تحقيق: أحمد حمزة

 نوفمبر  14 2015   العربي الجديد

 
على الرغم من دعم روسيا للنظام السوري في مواجهة الثورة التي اندلعت في عام 2011 من بدايتها، إلا أنه شهد تصاعداً منذ مطلع العام الحالي، تُرجم بجسر إمدادات عسكري بحري وبري وجوي، حاولت “العربي الجديد” رصده وتحديداً في ما يتعلق بالإمداد البحري الذي أظهر أن روسيا خلال أقل من شهرين، وبدءاً من شهر سبتمبر/أيلول وحتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نقلت نحو ثمانية آلاف فردٍ وقرابة ستمائة آلية عسكرية على الأقل (ما بين دبابة وعربة مدرعة وغير ذلك)، على متن سفنها التي اتجهت إلى سورية، في حين نشرت ما لا يقل عن 30 طائرة حربية.

دعم من عمر الثورة

منذ البداية، لم تتوان موسكو عن تقديم الدعم السياسي لنظام الأسد. وبلغ هذا الدعم ذروته، في استخدامها مع الصين، حق النقض الفيتو 3 مرات (في أكتوبر/تشرين الأول 2011 وفبراير/شباط ويوليو/تموز 2012) لمنع صدور قرارات عن مجلس الأمن، تدين النظام السوري أو تفرض عليه عقوبات دولية. علاوة على ذلك، فإن روسيا لم توقف مد النظام بالأسلحة والذخائر على مدار السنوات الماضية، مبررةً الأمر بأنه يأتي ضمن عقود مبرمة بين الطرفين في هذا المجال.

خسائر 2015

لكن التداعي الكبير الذي لحق بالنظام عسكرياً، خلال معارك الأشهر التسعة الأولى من العام 2015، دفع روسيا للانخراط بشكل مباشر في الحرب السورية. منذ بداية هذه السنة، تمكنت المعارضة من تحقيق تقدمٍ كبير في الجبهة الجنوبية، إذ أنهت تواجد النظام في بوابة نصيب الحدودية مع الأردن، وهو آخر معبرٍ يديره النظام مع دول الجوار باستثناء لبنان. كذلك سيطرت المعارضة على بصرى الشام، واللواء 52 البالغ الأهمية كخط دفاع متقدم عن تحصينات النظام في الصنمين الواقعة على تخوم دمشق.

كما أن فصائل المعارضة في ريف العاصمة حافظت على تموضعاتها، مع تعزيز إمكاناتها وشنّها هجماتٍ جديدة وغير مسبوقة، ولا سيما تلك الهادفة إلى إنهاء تواجد النظام في إدارة المركبات في حرستا، وبعدها قطع الطريق الدولي نحو حمص في معركة “الله غالب” التي سيطر فيها مقاتلو “جيش الإسلام” على عشرات النقاط والحواجز في الجبال المتاخمة للغوطة الشرقية.

أما في الشمال، فقد خسر النظام هذا العام معسكري وادي الضيف والحامدية، ثم مركز محافظة إدلب. كما خسر معسكري المسطومة والقرميد ثم مدينة أريحا، ومطار أبو الظهور العسكري، وتغلغل “جيش الفتح” على أطراف سهل الغاب ووصل مقاتلوه قريباً من معسكر جورين، وباتوا على بعد كيلومترات قليلة من عمق حاضنة النظام الأكثر ولاءً له، والمتواجدة في سهل الغاب بريف حماه الشمالي الغربي ومناطق الساحل. وبدا النظام نتيجة لذلك في موقف عسكري بالغ الحرج، إذ إنه، وتحديداً في الفترة ما بين مارس/آذار وأغسطس/آب الماضيين، ظهر ترهل قوات النظام وتصدع دفاعاتها بصورة غير مسبوقة.
ويبدو أن الروس كانوا يراقبون بقلقٍ كل هذه التطورات، التي بالإضافة إلى الأسباب السياسية الأخرى، دفعت موسكو لتبدأ بنقل قواتٍ عسكرية إلى سورية لتنفيذ ضربات جوية تجنّب النظام السقوط، وتساعده على التقاط أنفاسه واستعادة المبادرة الميدانية. فما هو مقدار هذه القوة التي أعدتها ولا تزال تنقلها لسورية حتى اليوم؟

 

عشرات المقاتلات الحربية

لم تعلن روسيا عن مقدار القوة العسكرية التي أرسلتها لسورية، كما أنه لا يمكن معرفة ذلك بدقة من مصادر رسمية، لكن “العربي الجديد” أجرت بحثاً لمحاولة الوقوف على حجم هذه القوة أفراداً ومعدات.
البداية من القوة الجوية الروسية التي باتت موجودة في مطار حميميم جنوب اللاذقية. في النصف الأول من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، تزايدت التقارير التي تتحدث عن نقل روسيا لطائرات قتالية ومعدات عسكرية إلى سورية، فقد عرضت مجموعة “إتش آي أس” المتخصصة في الشؤون العسكرية الدولية، صوراً تم التقاطها من الأقمار الصناعية في الثالث عشر من الشهر نفسه، وتُظهر بناء منشآت عسكرية جديدة في مجمعي سطامو والصنوبر العسكريين، قرب مطار حميميم جنوب مدينة اللاذقية بنحو 22 كيلومتراً. وبعدها بيوم واحد علّق المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، جيف دافيز، على ما تم اعتباره إرهاصاتٍ أولية للتحركات الروسية في سورية بقوله “نشهد تحركات لأشخاص وأشياء تشير إلى أنهم يخططون لاستخدام تلك القاعدة الواقعة هناك جنوبي اللاذقية كقاعدة أمامية للعمليات الجوية”.

كما نقلت وكالة “رويترز” في ذات اليوم، عن مسؤولين أميركيين قولهما إن “روسيا نشرت عدداً من الدبابات في مطار اللاذقية” الذي شهد عملية حشد عسكري في الآونة الأخيرة، وأن “شاحنات تدخل المطار وتخرج منه ويبدو أن المدرج غير مناسب بعد لبعض أنواع الطائرات وهم لذلك يجرون بعض التحسينات”، مؤكدين أن “موسكو كانت ترسل كل يوم رحلتين جويتين لنقل شحنات إلى المطار خلال السبعة أيام الماضية”. وبعدها بأسبوع واحد وتحديداً في 21 سبتمبر/أيلول، نقلت وكالة “فرانس برس” عن مسؤولين أميركيين تأكيدهم، وجود طائرات روسية في مطار اللاذقية، وعددها “28 طائرة مطاردة وهجوم على الأرض” و”عشرون مروحية روسية للقتال والنقل”، فضلاً عن 3 أنظمة صواريخ أرض جو ونحو 500 فرد روسي ما بين فنيين وعسكريين.

وفي ذات الفترة، نشر موقع “ستراتفور” الاستخباراتي العسكري الأميركي صوراً حديثة ملتقطة بالأقمار الصناعية، تُظهر طائرات حربية روسية من طرازي سوخوي وميغ، في قاعدة حميميم الجوية (المطار الوحيد في اللاذقية). واستناداً إلى تقاطع المعلومات والتقارير التي تتحدث عن أعداد الطائرات الحربية الروسية في سورية، فإن الأرقام تشير إلى أنها تتجاوز الثلاثين طائرة على الأقل، وهي من طراز سوخوي (25-30- 35) وميغ (31) ومروحيات قتالية (ميل مي 24 – 8) إضافة إلى طائرات الاستطلاع. وقد ظهرت كل هذه الطائرات في مشاهد مصورة، بثها ناشطون سوريون على الإنترنت، أو من خلال تقارير مصورة لصحافيين يعملون لوسائل إعلام روسية، قاموا ببثها من داخل مطار حميميم جنوب اللاذقية.

هذا بشكل تقديري حجم القوة الجوية الروسية، التي تم نقلها إلى سورية، خلال سبتمبر/أيلول الماضي، وباشر قسمٌ منها عمله في اليوم الأخير من ذات الشهر، لكن القوة العسكرية الأكبر والأخطر، هي تلك التي تم نقلها بحراً.

تزايد نقل المعدات والأفراد بحراً

إذا كان تقدير أعداد الحد الأدنى من المعدات التي نُقلت جواً ممكناً من خلال صور الأقمار الصناعية، وما كشفته تقارير عسكرية وإعلامية، فإن “العربي الجديد” تكشف في هذا التحقيق، أن حركة نقل آلاف الأفراد ومئات المعدات والعربات العسكرية والمدرعة بحراً، تتصاعد منذ بداية سبتمبر/أيلول، وتسارعت وتيرة حركة القطع البحرية الروسية نحو سورية بصورة كبيرة وهي مستمرة حتى يومنا هذا.

ويتبين من خلال رصد السفن العسكرية التي تأتي من البحر الأسود، وتعبر مضيق البوسفور في تركيا نحو بحر مرمرة ثم مضيق الدردنيل إلى بحر إيجه وصولاً إلى شواطئ طرطوس على البحر المتوسط، أنّ عشرات السفن الروسية عبرت هذا الخط خلال الأسابيع القليلة الماضية، في مؤشر واضح على أن روسيا، ماضية قدماً في عملياتها العسكرية بسورية خلال الفترة المقبلة.

وفي تفاصيل الرصد للطريق البحري، فإنه خلال الفترة ما بين الخامس عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، حتى أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عبرت ما لا يقل عن 36 سفينة عسكرية روسية مضيق البوسفور في مدينة إسطنبول التركية، أكثر من سبعين بالمئة منها مخصصة لنقل الأفراد والآليات العسكرية، والباقي منها مخصص للأبحاث والتجسس والشحن والصيانة والحماية الحربية وغير ذلك.
وقد وثّق ناشطون أتراك بالصور، تواريخ عبور كل سفينة واسمها، من خلال مراقبتهم لحركة المرور في المضيق المائي الذي يربط بين بحري الأسود ومرمرة. قام فريقٌ صحافي وخبير ملاحة بحرية، بجمع الصور التي التقطها هواة أتراك، أو ناشطون يبدو من خلال نشاط حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أن لديهم شغفا في التقاط صور السفن العابرة لمضيق البوسفور.
ونظراً لأن كل صورة تُظهر اسم السفينة المنقوش عليها، فقد قام الفريق بإجراء بحثٍ في مواقع عسكرية مختصة أو موسوعية على شبكة الإنترنت، حول القدرات الاستيعابية لكل سفينة عسكرية، واختصاصها، فضلاً عن توثيق تواريخ عبورها الذي تم قبل ذلك، ومطابقة المعلومات مع أخبارٍ ترد في بعض وكالات الأنباء.

وقد رصد الفريق 36 رحلة على الأقل موثقة بتواريخ عبورها للبوسفور لسفن عسكرية روسية متجهة إلى سورية. وتَبينَ من خلال جدولة المعلومات التي تم جمعها، أن عشرين من هذه الرحلات على الأقل، كانت لسفن إنزالٍ تستطيع كل واحدة منها حمل ما بين 300 و400 فرد ومن 10 و20 آلية عسكرية. وبعض هذه السفن عبرت البوسفور باتجاه سورية، قبل أن تُفرغ حمولتها هناك كما هو متوقع، ثم عادت نحو الموانئ الروسية على البحر الأسود، لتحمل المزيد من الأفراد والمعدات على ما يبدو، وترجع إلى سورية مجدداً.

وكمثال على ذلك، فقد سُجل عبور السفينة  “قيصر كونيكوف” (Caesar Kunikov) إلى سورية، في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، لتبقى هناك أياماً عدة، قبل أن تعود مجدداً إلى البحر الأسود لتعبر لاحقاً ومجدداً إلى سورية بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتعود بذات السيناريو. وسُجل آخر عبور لها نحو طرطوس في السابع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي أنها ذهبت إلى سورية 3 مرات خلال أقل من 45 يوماً، وهي سفينة إنزالٍ قادرة على حمل 340 فرداً وأكثر من عشر دبابات، بحسب المعلومات التي سجلها فريق البحث، في مواقع موسوعية موثوقة، أو عسكرية مختصة على الإنترنت.

وكمثال ثانٍ يوضح الصورة بشكل أفضل، فقد تم توثيق عودة سفينة الإنزال الروسية “نيكولاي فليشينكوف 152” (Nikolai Filchenkov 152) من سورية خلال سبتمبر/أيلول الماضي إلى البحر الأسود، لكنها ذهبت إلى سورية مجدداً، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبعد سبعة أيامٍ سُجل مرورها في البوسفور نحو البحر الأسود، ثم عادت أدراجها في رحلتها الثالثة نحو سورية في السابع عشر من ذات الشهر، لتبقى في طرطوس نحو أربعة أيام. ووُثق تاريخ عودتها نحو البحر الأسود في السابع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتكون بذلك قد أجرت ثلاث رحلات إلى سورية، وهي سفينة إنزال تتسع لأربعمائة فرد ونحو 20 دبابة، بالإضافة إلى مختلف أنواع العتاد العسكري.

يقول عبد الرحمن اللاذقاني، وهو خبير ملاحة بحرية، لـ”العربي الجديد” إن “كل سفينة تغادر ميناء نوفوروسيسك الروسي الذي تأتي منه سفن البحر الأسود، تحتاج لنحو 3 أيام لتصل إلى البوسفور في تركيا، ولنحو يومين آخرين حتى الوصول إلى ميناء طرطوس السوري”. كما يوضح أن “كل سفينة إنزال تحتاج إلى يومين على الأقل لإفراغ حمولتها وإجراء الفحوصات الفنية والصيانة والتزود بالوقود، ريثما تكون جاهزة للعودة مجدداً إلى الميناء الذي تقصده”. ويضيف “لذلك فإننا نلاحظ في حال السفينة (نيكولاي فليشينكوف 152) أنها في رحلتي أكتوبر/تشرين الأول بقيت ما بين 2-4 أيام تفرغ حمولتها في الميناء السوري، وأكثر من ذلك بقليل لتعبئة الحمولة في الميناء الروسي، وتواريخ ذهابها وعودتها ومدة مكوثها في الميناءين المذكورين، توضح أن السفينة جاءت إلى سورية ثلاث مرات بحمولة كاملة من طاقتها الاستيعابية، وهي سفينة قادرة على حمل 400 فرد، و20 عربة مدرعة”.

تجدر الإشارة الى أن الأمثلة السابقة هي عبارة عن رحلاتٍ لسفن تم رصد توجهها نحو سورية، من أصل 36 رحلة مماثلة تم توثيقها، ومن بينها عشرون رحلة لسفن إنزال تحمل الواحدة منها، وسطياً نحو 350 فرداً، و15 عربة عسكرية، ما يعني أن روسيا نقلت ستة آلاف فردٍ إلى سورية (ما بين عسكريين وفنيين وسائقين وملاحين جويين وخدميين وغير ذلك)، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 300 آلية عسكرية (ما بين دبابة ومدرعة وناقلة جنود وسيارة) في هذه الرحلات العشرين فقط.

ويضيف الخبير في الملاحة والنقل البحري، عبد الرحمن اللاذقاني، لـ”العربي الجديد” أن “الست عشرة رحلة الموثقة التي تضاف لـ20 سفينة إنزال، تشير إلى أن من بين القطع البحرية الأخرى، سفن شحن تملك تقريباً ذات القدرة الاستيعابية لسفن الإنزال وإن لم يمكن اختصاصها نقل جنود وعربات”. ويوضح أن المعلومات التي جدولها فريق البحث للـ16 سفينة التي ليس بينها سفن إنزال، تُبين أن هناك سفنا عدة قادرة على حمل عشرات العربات العسكرية ومئات الجنود. ويشير إلى أن السفينة الروسية “ألكسندر تكاشينكو 150″(Aleksandr Tkachenko150) التي وُثق تاريخ عبورها من البحر الأسود نحو سورية “قادرة مثلاً على حمل نحو 100 عربة عسكرية لوحدها”، وهذا يعني “أنه يمكن إضافة ما لا يقل عن 300 آلية عسكرية نقلت على غير سفن الإنزال الثلاثمائة التي تم إحصاؤها من خلال توثيق 20 رحلة سفينة إنزال روسية اتجهت إلى سورية”.

وبحساب الستة آلاف فرد الذين تم إحصاؤهم من الـ20 سفينة إنزال الموثقة التي اتجهت إلى سورية، يضاف إليهم تقديرياً، نحو ألفي فرد كانوا على متن الـ16 سفينة عسكرية أخرى، يتبين أن روسيا نقلت نحو ثمانية آلاف فردٍ على متن سفنها العسكرية المتجهة إلى سورية.

كما أنه، وبحسب المعلومات التي جدولها فريق البحث، يوجد سفن أخرى تم نقلها إلى سورية وهي ذات اختصاصات مختلفة، ما بين تجسس وتشويش وجمع معلومات وسفن أبحاث وصيانة وحاملات صواريخ مضادة للسفن ومضادات غواصات ودفاع جوي وغيرها. وبإمكان بعض هذه القطع البحرية حمل مئات الأشخاص وآليات ومعدات عسكرية بالإضافة إلى اختصاصها الأساسي.

إذن النتيجة الوسطية التي خلُص إليها فريق البحث، هي أن روسيا نقلت من خلال ما تم جمعه من معلومات، نحو ثمانية آلاف فرد (ما بين عسكريين وفنيين وسائقين وملاحين جويين وخدميين وغير ذلك) إضافة إلى ستمائة آلية عسكرية على الأقل (ما بين دبابة وعربة مدرعة وغير ذلك).

تجدر الإشارة إلى أن هذا الرقم هو الحد الأدنى، لكن تبقى المعدات والأفراد الذين نُقلوا جواً عصية التقدير، مع الأخذ بعين الاعتبار ما كشفه قبل فترة وزير عراقي بارز، عندما أكد لـ”العربي الجديد” من بغداد، أن 39 طائرة شحن روسية وإيرانية عبرت الأجواء العراقية خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، محملة بأسلحة وعتاد ومسلحين لدعم نظام الأسد.

كما أن هناك طريقا بحريا آخر يمكن أن تعبره السفن الحربية الروسية، ولا يُعرف ما إذا كانت موسكو قد استخدمته، وهو من الموانئ الروسية في بحر البلطيق، إلى المحيط الأطلسي ثم مضيق جبل طريق، وصولاً للمياه الإقليمية السورية. لكن طريق البحر الأسود، وبحسب اللاذقاني، يبقى “الأجدر والأكفأ تشغيلياً لأنه أقرب إلى سورية وأقل كلفة، كما أنه على عكس طريق بحر البلطيق، يمر بالحد الأدنى من مياه نفوذ حلف شمال الأطلسي”.

روسيا توسّع أسطول البحر الأسود

من المعلومات الإضافية التي توصل إليها فريق البحث خلال مرحلة الاستقصاء، أن القوات الروسية بدأت أخيراً بشراء سفنٍ مدنية لاستخدامها عسكرياً. وتبين ذلك خلال تحليل بعض الصور التي التقطت أثناء عبور هذه السفن (المنطلقة من ميناء “نوفوروسيسك” الروسي) من مضيق البوسفور التركي باتجاه الشواطئ السورية.

وفي حين يصعب تحديد عدد السفن المدنية التي اقتنتها القوات الروسية أخيراً لتوسيع أسطول البحر الأسود بدقة، فإن خبير الملاحة البحرية يقول لـ”العربي الجديد” إن “عددها لا يقل عن ثماني سفن اشترتها روسيا في الشهرين الماضيين بحسب ما نشر على شبكة الإنترنت مدونون غربيون مهتمون بالملاحة المائية والنقل البحري”.

في الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وثّق ناشطون مهتمون بحركة الملاحة في مضيق البوسفور، مرور سفينة ترفع العلم الروسي واسمها “دفينيسيا” بطريقها إلى سورية، ومن خلال التقاطهم لصورٍ من زوايا عدة لذات السفينة، تبيّن أنها تحمل أفراداً بزيٍ عسكري.

ولدى استقصاء فريق البحث في هذا الجزء من التحقيق، عبر مواقع خاصة تسجل حركة الملاحة البحرية للسفن المدنية حصراً (على غرار مواقع تُظهر حركة طائرات نقل الركاب)، تبين أن “دفينيسيا” هي بالأساس، سفينة مدنية اسمها “اليجانديفا”، اشترتها روسيا أوائل هذا الشهر، ووصلت في السابع منه إلى ميناء نوفوروسيسك الروسي، قبل أن تمر عبر البوسفور نحو سورية، بعد ذلك بسبعة أيام فقط، باسمها الجديد “دفينيسيا”. وتؤكد هذه المعلومات صورةٌ مكبرة للسفينة، إذ توضح الاسم الجديد وقد كُتب بخطٍ صغير حديث الطلاء، فوق الاسم المكتوب بخطٍ عريض كاحت الطلاء لقدمه.

كما أن فريق البحث، تمكن من توثيق حالتين شبيهتين على الأقل، لسفنٍ من المفترض أنها مدنية، وعبرت من البحر الأسود نحو سورية. الأولى تحمل اسم “ليو” والثانية “ترانسمار” وكلتاهما، تم الاستدلال من خلال مضمون الصور أيضاً، أنهما تستخدمان عسكرياً.

وفي محصلة هذه المعلومات، يقول الخبير في الملاحة والنقل البحري لـ”العربي الجديد” إنه “في حال صدقت المعلومات التي تتحدث عن شراء موسكو لثماني سفن بحرية كبيرة بغرض توسيع أسطول البحر الأسود، فهذا مؤشر خطير على أنها تعتزم مواصلة الرحلات العسكرية في المستقبل القريب، على خط البحر الأسود- مرمرة – إيجه- ثم الموانئ السورية على البحر المتوسط”.

في السياق، كان فريق البحث قد دوّن في سجلاته، مرور السفينة العسكرية الروسية (دونوزلاف) “Donuzlav” المخصصة لإجراء الأبحاث، من البحر الأسود إلى سورية في 20 سبتمبر/أيلول الماضي. وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه، تم تسجيل مرور سفينة (كيل 158) “KIL 158” (اختصاص صيانة مؤانى) في نفس الطريق والاتجاه.

وفي الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نقلت وكالة الأنباء السورية “سانا” التابعة للنظام، عن مصدر عسكري روسي قوله إن “النقطة اللوجستية التابعة للبحرية الروسية في ميناء طرطوس ستكون قادرة على استقبال السفن الكبيرة بعد الانتهاء من تعميق قناة رسو السفن وتثبيت الأرصفة”. وأوضح يومها أن “أعمال تعميق وتنظيف قناة مرفأ طرطوس جارية بنشاط كبير بمشاركة السفينة الخاصة بهذه الأعمال /كيل 158/التابعة لأسطول البحر الأسود بعدما قامت السفينة دونوزلاف بإجراء القياسات الهيدروغرافية اللازمة”. وأكد أنه “بعد الانتهاء من هذه الأعمال وترميم أجزاء من البنى التحتية للميناء، ستكون النقطة اللوجستية قادرة على استقبال السفن من الدرجة الثانية والسفن ذات الحمولات الكبيرة”.

وفي حين يقلل خبير الملاحة البحرية من قيمة أعمال الصيانة هذه “لأن تعميق الحوض المائي يجري بشكل دوري عادة في كل الموانئ”، يوضح أن “قيام السفن الروسية بهذا الأمر، يشير إلى أن الروس يعتزمون مواصلة استقدام سفن كبيرة في الأشهر المقبلة”.

هل زجّت روسيا بجنودها في معارك برية؟

منذ الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي، وهو اليوم الذي انطلقت فجره أولى الصواريخ من الطائرات الحربية الروسية، مستهدفة بلداتٍ وقرى بريفي حمص وحماه الشماليين، دأب المسؤولون الروس على التأكيد أن موسكو لا تعتزم أن تُنزل قواتها إلى المعارك البرية في سورية، لكن الوقائع التي بدأت تتكشف أخيراً، وإن بمشهد غير واضح المعالم تماماً، تشير إلى أن بعض القوات البرية الروسية تشارك بشكلٍ محدود  في المعارك. أوضَح تصريحٍ روسي في هذا السياق، هو ما ورد على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعٍ حكومي في موسكو مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ قال “نحن بالطبع لا ننوي أن نغرس رأسنا في النزاع السوري. وسننفذ خطواتنا في الأطر المحددة بدقة”. وأوضح أنّ ذلك سيكون “أولاً، بدعم الجيش السوري فقط في كفاحه الشرعي للتنظيمات الإرهابية تحديداً، وثانياً، سيكون هذا الدعم جوياً فقط من دون مشاركة في عمليات برية، وثالثاً، مثل هذا الدعم سيقتصر من ناحية الزمن على فترة قيام الجيش السوري بإجراء عمليات هجومية”.

لكن بالتوازي مع هذه التصريحات تقريباً وفي الفترة اللاحقة، بدأت تظهر صورٌ ومقاطع فيديو على الإنترنتلجنودٍ روس، أثناء تواجدهم في معسكراتٍ مع قوات النظام السوري ولا سيما في مناطق الساحل، أو لمواقع يبدو أنها على الجبهات القتالية في جبال اللاذقية. كما بدأت بعض المصادر المقربة من النظام أخيراً بنشرِ مشاهد مصورة، لراجمات صواريخ روسية حديثة وهي تقوم بالقصف على جبهات القتال. وبثّ تلفزيون “الدنيا” المقرب من الأسد خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي تقريراً خاصاً عن “راجمات الصواريخ التي وصلت حديثاً، والتي تتمتع بقدرات تدميرية عالية” من دون أن يوضح أي من المشاهد، ما إذا الكادر البشري الذي يتولى استخدام هذه الأسلحة الحديثة من الجنود السوريين أو الروس.

ومساء 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الماضي، نشر ناشطون على الإنترنت، صوراً تظهر مدرعاتٍ روسية يبدو أنها حديثة الصنع ولا يبدو عليها أي أثرٍ يدل أنها خاضت في ميدان المعارك، وهي تسير في قرية تُدعى الشلفاطية. وتقع القرية المذكورة إلى الشرق من مدينة اللاذقية بنحو ثمانية كيلو مترات، قرب الطريق المؤدي إلى الجبهات المشتعلة في سهل الغاب شرقاً وجبل الأكراد شمالاً، كما تبعد عن مركز ثقل التواجد الروسي في مطار حميميم بنحو خمسة عشر كيلو متراً إلى الشمال.

وعلى الرغم من صعوبة التأكد من هوية الطاقم الذي يقود هذه الآليات، يرجّح الناشطون في “تنسيقية اللاذقية” ممن تحدثت إليهم “العربي الجديد” بهدف التأكد من تاريخ الصور والمكان الذي التقطت فيه، أن يكون “الرتل بقيادة جنود روس، فهذه العربات لا يوجد منها في سورية ولا تملكها قوات النظام ولا تستطيع أساساً أن تسيرها على الأقل لأنها وصلت حديثاً”.

بعيداً عن الصور ومشاهد الفيديو، التي لا يمكن الجزم تماماً في نتائج تحليلاتها، وإن كان بعضها يبدو منطقياً، فإن أخبار مقتل جنود روس على الجبهات في سورية بدأت تأخذ صدى أكثر من ذي قبل، ولا سيما بعد ما قالته وزارة الدفاع الروسية في السابع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من أن جندياً روسياً لقي حتفه انتحاراً في مطار اللاذقية.

لكن والد الجندي قلل في حديثٍ لوكالة رويترز من مصداقية الرواية الرسمية، لأن ابنه “لا ينتحر بسبب فتاة”، وذهبت والدة الجندي إلى ذات النتيجة إذ قالت “كنا نتحدث معه عبر الهاتف بشكل يومي لمدة ربع ساعة. يوم السبت الماضي (اليوم قبل الأخير لوفاته) كان صوته يبدو سعيداً وكان يضحك”.

وكان موقعان إلكترونيان أوكرانيان (أوبزيرفاتيل، وأوكرانيا اليوم)، قد ذكرا في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول، أن “26 جثة لجنود روس وصلت عبر طائرة روسية آتية من سورية، إلى مدينة سفاستبول الواقعة تحت السيطرة الروسية في جزيرة القرم”، لكن هذه الأنباء، لا يمكن التيقن منها تماماً من مصدر محايد.

لكن، قبل ذلك بيومين، وردت أنباء أكثر موثوقية حول مقتل جنود روس في سورية، إذ نقلت وكالة “رويترز” عن مصدر سوري مقرب من النظام تأكيده “مقتل ثلاثة جنود روس بسقوط قذيفة في منطقة النبي يونس بريف اللاذقية”، من دون أن توضح المزيد من التفاصيل.

وعلى الرغم من “عدم علم” السفارة الروسية في دمشق ووزارة الدفاع الروسية بحقيقة الواقعة، كانت المؤشرات تتزايد على أن ذلك حصل بالفعل. فقد علمت “العربي الجديد” حينها من مصادر ميدانية في ريف اللاذقية أن “مقاتلين من جبهة النصرة هاجموا مقراً عسكرياً لقوات النظام في منطقة جب الأحمر قرب النبي يونس”. وأضافت المصادر نفسها أن “قائد الاقتحاميين أخبرنا بأنهم قتلوا في الهجوم نحو 30 عنصراً من الموجودين في المقرّ على الأقل”، من دون معرفة ما إذا كان بينهم فعلاً مقاتلون روس”. أما مدير المكتب الإعلامي في “تنسيقية اللاذقية” أبو فيصل، فقد أكد حينها لـ”العربي الجديد” مقتل الروس، مشيراً إلى أن “فصائل في المعارضة قصفت موقعاً عسكرياً في منطقة النبي يونس، وأن تقاطع المعلومات مع ما أوردته وكالة رويترز حول توقيت الهجوم يؤكد أن القصف أدى لمقتل أشخاص روس”.

وتظهر التطورات الميدانية منذ بدء التدخل العسكري الروسي المباشر، أن كل الدعم الروسي، لم يمنح النظام أي إنجاز كبير على الأرض، قياساً بالخسائر البشرية والمادية غير المسبوقة التي تعرض لها، حيث في فترة زمنية قصيرة تقتصر على بضعة أسابيع فقد مئات الجنود من مليشياته وقواته النظامية، والعشرات من المدرعات والدبابات، بحسب تقارير المعارضة السورية.

ويقول المحلل العسكري أحمد رحال لـ”العربي الجديد” إن”روسيا خلال أربعة أسابيع من بدء تدخلها العسكري المباشر وصلت إلى قناعة بأنه لا يمكن الاعتماد على قوات بشار الأسد لإنجازِ خرقٍ ميداني”، مشيراً إلى أن “الحملة العسكرية الروسية لم تحقق نتائج تذكر بعد شهر من بدايتها”.

وحول وجود آلاف الأفراد الروس الذين تم نقلهم إلى سورية في الأسابيع القليلة الماضية، يستبعد رحال أن يزيد العدد عن خمسة آلاف حالياً، قائلاً: “إن هذا العدد مبدئياً، هو لتأمين رأس الجسر الجوي والبنية التحتية فيما إذا أرادت روسيا استقدام قوات أخرى”. ويعتبر أنّ الأعداد المتواجدة حالياً “معظمها للدعم اللوجستي من فنيين وسائقين ولخدمة المستودعات العسكرية وحراستها، وآخرون للملاحة الجوية والبحرية والصيانة والتذخير والإطعام والخدمات الأخرى، وبالتأكيد يوجد بينهم مقاتلون”، لافتاً إلى أن “روسيا لم تقبل إطلاقا الاعتماد على الجيش السوري في الحراسة أو الخدمات”.

ويوضح المحلل العسكري نفسه أن “الفرق العسكرية الروسية تقوم حالياً بتعميق ميناء طرطوس وتأهيل مطار حميميم لإنشاء مدرج آخر، أفضل من الذي تقلع عبره الطائرات الروسية حالياً”. ولم يلغ أو يقلل رحال من إمكانية أن تتوسع أو تتضاءل العمليات العسكرية الروسية مستقبلاً في سورية، متوقفاً عند كلام البروفسور الروسي أندري بيونتوكوفسكي “إنقاذ الأسد لم يكن السبب الوحيد للتدخل في وعي بوتين المظلم. توجد أسباب جد ذاتية لهذا التدخل وهي ليست فقط مقصورة على تضامن طاغية مع طاغية آخر، بل قناعة راسخة بأن كل أحداث الربيع العربي هي عبارة عن مؤامرة من أوباما ضد بوتين شخصياً”، لكن التدخل الروسي فشل، ولذلك فإن “طاقم بوتين يُحضر الآن تفسيراً للداخل الروسي كمبرر للانسحاب من سورية”، بحسب المعارض الروسي.

ولدى سؤال رحال الذي خدم في البحرية السورية لأكثر من ثلاثة عقود، عن سبب السماح بمرور هذا الكم الكبير من السفن الروسية في المضائق البحرية التي تديرها الحكومة التركية الداعمة للمعارضة السورية، يقول إنه “طبقاً للقانون الدولي، يحق لجميع سفن الدول الأخرى أن تمر من هذه المضائق، شرط أن تدفع السفن المدنية أجور المرور، وأن تعبر السفن العسكرية حصراً في ضوء النهار، وأن تكون الغواصات في وضع الطفو فوق الماء”، مشيراً إلى أن “تركيا وأي دولة أخرى تدير معبراً مائياً، لا يحق لها إغلاقه بوجه سفن دولة معينة، إلا إذا كانت في حالة حرب معها، أو إذا كان هذا العبور يهدد الأمن القومي للبلد المشرف على المعبر”.