجو أن لا تعلمه بهذه المكالمة”.

وبرّر مناع ما نشره بأنّه تصدٍّ لما قدّمته وزارة إعلام النظام في مسلسل “حارس القدس”، “والذي نسبت فيه للمطران أن ما جرى ليس ربيعا عربيا بل خريفا عربيا، مع تبني لإطروحة نظرية المؤامرة على النظام السوري”، على حدّ قول مناع.

وزاد مناع: “لم يكن حارس القدس يوما في صف القامع ضد المقموع، وفي أكثر من لقاء مع الجنرال حافظ الأسد حمل قوائم بأسماء المعتقلين الفلسطينيين والسوريين في السجون السورية وطلب منه الإفراج عنهم. وفي جلستنا الجميلة، سمعت منه ما نقوله عن المظاهرات السلمية المحقة، وكيف أن العسكرة قد أضاعت حقوق الناس، ولو بقيت سلمية لتغيرت الأمور. كان مثلنا ضد الطائفية والعنف والتدخل الخارجي، ولكنه على قناعة تامة، بأن الخروج من العنف المدمر لن يكون دون إصلاح أوضاع الناس وضمان حقوقهم وكرامتهم”.

مسلسل حارس القدس

على شاشات النظام بثّ مسلسل حارس القدس خلال شهر رمضان، متناولا قصّة كبوجي، مبتدئا بقول المطران على لسان رشيد عسّاف: “حلب تحرّرت، هذا أحلى خبر بسمعوا من سنين”، وما تلا ذلك من حوار عاطفي مكتنف بدموع الفرح، في تماهٍ لتعهّد المطران بالرقص في المدينة، دون أي إشارة إلى القتلى والمحاصرين أو حتى تهجير النظام لأبنائها بالباصات الخضراء نحو المخيمات والعراء.

ومثلما كان وقع المسلسل على سوريين كانوا في حلب أيام حصارها وقصفها واجتياحها من النظام وروسيا وإيران، حيث أنّهم اعتبروا المسلسل تزويرا لتاريخ حلب وتنصلا من المجازر الموثّقة، كان وقعه على فلسطينيين مطّلعين على تاريخ المطران الراحل ومواقفه من حركة فتح.

الصحفي الفلسطيني توفيق العيسى، قال إنّ العمل كان مطبوخا بمقادير البعث وعلى ناره، ولا يهدف لشيء أكثر من إبراز دور النظام السوري وتغليبه أصلا على دور المطران نفسه.

وزاد في حديث هاتفي مع بروكار برس، إنّ الهدف هو تكرار قصة المؤامرة التي يرددها النظام السوري وليس شخصية كابوجي ذاته، بالإضافة إلى تغييب لشخصيات وطنية خاصة في التاريخ السوري لصالح إبراز شخصية النظام.

وأوضح العيسى أنّ المسلسل تناسى “مراحل تاريخية مثل ثورة الـ36 و مجزرة تل الزعتر التي يتحمل مسؤوليتها النظام السوري والكتائب اللبنانية وتحالف النظام مع الكتائب في الحرب الأهلية اللبنانية والتجاوز عن حرب المخيمات في الثمانينيات لصالح النظام ونظرية المؤامرة”.
كما غيّب العمل علاقة ودور كابوجي في منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني.

ولفت العيسى إلى تركيز المسلسل على دور المطران في أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، وتحويل دوره السياسي على الصعيد الدولي إلى مجرّد إشارات عابرة وخاطفة. وختم العيسى بالقول إنّ الحكاية ذهبت إلى حلب أكثر، مع بقاء القدس صيغة شعاراتية على لسان بطل العمل.

“حياة نضالية انتقائية”

ولد المطران جورج كبوجي (هيلاريون) في مدينة حلب السورية عام 1922، وتوفي في منفاه (إيطاليا) عام 2017.

وكان كبوجي عيّن مطرانا لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس، عام 1965، ودخل خط المواجهة ضدّ إسرائيل. اعتقلته القوات الإسرائيلية عام 1974 وحكمت عليه بالسجن 12 عاماً بتهمة “الإرهاب”، وذلك على خلفية نقله الأسلحة والمتفجرات للفدائيين الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية عبر سيارته مستغلا حصانته التي يوفّرها له الفاتيكان.

بقي كبوجي في المعتقل نحو 4 سنوات حيث أنّ إسرائيل أفرجت عنه بوساطة من الفاتيكان، تضمّنت نفيه من فلسطين عام 1978 إلى روما.

شارك المطران عام 2009 في أسطول الحرية لإغاثة أهالي غزة المحاصرين إسرائيلياً، لتتصدّى له إسرائيل حيث اعتقلت وطردت الناشطين المشاركين فيه.

وأعاد المطران الكرة عام 2010، عندما شارك في سفينة مرمرة لفك الحصار عن القطاع ذاته.

ومع هذه المقتطفات من سيرته “النضالية” في وجه إسرائيل، طرح سوريون كثر أسئلة عن سبب موقف المطران المناهض بشدّة ـ وفقا لتصريحاته السابقة ـ للثورات العربية عموماً والسورية خصوصا ما دام عرّف نفسه بالمطران العربي الواقف مع الشعوب، كما أشار فلسطينيون إلى صوته الجدي الغائب حيال مجازر ارتكبها رأس النظام السابق حافظ الأسد بحق الفلسطينيين في لبنان، ومن ثمّ في عهد ابنه بشار في مخيم اليرموك المدمّر بعد حصار وقتل وتنكيل، رغم تصدير نفسيهما كممانعين لإسرائيل.