لعل واحدا من « إنجازات « حكومات الاحتلال منذ غزو واحتلال العراق في 2003، هو منح عديد المفاهيم والمصطلحات والأمثال المتعارف عليها معاني جديدة تتماشى مع مصالح الفئة المختارة لدحرجة البلد من حضيض الى آخر. فمن التحرير الى الديمقراطية ومن النزاهة والشفافية الى القضاء على الفساد والفاسدين، يتنقلون بتكرار مبتذل واستهانة منهجية بعقول الناس. فاستمراء الساسة في اتهام بعضهم البعض بالفساد، مثلا، أفرغ الفساد من معناه وجعله عملة رائجة لاتهام وتسقيط « الآخر» والإعلان عن نظافة ونزاهة صاحب الاتهام.
وإذا كان تكرار شعار « القضاء على الفساد» بعد 17 عاما من تنميته وتجذيره في كل مؤسسات البلد، ومن كبير مسؤوليها الى صغيرهم، قد يوحي بانه أسطوانة مشروخة الا ان الفاسدين، والحق يقال، يدهشوننا، يوميا، بإبداعاتهم في هذا المجال، حيث نجحوا في استثمار الأسطوانة المشروخة، المراد منها التكرار الممل، الى مجالس نقاش لا تنتهي في أستوديوهات (ما أكثرها!) تتناوب على استضافتهم على مدى 24 ساعة في اليوم. كلها، بلا استثناء، تدّعي انها تعمل من اجل مصلحة المواطن وكيفية توفير الأفضل للمواطنين، من الخدمات الأساسية الى الامن وحقوق الانسان وأحسن الأجواء لأداء الشعائر الدينية.
ولأننا في فصل الصيف، والعراق مشهور بلهيب حرارته، خاصة شهري تموز / يوليو وآب/ أغسطس، المعروف بانه اللَّهاب الذي يحرق المسمار بالباب، فان الأستوديوهات معبأة بالمتحدثين عما يسمونه « أزمة الكهرباء» وكيفية حلها عن طريق القضاء على الفساد. وهم أنفسهم سبب الفساد. وهي معالجة لا تهدف الى إيجاد حل ولو جزئي بل الى تحويل مأساة البلد الى مفردات مجردة لا تعني شيئا مهما كانت حقيقتها. لم يعد هناك من يتحدث عن معنى انقطاع الكهرباء لساعات وساعات يوميا ودفع المبالغ الكبيرة للحصول على التيار الكهربائي من أصحاب المّولدات الكهربائية الخاصة. الفاسدون المسؤولون عن انقطاع الكهرباء لا يتحدثون عن المرضى الذين يموتون في المستشفيات او المعامل المتوقفة عن العمل او طلاب وتلاميذ المدارس او حالات الكآبة وحتى الجنون الذي يمكن أن يصاب به الإنسان وهو يعيش تحت درجة حرارة تزيد على نصف درجة الغليان.
إنهم لا يتحدثون عن نزول العباد الى الشوارع مطالبين بحقهم في وطن يتوفر فيه، كما بقية بلدان العالم الأقل ثراء وامكانيات، بالكهرباء. متناسين حقيقة ان أكثر القرى بعدا في العراق كانت مزودة بالكهرباء فكيف بالعاصمة بغداد؟ ما يتحدثون عنه، على مدار الساعة هو الوعود البراقة وتشكيل اللجان والشفافية والنزاهة وهم يعرفون جيدا أنها علكة يلوكونها لطمس روائح الفساد الكريهة.
لم يغير تعيين مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء الكثير. فمنظومة الفساد أعمق من تغيير الوجوه، ان حدث. وهو ما لم يحدث. ما حدث هو تدوير الوجوه وتبادل المواقع، حسب العلاقة اما مع الولايات المتحدة الامريكية أو إيران. الانتظار والارتفاع والانحسار في علاقة البلدين المُحتلين هو ما يُشكل يوميات المواطن ومعه تتزايد وتتكرر الوعود.
تكرار الوعود هذا العام، لم ينخفض ولو درجة مئوية واحدة منذ تعيين مصطفى الكاظمي، بل ازداد لينافس وعود العام الماضي، والعام الذي سبقه، وكل عام منذ غزو البلد، يوم وعدوا بتحويل العراق الى فردوس لا مثيل له. ولم لا، كما تنص المحاججة، ما دام البلد يزخر بعقوله وثروته النفطية، وكل ما يحتاجه هو التخلص من النظام الدكتاتوري واحلال الديمقراطية!
بالإضافة الى الادعاءات الأولية التي بررت الغزو وهي كثيرة، باتت كل حكومة جديدة تنافس سابقتها في إطلاق التصريحات، حول القضاء على الفساد، بل وصلت البلاغة برئيس الوزراء حيدر العبادي الى القول إن الفساد أخطر من الإرهاب في ذات الوقت الذي كانت فيه حكومته منقوعة بالفساد. ولا يكاد كل رئيس وزراء جديد يعتلي كرسي منصبه حتى يلقي خطابا مغلفا بالنزاهة والشفافية، غير غافل عن القاء اللائمة على من سبقه، متهما الحكومات السابقة كلها بالفساد، مجندا الوزراء الجدد لتدوير ذات الأسطوانة حتى لو كانوا هم أنفسهم وزراء في الحكومات السابقة. كما هو علي علاوي، وزير المالية الحالي الذي كان وزيرا في حكومات فاسدة سابقة، والذي لم يخرج على الطور المعتاد يوم 16 تموز/ يوليو حين صرح «نحارب الفساد بكل قوة في كافة مؤسسات الدولة». كما لم يخرج على الطور حين حاول تبرئة الحكومة الحالية من اية مسؤولية سابقة او لاحقة، قائلا: «لا يمكن تحميل حكومة الكاظمي ما يمر به العراق من مشاكل مالية»، مضيفا « أن أكثر من 10 في المئة من الموظفين «فضائيون» ومزدوجو رواتب ». يشكل هذا التصريح المراد منه اثبات فساد الحكومات السابقة بودرة لتزويق وجه الحكومة الحالية. ومثل كل بودرة تتناثر بسرعة حالما يراجع المرء تصريحات مسؤولي الحكومات السابقة ويقارنها بالحالية فيجد انها ذات الأسطوانة المشروخة. فمن منا لا يتذكر تصريح وزير الكهرباء حسين الشهرستاني، وهو بالمناسبة عالم ذرة يُفترض فيه التحقق العلمي، بان العراق سيصدر الكهرباء عام 2013؟ وفي ظل حكومة حيدر العبادي، بتاريخ 30 أكتوبر 2018، ومع تزايد الاحتجاجات، تم ابلاغ المواطن بإنجازات مذهلة لحل ما يسمى بأزمة الكهرباء، مثلا، ومن بينها اعلان وزارة الكهرباء أنها أبرمت اتفاقيتين بشكل منفصل مع شركتي جنرال إلكتريك الأمريكية وسيمنز الألمانية لتطوير قطاع الطاقة الكهربائية. وان شركة «جنرال إلكتريك»، سلّمت الحكومة العراقية إستراتيجية لتطوير القطاع في البلاد ورفع قدرة المنظومة الوطنية وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة. وأُبلغ المواطن المنتظر لأية بادرة تريحه من القيظ ان دول الخليج ستصدّر فائض الكهرباء إلى العراق. وتماشيا مع هذه الجهود الجبارة لعديد الدول والشركات ولكي يثبت العبادي انه معماري هذه « الإنجازات « العظيمة، بادر بإصدار أمر بتجميد عمل وصلاحيات وزير الكهرباء قاسم الفهداوي « على خلفية تردي خدمات الكهرباء وإلى حين استكمال التحقيقات». وتحولت التحقيقات، كالعادة، الى طُرفة غير مضحكة، يتبادلها المواطنون وهم يحتسون إستكانات الشاي الساخنة، أملا في احياء نظرية التبريد داخل أجسادهم عن طريق تبخر العرق.
وكي لا يُتهم الكاظمي بأنه ضد الشركات المزودة لشاي العراقيين أو أنه تخلف عن سلفه في تشكيل لجان التحقيق، ها هو يتصدر أستوديوهات الأخبار بمباركته « تشكيل لجنة نيابية تحقيقية بملف الكهرباء ويبدي استعداده للتعاون معها بهدف القضاء على الفساد». وهو فساد وصفه عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب، في 14 تموز/ يوليو بانه «لا مثيل له في كل العالم، وهناك حيتان وجهات سياسية اعتاشت على عقود الوزارة». فكم «استكان» شاي سيشرب العراقيون انتظارا لصيد هذه الحيتان؟ ومن هو الصياد؟