لا يعرف أطفال حلب الذين أحرقوا الدواليب؛ لكي يشوّشوا على طيران الإجرام أيّ عمل عظيم يتنافسون فيه، فجلّ ما يعرفونه أنهم يدافعون عن أهلهم وأنفسهم ضدّ طيران معاد لا يعرفون بالضبط لماذا يصبّ جام غضبه على رؤوسهم.

هم ليسوا معنيّين إلا بالحرص على طفولة بريئة يريد الطغاة قتلها بلا ذنب جنته.

هو العنف المادي الذي تدفعهم مواجهته إلى اختراع أسلوبهم البسيط الذكيّ للمواجهة.

في غمرة الفرح بانتصارات المعارضة في حلب، وقلب الموازين على الأرض، وتوجيه صفعة قوية لروسيا وإيران وتابعهما النظام السوري، نفاجأ بإطلاق اسم “إبراهيم اليوسف” على معركة تحرير مدرسة المدفعية.

هو عنف رمزي يوجه ضدنا قبل أن يوجّه ضد غيرنا، فهذا الرجل الذي خطّط ونفّذ مجزرة المدفعية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، يُستحضر اليوم كرمز لمعركة يفترض أنها معركة تحرير في سلسلة معارك ثورة مجيدة تبتغي الخلاص من نظام مجرم مستبد.

الجذر الطائفي للتسمية لا لبس فيه، وهو تعبير واضح عن ردّ فعل يمكن تفهمّه على طائفية النظام الذاهبة إلى أقصى مدى، ولكنه في الوقت نفسه يجعلنا يُسقط في يدنا؛ لأنه يعطي الثورة طابعًا يفرغها من مضمونها التحرري النبيل، ويحيلها إلى عملية ثأر مقيت وإلى معركة بين طوائف متخندقة.

الفرق بين العنف -ماديًا كان أم رمزيًا- وبين التطرف أن العنف ممكن من ممكنات الواقع، أما التطرف فهو محاولة فرض ممكنات لا يحتملها الواقع، لكي يُقسر على قبولها والتشكّل بحسب ما تقتضيه.

ولهذا فإن سؤالًا ملحًا يفرض نفسه علينا فحواه: كيف استطاع الممكن الثأري الطائفي أن يخرج من القوة إلى الفعل على حساب ممكنات أخرى ظلت في طور الإمكان؟

لا يكفي النوح والتذمر على إطلالة هذا الوجه الطائفي، وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل لظروف موضوعية أتاحت له وللفاعلين الذين استحضروه، وساهموا في إبرازه أن يطمسوا ممكنات أخرى، وأبعادًا أخرى للثورة السورية، وأن يحوّلوا سلوكًا طائفيًا إلى أقنوم لمعركة تحرير.

من نافل القول إن إجرام النظام وطائفيته سببان رئيسان في تفسير هذا، وإن خذلان العالم للسوريين عامل مفسّر أيضًا.

ولكن السبب الكامن خلف هذا يتجاوز هذه الأسباب بالغة الوضوح، فلقد ضمُر الخطاب الديمقراطي بسبب عدم تمثّل متبنّيه له في الممارسة، ولم يستطع مجاراة خطاب المؤدلجين، الذين وجدوا الحقل التداولي ممهّدًا لهم بدون عناء لخلق مفاهيمه ومصطلحاته.

لعل في تتويج السنوات المنصرمة باستحضار رمز طائفي، ما هو كفيل بهزّنا بكل قوة لكي نستفرغ الجهد في اجتراح أساليب أكثر جدوى لخلق الحقل التداولي المشترك مع شعبنا، فالأمر من الخطورة إلى حد الإنذار بمستقبل مظلم لا يتيح فيه الظلام كوّة من نور لبناء وطن حرّ لكل أبنائه.

لنتعلم من الأطفال الأبطال في حلب الذين ابتدعوا وسيلة لمواجهة عنف مادي يستهدف طفولتهم وذويهم، كيف يمكن استنفار الفكر لمواجهة عنف رمزي أكثر قسوة، ساهمنا نحن قبل غيرنا -بقصور أدواتنا النظرية والعملية، وبتسبيحنا بحمد الديمقراطية بدون تحويلها إلى ثقافة- في جعله واقعًا.

كما أحرق الأطفال الدواليب؛ لكي يشوشوّا على طيران العدو، علينا أن نحرق ماضيًا طائفيًا يفرح عدونا باستحضاره؛ لكي نشوّش على أصحاب العقول المتحجرة، والنوازع الثأرية المريضة غاياتهم التي يمكن أن تهوي بنا وبوطننا في غور سحيق، لا نستطيع أن نتسلق جدرانه، لكي نتنسم عبير الحرية التي ثرنا لأجلها.

رئيس التحرير