كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

حوليات التاريخ الغربي، العسكري والسياسي والإمبراطوري على وجوه أخص، وحوليات التاريخ الروماني القديم بصفة خاصة، تحفل بحفنة غير قليلة من أباطرة جمعوا الطموح الشخصي المفرط، إلى هذا المستوى أو ذاك من مظاهر الهستيريا وجنون العظمة وبُغْض الديمقراطية. في طليعة هؤلاء، كما يًجمع المِؤرخ البريطاني الراحل شون لانغ، يعثر المرء على أمثال تايبيريوس (14ـ37 م)، غايوس كاليغولا (37ـ41)، نيرون (45ـ68)، كومودوس (180ـ192)…
وقد تعترض غالبية من أنصار الرئيس الأمريكي المنتهبة ولايته، دونالد ترامب، على تمثيلات يمكن أن تضعه في لائحة عنوان هذا العمود، بالنظر إلى أن أمريكا الراهنة ليست روما القديمة (وهذه مسألة فيها نظر، غنيّ عن القول)؛ أو إلى أنّ الديمقراطية الأمريكية، اليوم، ليست النظام السياسي الذي تسيّده وقاده الأباطرة أولئك؛ أو، ثالثاً، لأنّ ترامب لم يعطّل المنظومة، بدليل أنّ الانتخابات الرئاسية جرت في نهاية الأمر ورغم الشكوك الكثيرة حول احتمال بلوغها برّ الأمان، ويستزيد هؤلاء من واقع أنهم ليسوا محض أنصار للرئيس الأمريكي المنصرف بل هم جمهوره الذين تغذوا على أفكاره: ألم يحصل ترامب على أقلّ قليلاً من 53 مليون ناخب في التصويت الشعبي خلال انتخابات 2016، وها أنه في الانتخابات الأخيرة يحصد ما يقلّ قليلاً عن 74 مليون صوت؟
والحال أن السهولة التي يجدها المؤرخ الغربي لجهة احتساب حفنة الأباطرة المشار إليهم في الفقرة الأولى، ليست البتة ناجمة عن ضعف جماهيريتهم إذْ كان العكس هو الصحيح في الواقع، أو لأنّ هذا أو ذاك بينهم لجأ إلى ممارسات شاذة أو غير منطقية (مثل الصورة السائدة عن غايا في أنه كان يستهوي إهانة مجلس الشيوخ (قال إنّ حصانه، إذا ترشح ذات يوم، سيكون أفضل أعضاء المجلس)، أو خرافة لجوء نيرون إلى العزف على القيثار مستمتعاً بمشاهدة روما تحترق)؛ بل لأسباب أخرى أشدّ تعقيداً وعمقاً وتتصل بحُسن أو سوء تدبير شؤون السلطان الإمبراطوري، وعقلانية بعض القرارات الفاصلة والمفصلية ذات الأثر التخريبي المباشر على حياة الإمبراطورية وشعوبها.
ويخطر لي شخصياً أنّ ترامب ساعة مغادرة البيت الأبيض إلى مستقبل آت، قد يقدّر أنّ أبسط خياراته أن يترشح للرئاسة في انتخابات 2024، ولكن هذا خيار دونه خرط القتاد لأسباب عديدة سوف يبدأ أهمها من حقيقة الموقع الذي سيحتفظ به في صفوف الحزب الجمهوري، ومدى استعداد الجمهوريين، أعضاء عاديين أو ناخبين أو أعضاء نواب وشيوخ، في الاصطفاف المطلق خلفه كما فعلوا طوال أربع سنوات مضت. أسباب ليست أقلّ أهمية ستنبثق من معارك القضاء الأمريكي التي ستحيط بترامب إحاطة السوار بالمعصم، حيث لا حصانة رئاسية هنا أو مناعة قضائية بل استشراس وإلحاح في الترصد وإحقاق قضايا تمّ السكوت عنها أو تأجيلها بسبب سلطة سيد البيت الأبيض طوال الفترة السابقة.
كذلك يخطر لي أن ترامب إذا غادر محفة الإمبراطور غايوس كاليغولا (الذي أدمن إهانة مجلس الشيوخ لسبب أو بلا سبب، وأصدر أمراً إلى جنوده بطعن الأمواج بالسيوف لأنه بذلك يهين الإله البحري نبتون)؛ فسوف يختار قيثار كاليغولا من دون سواه، رغم أنّ الأسطورة كذبت حين نسبت إليه الحريق والقيثار وهو منهما بريء كما يقول التاريخ الفعلي خارج الأسطورة. كان نيرون يتلذذ بالعزف على خرائب روما، وهكذا بات ترامب بعد اتضاح نتائج الانتخابات الأخيرة، إذْ لم يعد عنده هاجس أكثر طغياناً من إلحاق المزيد من الخرائب في بنية الديمقراطية الأمريكية ونظامها الانتخابي الشائخ على وجه التحديد.
ولأنّ “الحقيقة صعبة، والضحالة سهلة”، كما يستخلص الآلاف من أنصار ترامب، فإن”رئيسهم الذي انتخبوه بحماس إنجيلي في سنة 2016، وتشبثوا بنظرية التآمر عليه في صناديق الانتخابات سنة 2020، سوف يثبت خلال سنوات 2021ـ 2024 أنه قادر على العودة، بعزيمة أكثر صلابة وقوّة أكثر رسوخاً: “هل كان رونالد ريغان أو جورج بوش الابن أعلى في المستوى الفكري من رئيسهم؟” يتساءل الغلاة من أنصاره، وفي هذا الصدد تليق بهم إجابة واحدة: نعم، وأيم الله! كانوا، وبما لا يُقاس من الدرجات!.