انتهت معركة الجرود اللبنانية، كما يشتهي «حزب الله»، وحقق الحزب ما حلم به من «انتصار» فيها على ما تبقى من عناصر «داعش». وهذه نقطة تصب في صالح «حزب الله»، خصوصاً أنه استهلك الوقت والجهد والإعلام خلال السنوات الماضية من أجل التبشير بهذا «الانتصار» الذي يراه نتيجة حتمية لمشاركته في الحرب السورية إلى جانب نظام الأسد.
النقطة الثانية والأهم في مسار معركة الجرود اللبنانية بالنسبة لـ«حزب الله»، كانت في ضمان مشاركة الجيش اللبناني إلى جانبه في المعركة ضد «داعش»، ورغم أن لهذه المشاركة سلبية تقاسم نشوة «الانتصار» بين الحزب والجيش، فإنها تعطي الحزب مشروعية، تقارب أو تتماثل، على أقل تقدير، مع مشروعية وجود الجيش بصفته مؤسسة لبنانية تمثل الدولة، وليس مجرد ميليشيات تعلن تمثيل جماعة من المكونات اللبنانية. وتفتح هذه النقطة على بوابة احتمالات قيام «حزب الله» بأعمال عسكرية في مناطق لبنانية وضد لبنانيين في وقت لاحق، لأنها تشرعن عنفه ضد اللبنانيين على نحو ما حصل يوم احتل الحزب غرب بيروت في إطار خصومته السياسية مع أهلها في السابع من فبراير (شباط) 2008.
النقطة الثالثة في معركة الجرود اللبنانية لجهة «حزب الله»، أنها تمت بمشاركة قوات الأسد على الجانب الآخر من الحدود وبالتنسيق معها، مما لا يؤكد فقط طبيعة الشراكة بين الطرفين في حربهما السورية وضمنها «الحرب ضد (داعش)» على نحو ما يرسمانها، ويتعاملان معها، بل أيضاً بما يفتح بوابة شراكات بين الحزب وقوات الأسد في معارك يمكن أن تكون في لبنان، أو جعلها ممكنة على أقل تقدير بعد أن مهد لها «حزب الله»، وسوق لإمكانية حصولها ولو كانت بعيدة في الوقت الحالي، ولعل تصريح عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النيابية، علي فياض، بـ«الرغبة في أن تعود العلاقات مع الدولة السورية طبيعية، وهذا ما تحتاجه المصالح اللبنانية» يؤشر إلى هذا المحتوى في أهداف «حزب الله».
وسط تلك المؤشرات، يمكن التوقف عند بعض مجريات ونتائج معركة الجرود اللبنانية، التي لا تكشف الضجيج الفارغ المحيط بها فقط، وإنما تبين التوظيف السياسي الرخيص لدماء اللبنانيين في مواجهة «داعش» الموصوفة من «حزب الله» بـ«مواجهة الإرهابيين والتكفيريين» وقيامه بإنقاذهم من موت محقق، ومن محاسبة مضمونة على جرائمهم، ثم ترحيلهم إلى مناطق تضمن مجدداً مساهمتهم المؤكدة في القتل والإرهاب المتواصل في سوريا.
ولعل من أهم المعطيات المحيطة بالمعركة، أن عدد الدواعش في المعركة قدر بما بين مائة ومائتي مقاتل محاصر، وهو عدد متواضع إذا ما قيس بالقوة المواجهة من ميليشيات «حزب الله» في المعركة من حيث العدد وما لها من خطوط دعم وإمداد، والمدعومة بقوة نارية كبيرة من الجيش اللبناني، وبقوة كبيرة من قوات نظام الأسد وميليشياته الموجودة في القلمون الغربي. والأمر الثاني، هو التخلي عن فكرة رفض التفاوض مع محاصري «داعش» التي تكررت مرات ومرات من جانب الحزب والأطراف الداعمة له، والتي جرى التراجع عنها من قبل الحزب، والدخول في تفاوض لصالح «داعش» في مقدماته ونتائجه، رغم استسلام عناصر «داعش»، بل إن التفاوض تم بمعزل عن الجيش اللبناني، كما أكد اللواء عباس إبراهيم ممثل السلطات اللبنانية، وسارع نظام الأسد بالموافقة على نتائج المفاوضات وتنفيذها.
وثمة نقطة لا بد من التوقف عندها في مجريات العملية، وهي حرص «حزب الله» على سرعة تنفيذ الاتفاق مع «داعش» الذي تم خلال ساعات قليلة، متضمناً التحاق عائلات الدواعش المقيمين في مخيمات بالأراضي اللبنانية تخضع لسلطة الجيش اللبناني، مما يكشف رغبة الحزب في تمرير الاتفاق، قبل إثارة الأسئلة والمطالبات من قبل اللبنانيين؛ جيشاً وحكومة وأهالي المفقودين والقتلى، بالكشف عن مجريات ما حدث من جرائم «داعش» التي استمرت سنوات في المنطقة، والتي كان يمكن لها أن تكشف تفاصيل ستظل سراً لا يعرفه أحد من لبنانيين وسوريين وغيرهم معنيين بمعرفة تفاصيل جرائم «داعش» وارتكاباته وشخصياته هناك.
لقد تعددت وتنوعت أهداف «حزب الله» في معركة الجرود اللبنانية؛ من تكريس نفسه طرفاً موازياً للجيش اللبناني، أو في مكانة أفضل منه، ترشحه للقيام بأي عمليات يقررها في الداخل اللبناني في وقت ومكان ما، إلى إعادة تطبيع العلاقة مع جيش الأسد بوصفه شريكاً للحزب والجيش اللبناني في الحرب على «داعش»، لكن الأهم في تلك الأهداف، كان الدور الإنقاذي لعناصر «داعش» التي أكد الحزب نفسه «استغاثاتهم» و«استسلامهم»، وعقد اتفاقاً معهم، يضمن نقلهم وعائلاتهم إلى معقل التنظيم الرئيسي في دير الزور على بعد مئات الكيلومترات بموافقة الجيش اللبناني ونظام الأسد، بما يعنيه ذلك من تمديد لدورهم في الإرهاب واستمرارهم في قتل السوريين وتخويف العالم.
إن كل ما قيل عن هدف الحزب في كشف مصير ضحايا «داعش» من اللبنانيين بمن فيهم قتلى الحزب، لم يكن سوى واجهة اختفت وراءها أهداف الحزب الحقيقية من معركة كان احتمال «النصر» فيها محسوماً منذ وقت، لكنه كان مؤجلاً لغاية في «نفس يعقوب»، وهي تحقيق أفضل الشروط والأهداف لخدمة استراتيجية الحزب في البعدين السوري واللبناني.

“الشرق الاوسط”