لم يكن الطبيب الشاب المعتقل في سجن تدمر مدركاً سبب كراهية ذلك الرجل القابع معه في المهجع نفسه له، وازوراره عنه كلما أراد أن يوجه إليه الحديث، ولكنه دهش أن هذه الكراهية بلغت بصاحبها مبلغاً جعله يرفض مساعدة الطبيب له عندما أنهكه المرض ويصرخ في وجهه قائلاً: اغرب عن وجهي أيها الظفيري! أشرف لي أن أموت من أن تكون أنت سبباً في بقائي على قيد الحياة.

لم يكن الطبيب قد سمع من قبل من يخاطبه بهذا اللقب الذي ينسبه إلى قبيلته (الظفير) التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية منذ عشرات السنين واستقرت في مدينة دير الزور حسب ما روى له جده.

ولكن غموض الموقف تبدّد عندما تابع الرجل المريض قائلاً: كان جدك عدواً لجدي، ولا يمكن أن أصدق أن ظفيرياً مثلك يمكن أن يشفق على شمّري مثلي.

يا لهذا البدوي المسكين! قال الطبيب (المعتقل على خلفية انتمائه لجماعة الاخوان المسلمين)، إنه لا يزال يعيش معارك اجداده بكل جوارحه، ورغم ظروف الجحيم الذي نعيشها في هذا المعتقل البشع، ورغم وحدة المعاناة التي لا يحتملها بشر فإن أحقاده اقوى من أن تغالبها وحدة الحال والعذاب الذي نتجرّع مرارته سويّة.

في كتابه «حزب البعث العربي»، يذكر جلال السيد بشفافية أن نجاحه في الانتخابات البرلمانية عام 1949 ممثّلاً لحزب البعث العربي لم يكن منفصلاً عن الثقل العشائري الذي يتمتع به في محافظة دير الزور، وأن الدعم العشائري كان له دور لا ينكر في تغلّبه على منافسيه في المنطقة.

وفي مذكرات ياسين الحافظ، يشير الأخير إلى أن السمة العشائرية كانت ظاهرة بشكل نافر في مدينة دير الزور، وأنه منذ نعومة أظفاره كان يسمع من أبيه تصنيفات للأفخاذ والعشائر والقبائل وفق سلّم تفاضلي متعارف عليه آنذاك.

في تلك الفترة، في الخمسينات والستينات، كانت ثمة بوادر على اختراق البنية القبلية بنشاط تجاري وسياسي وفكري يقوم بنفيها نفياً جدلياً، بتجاوزها من دون إلغائها، إلى بنية أكثر مدنية.

واستطاع الأول من الرجلين أن يحقق، بما عرف عنه من عملية، قدراً من الاختراق لهذه البنية من طريق تسييس بعض الشخصيات القبلية المعروفة. وهي المحاولة التي افتقرت إلى مقومات الاستمرار بسبب البنية الدوغمائية للفكر السياسي البعثي الذي كان الرجل يحمله وهو الفكر الذي استثمرت دوغمائيته لاحقاً من قبل المتسلقين من أجل إقصاء المخالفين وجعل الوطنية صفة ملحقة بالمنتمين إلى حزب البعث.

واختراق البنية القبلية بنشاط سياسي فكري اقتصادي، سدّت أمامه المنافذ بعد ذلك بمجرد تسلّم حزب البعث السلطة، حيث عمل الانقلابيون على تكريس أكبر لهذه البنية وعزلها عن كل المؤثرات باستثناء الأقنية المفتوحة مع النظام وأجهزته الأمنية. وقد أصبح هذا نهجاً مقصوداً أكثر بعد ما سمّي بالحركة التصحيحية في 1970.

يعمل الاختراق الإنتاجي التراكمي مع ما يترافق معه من تفتيق للوعي السياسي والاقتصادي على تطوير البنية إلى مستوى نوعي أمسّ رحماً بالمدنية، ويخرجها من حالة الانغلاق على التأثيرات المتنوعة.

كان الظفيريّ معادلاً موضوعياً لحالة القفز على الانتماءات الطبيعية بما فيها الانتماء إلى الوطن والاستبدال بها انتماء إلى أمة متخيلة، بعد أن غيّب نظام الاستبداد مفهوم الوطن إلا على سبيل البلاغة الخطابية الزائفة، وأخلى الساحة لكي يستفرد بها فكر الأمة والجماعة، بينما كان الشمريّ نموذجاً متعيّناً للبنية القبلية التي لم يستطع حتى جحيم سجن تدمر الرهيب أن يصدّعها ويرخي روابطها التي استحكمت حلقاتها لكي تخنق عقل ووجدان كل منتم إليها.

نظام الأسد الأب الذي دفع بالمجتمع نحو المجهول بعد الهزّة العنيفة التي أحدثها بعنفه غير المسبوق في أحداث الثمانينيات، ونظام الأسد الابن الذي كرّر هذا الدفع نحو المجهول على نطاق أكبر وبطريقة أكثر همجية وعنفاً هو المسؤول الأكبر عن تكريس أوهام الشمّري، وهو المسؤول عن تغييب مفهوم الوطن لكيلا يجد الظفيريّ بديلاً سوى الجماعة والأمة.

سيظلّ الوطن غائباً ما لم يقض على هذا الكابوس الذي استطال زمنه، وسيظلّ وطننا نموذجاً مكبراً عن سجن تدمر الصحراوي الذي يتخندق فيه القبلي بأوهامه والإسلامي بغفلته عن الواقع ما لم نجهز على السجّان ونلق به إلى مزبلة التاريخ حيث المكان الذي يليق به.

هيئة التحرير