إلى الرأي العام

دلّلت ثورتا السودان والجزائر وبعدهما العراق ولبنان، إلى أن موجةً ثانيةً من الربيع العربي قد انطلقت، وأحيت الأمل بأنّ هذا الربيع سوف يعم كامل الوطن العربي والشرق الأوسط دون استثناء، وإن كان  توقيته مرهوناً بدرجة التفاعل الداخلي في كل دولة وحِدّة أزماتها؛ وإذا كان لا يسع الإنسان السوري سوى أن يغبط الشعب السوداني على نجاح ثورته بأقل قدرٍ من فاتورة الدم والدمار والتهجير، قياساً بالمقتلة التي عاناها بتواطؤ وصمتٍ دوليين غير مسبوقين، فإن هذا التفاؤل يبقى حذراً لأن المؤسسة العسكرية مازالت جزءاً فاعلًا من النظام الجديد، مما قد يشكل خطراً على مستقبل الديمقراطية في السودان. أما في الجزائر، فإنه وعلى الرغم من المشاركة الواسعة لأغلب فئات الشعب الجزائري بالمظاهرات السلمية المتواصلة، فإن الخشية من أن تدفع الطغمة العسكرية المهيمنة باتجاه خيارات أمنية مؤلمة، تبقى قائمة في حال فشلت محاولاتها للالتفاف على الثورة ومطالبها.
إن ثورتي لبنان والعراق من طبيعة واحدة،  وتواجهان تحدّيات من ذات الطبيعية، وهي عبارة عن أذرع ميليشياوية مسلّحة تتبع إيران عقيدة ودوراً وتوجيهاً، وهي تمارس في العراق عنفاً دموياً مفضوحاً وقابلاً للتصعيد،  وتسعى بتوجيه إيراني لقمع الثورة على الطريقة التي مارسها سليماني في مدن إيران التي انتفضت مؤخراً، أو أن تدفع لحرب أهلية شيعية شيعية، واستفزاز وتعويم الحالة العشائرية على حساب دور الدولة والقانون،  في حين تبدو هذه القوى في لبنان مغلولة اليد حتى الآن بحكم وضع لبنان الخاص في المرآة الدولية الحريصة على عدم انجراره نحو الفوضى والحرب الأهلية، حرب لا يمانع فيها حزب الله وحلفاؤه ومشغّلوه بعد انكشاف  دوره وتراجع نفوذه، ويتبدّى الدور الأوربي والفرنسي على وجه التحديد بالدعوة لمؤتمر المانحين في باريس للمساعدة في إنقاذ لبنان من الانهيار المالي المحتمل، رابطاً هذه المساعدة بتشكيل حكومة موثوقةٍ محلياً ودولياً وقادرةٍ على تقديم حلول، وعلى الرغم من البرود الأميركي، فقد ظهرت هذه الإرادة  الأوربية في القرار غير البريء للتيار الوطني الحر، بأخذه مسافة من حلفائه حزب الله وحركة أمل بعدم المشاركة في الحكومة القادمة وعدم تعطيلها.
  إن ما يجمع بين ثورات الموجة الثانية، هو أنها ثورات سياسية في مواجهة أنظمة استبدادية فاسدة عسكرية كانت أم مدنية، ترفع شعارات اجتماعية ضد الجوع والبطالة والفساد الذي وقعت ضحيته، مع كثافة وتنوع الشرائح السكانية المشاركة فيها، وعلى وجه الخصوص بروز دورٍ واسع للمرأة في هذه الثورات، أكثر من المشاركة التي لم تعدمها ثورات الموجة الأولى.
  إن أي إنجاز تحقّقه ثورتا العراق ولبنان في مواجهة الهيمنة والتدخّل الإيراني في عموم المنطقة، وما سببه من قتل وخراب وتهجير، يصبّ في أهداف ثورة الشعب السوري التي أعيقت بإرادة دولية ظالمة، وعانت من قتلٍ وتهجيرٍ إيراني فاجر، وإن أيّ تراجع للمشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، يخفف من فاتورة الدم، ويفتح الطريق أمام وقف الصراعات الدائرة وتسهيل الحلول السياسية، نظراً لأن ملفات المنطقة بحكم تعقيداتها وحجم التدخل الدولي والإقليمي فيها باتت مترابطة وحلولها مترابطة أيضاً.    
  على الصعيد السوري فإن الإرادة الدولية لوقف الصراع وتفعيل حلّ سياسي مقبول مازالت معطلة، ولم تظهر حتى الآن أية مؤشراتٍ على أن تفاهمات دولية ما قريبة الحصول، مما يؤكد وهم المراهنة على حلّ سياسي قريب برعاية دولية، ليس لأن النظام وحلفاءه يعرقلون مثل هذا الحلّ، لفرض حلولهم الخاصة، بل لأن معادلات الصراع الدولي الدائر على الجغرافيا السورية، صارت بحاجة إلى كسر للخروج من حالة المراوحة والاستنزاف؛ فالدول الأربع التي تحتل سورية، مازالت تعمل بسياسة إدارة الأزمة، غير عابئة بمعاناة الشعب السوري،
وعلاقاتها متداخلة واتفاقاتها هشة، مؤقتة، وحتى أهدافها لم تعد واضحة ومضمونة؛ ليس أدلّ على ذلك من الاتفاق التركي الأميركي والتركي الروسي بخصوص المنطقة الأمنية شرق الفرات، الذي سمح بالتدخل التركي الذي سمي عملية نبع السلام فيها، والانسحاب الأميركي منها، ومن ثم تقطيعها بمناطق أعيدت للنظام؛ في حين مازالت طائرات الروس تقصف مناطق جنوب وشرق إدلب وشمال شرق اللاذقية لدعم قوات النظام وحلفائه للسيطرة على الطريق الدولية  m4 وm3 وتأمينهما. كل هذا مع ارتكاب جرائم فظيعة بحق المدنيين، وعمليات تهجير واسعة لهم، ودون استدعاءٍ من أفرقاء أستانا في اجتماعهم الرابع عشر بتاريخ 10/12 ديسمبر كانون أول الجاري في كازاخستان، لأية مواقف تحمي المدنيين من القتل، وكان بيانهم الختامي دالاً بلغته العمومية ووعوده الوهمية على فشله كما اجتماعاتهم السابقة. وفي هذا السياق وتبديداً لبعض اللغط الذي ربط بين التدخل التركي شرق الفرات وانهيار مشروع “قسد”، فإن أيّ متتبع يعي أن مشروع قسد أفشلته كما كان متوقعاً إرادة دولية وأميركية بالأساس، لم تذهب خياراتها إلى حدّ دعم قيام كيان كردي مستقلّ في أيّ من الدول الأربع التي يتواجد فيها الأكراد، إضافة إلى أن ممارسات قسد الوحشية بحق الأكراد والعرب، وانتهازيتها السياسية الرخيصة، سرّعت بهذا المآل، لأن اللعب على أكثر من حبل ومنها حبل النظام سيرمي المتشاطر على وجهه، لذلك  من الضروري تجديد الدعوة لمن غادر الثورة من الأخوة الكرد بالعودة إلى حضن الثورة السورية والنضال المشترك من أجل سورية ديموقراطية لكل مواطنيها، فالقضية الكردية كانت ومازالت قضية وطنية سورية بامتياز.
  وحده النظام يدعي واهماً أنه انتصر، في الوقت الذي بات فيه قراره وسيادته المدّعاة مغتصبة على المكشوف من قبل داعميه الروس والإيرانيين، وصار عاجزاً عن تأمين الاحتياجات والخدمات في مناطق سيطرته، وتتفاعل الأزمات الاقتصادية بحكم انهيار العملة وتعطل دورة الاقتصاد وتفاقم الفساد،  وتراجع اقتصاد الحرب الذي كان يفيده، وتبخر الدعم الايراني والعراقي المالي بحكم العقوبات الخانقة على إيران، ومن غير المعروف كيف ستتفاعل الأزمات في مناطق سيطرته وردود أفعال الناس الذين قرصهم الجوع والحاجة، لأنه ليس لدى النظام القدرة ولا الرغبة في تقديم حلول للوضع المعاشي سوى مفاقمة الإجراءات الأمنية التي يجيدها.
  على صعيد المعارضة، السياسية منها أو المسلحة، وفي مؤسساتها التمثيلية، ليس الوضع بأفضل، فهي الأخرى التي استهوتها الفصائلية والمشاريع الحزبية الضيقة والانتهازية السياسية باسم الواقعية، باتت رهينةً بيد الأطراف الخارجية، وغاب عنها موضوعياً أو قصدًا المشروع الوطني، الذي قامت من أجله، حتى باتت الخشية واردةً من أن يتحول السوريون نظاماً ومعارضة إذا ما استمر الصراع، إلى مجرد أداة في حروب الوكالات، التي قد تحتاجها الدول المتدخلة لحسم صراعاتها.
  ولم يعد ترفاً القول إنه للخروج من الحالة المأساوية التي آلت إليها أوضاع السوريين نتيجة خيارات النظام الأمنية وتدويله الصراع، لابد من العودة إلى خيار الاستقلالية عن الدول، والالتفاف حول مشروع وطني يجمع كل السوريين على تنوعهم، وهذا يحتاج إلى جهود ضخمة وصادقة لإنجازه، علّه ينقذ البلد ومواطنيه من دوامة القتل والتدمير المفتوحة، ويعيد للشعب السوري قراره المفقود.
تحية لأرواح الشهداء
عاشت سورية حرة وديمقراطي
دمشق في 16/ 12/ 2019

                                   الأمانة العامة لإعلان دمشق 

                                للتغيير الوطني الديمقراطي