عمر قدور

يُحكى أن حافظ الأسد عندما قام بانقلابه، ودخل مكتب الرئيس نور الدين الأتاسي ورأى مكتبته، استدعى مدير مكتب الأخير وسأله: هل قرأ “معلمك” كل هذه الكتب؟ أجاب الموظف بأنه كان يرى رئيسه يقرأ في كثير من الأحيان. ليقول حافظ: وما رأيك في أنني لم أقرأ ولا كتاباً منها ومع ذلك غلبت رئيسك؟ ثم انفجر ضاحكاً ضحكة المنتصر. يروي مصطفى طلاس أن حافظ الأسد كان الأول على الكلية الحربية، عندما كان طالباً فيها، في مباريات النطح. يبدو أن تلك المسابقات تجري بتبادل النطح بين متنافسَين، والفائز هو من يطيح الآخر، وأغلب الظن أن طلاس كان يروي تلك “المأثرة” عن رئيسه بنوع من المديح، أو ليدل على أن هناك ما يُثنى عليه في ذلك الرأس “الذي لم يكن يكترث بالقراءة”.

صاحب رواية بطل النطح “مصطفى طلاس” هو أول من اقترح لقباً لحافظ الأسد، في المؤتمر العام الأول لحزب البعث بعد “الحركة التصحيحية”، اللقب بقي شائعاً لسنوات ودخل في بعض الأغاني التي تمتدح الأسد، خاصة بعد حرب تشرين 1973. اللقب هو “قائد المسيرة”، ذلك على سبيل الاختصار والاستعجال أما اللقب كاملاً الذي أقره مؤتمر الحزب باقتراح من طلاس فهو “قائد مسيرة الأمة العربية نحو الوحدة والحرية والاشتراكية”. سيتواصل تأليف تلك الأغاني التي تمتدح السلطان، ويتواتر فيها استخدام اللقب الذي اختاره صاحبه لنفسه “أبي سليمان”، حتى يعتقد سوريون كثر أن هذا هو اسم أبيه، في حين أن اسم أبيه هو علي، واسم ابنه البكر باسل وكان قد تجاوز الثامنة من عمره وقت انقلاب أبيه لكنه لم يتكنى به إلا مع إشهار مشروع التوريث الذي اقتضى الانتقال من “أبي سليمان” إلى “أبي باسل”.

بين أبي سليمان وأبي باسل، كانت الألقاب تتوالى في الإعلام المحلي وكأننا إزاء مزاد عام تُكتشف فيه مواهب القائد الفذّ، أو تُخترع له مواهب وشيم وخصال برهانها وإثباتها الأقوى قدرته على الإمساك بالسلطة. كما هو معلوم، لا ثقة للسوريين بإعلام السلطة، رغم تأثيره الناعم واللامرئي حتى على البعض ممن كانوا يعلنون عدم ثقتهم به. في مسيرة ذلك الإعلام لصناعة صورة “القائد التاريخي” تلقى جرعتي دعم كان لهما مفعول شديد ومديد، أولهما من كريم بقرادوني في كتابه “السلام المفقود-عهد الرئيس إلياس سركيس 1976-1982″، الكتاب كان ممنوعاً من التداول في سوريا بموجب تعليمات شكلية للرقابة، ومن المحتمل أن المنع ساهم في ترويج الكتاب، ولم يكن حائلاً دون إقامة ندوات مخصصة عن شخصية حافظ الأسد الفذة كما تظهر في كتاب بقرادوني.

جرعة الدعم الأقوى ستأتي من باتريك سيل بكتابه “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”، الكتاب الذي تضمن رواية حافظ الأسد عن تاريخه الشخصي وتاريخ عائلته، وعن دوره السياسي منذ كان طالباً، أي الصورة التي يريد الترويج لها. أيضاً لم يكن تداول الكتاب مسموحاً به بموجب الرقابة، وهذا لم يكن حائلاً دون انتشاره الواسع، ولا دون إقامة ندوات عامة عنه أو الاحتفاء الواضح بمؤلفه. من كتاب باتريك سيل سيعرف السوريون مثلاً السبب المزعوم لتكني حافظ بجده سليمان، الذي بحسب روايته كان بطلاً في المصارعة، ولعل فخره بجده “القوي بدنياً” يعزز رواية طلاس عن بطولة النطح، وأيضاً تلك الحكاية عن احتقاره عادة القراءة لدى سلفه الأتاسي. إذا كان من فضل لأشخاص في صناعة صورة حافظ الأسد فالفضل يعود بالتأكيد إلى بقرادوني وسيل اللذين أتيا “نظرياً” من موقع الحياد، وأسبغا عليه صفات من الذكاء والشطارة والحذاقة تعزز سردية الإعلام الأسدي عن القائد الاستثناء.

ثمة أفضال أخرى ضئيلة لمسؤولين أجانب، للأمريكيين منهم وقع خاص، قام الإعلام باجتزاء كلام لهم عن حافظ الأسد ليحتمل المديح فحسب. الحصيلة أن بعض ما هو خارج عن اللباقة السياسية والدبلوماسية سيصبح موهبة فذة، كالكلام عن “دبلوماسية امتلاء المثانة” عطفاً على إسهاب حافظ الأسد في الكلام وإطالة وقت اللقاء لتمتلئ مثانة ضيفه فلا يقوى على التحمل. أو طريقة تعامله مع القيادات اللبنانية، حيث كان يمر الواحد منهم أولاً بمكتب عبدالحليم خدام، فيتعاطى معه بقسوة أو تهديد كجلاد في فرع مخابرات قبل إدخاله للقاء حافظ الذي سيبدو رؤوفاً أحياناً بالقياس إلى الوعيد المرسل عبر خدام، بينما يكون الضيف خائفاً وجاهزاً لتنفيذ ما يريده الأسد، يا للبراعة الاستثنائية حقاً!

يتداول السوريون عبارة منسوبة إلى الرئيس شكري القوتلي بعد توقيعه اتفاقية الوحدة مع عبدالناصر، إذ قال له: أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس. أنت أخذت شعباً يعتقد كل واحد فيه أنه سياسي، ويعتقد نصف ناسه أنهم زعماء، ويعتقد ربعهم أنهم أنبياء بينما يعتقد 10% منهم أنهم آلهة. هذه العبارة المنتشرة يُفترض أنها سبقت انقلاب حافظ الأسد بدزينة من السنوات فقط، وسبقت انقلاب البعث بخمس سنوات فقط. نحن أمام مفارقة جارحة جداً؛ شعب بتلك المواصفات، شعب ينبغي أن يكون عصياً على الترويض، ستأتي مجموعة انقلابية لتطرده خارج حلبة السياسة، وليقتصر الصراع على المجموعة البعثية الحاكمة خلال سبع سنوات. ثم لاحقاً سيبرز من بين تلك المجموعة الأكثر تواضعاً بمواصفاته، إن على صعيد الثقافة أو على صعيد الالتزام الحزبي أو على أي صعيد يمنح صاحبه خصوصية عالية، لينقلب ذلك المغمور قليل المواهب على رفاقه المتفوقين عليه نظرياً، وليحكم شعباً كان إلى عهد قريب يعتقد كل واحد من بين اثنين أنه الأجدر بالزعامة، إذا استثنينا الأنبياء والآلهة!

ما الذي حدث لذلك الشعب خلال مدة زمنية قصيرة جداً؟ كيف أصبح بأكمله خارج السياسة؟ وكيف تخلى نصفه عن طموحاته في الزعامة؟ ولماذا نسبة قليلة جداً من هذا الشعب بالكاد تعرف أسماء رؤساء سوريين باستثناء شكري القوتلي إلى حد ما، لتتكرس صورة حافظ الأسد كأنه الرئيس الوحيد، لا إلى الأبد كما تقول دعايته وإنما منذ الأزل أيضاً؟ وكيف تمكن حافظ الأسد من الانقلاب على رفاقه الأعلى منه بالعديد من المقاييس؟ وباستثناء الذين زجّ بهم في السجن حتى الموت، لماذا لم نحظَ برواية الناجين منهم عن تلك المرحلة من أجل فهم أوسع لها؟ يُروى أيضاً أن شكري القوتلي استطرد مخاطباً عبدالناصر: أخذت أناساً فيهم من يعبد الله، وفيهم من يعبد النار، وفيهم من يعبد الشيطان، وفيهم من يعبد الفرج. فلماذا راجت العبارة الأولى المنصرفة كلياً إلى السياسة، بخلاف الاستطراد الذي يشير إلى الفوارق الدينية والمذهبية؟

نحن الآن مع نهاية نصف قرن من انقلاب حافظ الأسد، الانقلاب الذي نفذته مجموعة صغيرة جداً، قوامها الأساسي من الشرطة العسكرية التي اعتقلت القيادة السابقة، من دون وجود قطعات عسكرية تقاوم الانقلاب الذي يقوده وزير الدفاع المُقال من قبل رفاقه هو ورئيس أركانه مصطفى طلاس. كان حكم البعث قد شهد انقلاباً قبل أربع سنوات سُمّي حركة 23 شباط، وفي أيلول من العام نفسه شهد محاولة انقلاب قادها سليم حاطوم، وكاد الأخير على الأقل يوقع بصلاح جديد وآخرين بإمكانيات بسيطة، لكن صلاح جديد وحلفاءه لم يتعلموا الدرس البسيط الذي وضع الثقل في الجيش لا في أي مكان آخر، وهذا ما كان يجب أن يستوعبه الجميع منذ انقلاب الشيشكلي إذا لم نقل منذ انقلاب حسني الزعيم. هذا ما يدحض ذلك المخيال عن شعب نصفه من الزعماء، ما دام الصراع كان محصوراً قبل الوحدة وانقلاب البعث بين نخبة سياسية بدأت تجربتها الليبرالية الواعدة أيام الانتداب الفرنسي وقادةِ جيش أو ضباط كانوا طامحين على الدوام إلى وراثة ذلك الانتداب، إنما على شاكلة الاحتلال الفظ.

لم يلقَ انقلاب حافظ الأسد مقاومة شعبية ولو بحدود رمزية، باستثناء جدل سرعان ما طوي حول إسلامه لكونه علوياً. منذ اللحظة الأولى للانقلاب تصرف باستهانة بالغة، فأتى بشخص مغمور “هو نقيب المعلمين أحمد الخطيب” ليعينه رئيساً مؤقتاً، وأتى برئيس اتحاد الطلبة متعب شنان “الذي لم يؤدّ الخدمة العسكرية بعد” ليعينه وزيراً للدفاع، وهما مثالان على الاستهانة بمنطق الدولة التي أمسك بها من منصبه المؤقت كرئيس للوزراء.

في جولته على مدن سورية لحشد التأييد بعد الانقلاب، استقبل حافظ الأسد المباركين له، وربما بعض الشركاء الجدد وبعض الناصحين. في حلب مثلاً، سيكون هناك من ينصحه بأخذ صورة بالزي المدني، صورة أكثر ملاءمة لرئيس المستقبل من صوره المنتشرة في الإعلام بالزي العسكري، وهكذا سيلتقط له مصور حلبي شهير الصورة التي سيتكرر ظهورها في وسائل الإعلام في الفترة الأولى من عهده. ذلك الناصح سيكون عضواً في لجنة تعديل الدستور التي أتاحت لبشار وراثة أبيه، يا للمصادفة! تعاملُ السوريين مع الانقلاب الجديد يذكّرنا بما يُروى عن مظاهرة شهدتها دمشق يوم الانقلاب على الوحدة، وفحوى الرواية أن المظاهرة خرجت تأييداً للانفصال، وكان من خط سيرها الشارعُ الذي تقع فيه مدرسة الرياضة العسكرية آنذاك؛ في ذهابها كان المتظاهرون يهتفون تأييداً للانفصال وهجوماً على عبدالناصر، لكن “القيادة الثورية للقوات المسلحة” أصدرت في تلك الأثناء البيان رقم 9 الذي تعلن فيه الحفاظ على الوحدة، فعادت المظاهرة نفسها والمتظاهرون يهتفون تأييداً للوحدة وعبدالناصر.

السوريون ليسوا شعباً من المنافقين على غرار تلك المظاهرة، وليسوا شعباً من السياسيين والزعماء والأنبياء والآلهة بحسب الكلام المنسوب إلى الرئيس القوتلي. فرضية النفاق المعمم استُخدمت دائماً ذريعة لتبرير استحقاقهم الاستبداد، فوق ما فيها من تنميط. والفرضية الثانية ثبت خطؤها ككل تعميم، لكن مع ثبوت مضارها، فشعب من هذا الصنف لا بد أن يكون مروّضه فيه الكثير من الخصال الاستثنائية، وخطورة العبارة هذه في أنها ترضي معارضين ومؤيدين، كل منهم لأسبابه.

نصف قرن على انقلاب حافظ الأسد، على وجود الأسدية وانتفاء سوريا والسوريين؛ هي مدة تستحق التأمل والفهم. لدينا الآن تجربة بالدم الطازج، فمهارات الوريث الشخصية لا تقارن بكفاءات سورية، بما فيها كفاءات في صفوف المعارضة، لكنه تمكن من البقاء، والأخطر من بقائه ذلك الفشل المدوي للمعارضة. لا يهم أن يكون بشار المعادل الأسدي لشخص مثل أبي عمشة في مقلب ما تبقى من فصائل محسوبة على المعارضة، لأن الانحدار المعمم وصفة أمثل لبقاء الأسدية. السؤال هو: لماذا فشلت المعارضة في أن تخسر بشرف؟ أم أن كلامنا عن كفاءاتٍ معارضة هو استئناف لذاك الوهم عن شعب نصفه من السياسيين؟