هي حرب الحروب.. ومن المسلّمات القول إن القضية السورية لم تعُد محصورة في السوريين وحسب، بل كبرت لتكون همّاً عالمياً، حاضرة في قلب صراع جيوسياسي يزداد تعقيداً بازدياد احتمالات انفجاره وتطوّر الوضع –ربّما- إلى حرب إقليمية، هي إحدى مُخرجات حرب باردة جديدة بدأت ترفع رأسها معلنة حضورها. وعلى الرغم من ذلك لا تجد مَن يقف مع شعبها، كأنما لحم ودم أطفالها من تركيب لا يشبه تركيبه في أي طفل في العالم!
سورية أشهى المواقع لتصفية حسابات الكلّ مع الكلّ، فالملفّات العالقة تنتظر دورها لتأخذ رقمها في أولويّة التداول، من أوكرانيا والقرم والعقوبات الاقتصادية، ومقتل الجاسوس الروسي الذي سيفتح ملف الكيماوي والمقاطعة الدبلوماسية الآن، إلى نووي وصواريخ إيران التي بدأت تطال السعودية عبر الحوثيين، إلى تغلغل داعش في إفريقيا! وعمّا قريب ستُفتح ملفّات ظهور القاعدة بثوب داعش أو غيرها في آسيا! ولهذا تتشابك المصالح وتتقاطع حيناً وتتضارب حيناً آخر مع هذا الطرف أو ذاك، فتتغيّر التحالفات، وتتباين الاصطفافات، وتُفتح الجبهات لولادة حرب جديدة، ما تلبث أن تحقّق جزءاً من أهدافها؛ لتفتح ملفّاً آخر، كان أو لم يكن في حسبان المتصارعين، يُنجب حرباً أو يدفع لإيجاد قضية تدفع باتّجاه حرب، فيدفع البعض ثمن ضعفه أو حساباته التي لم تنطبق على بيدر حصاده.
هي حرب الحروب.. أمّا استخدام النظام للغازات السامة في أي هجوم، فسيكون قراراً غير حكيم، كما قال وزير دفاع أمريكا “ماتيس”! فيزيد النظام هيجاناً، ويمطر الغوطة بالبراميل والصواريخ والقذائف من كل العيارات، مصحوبة بالغاز السامّ!
لم يبقَ أحد في العالم من أقصاه إلى أقصاه لم يرَ ما يحدث أو يسمع عمّا يجري في سورية؛ وربّما يشارك في التحليل والتركيب والتعليل والبرْهان والاستقراء والاستنتاج، ليصلَ إلى حالة التنظير والتأطير متناسياً -عن عمد- أن ما يتحدّث فيه ليس مجرّد جغرافيا اكتُشِفت حديثاً، ويُعمل على أنسنَتها لتكون جديرة بانتسابها إلى عالم جديد.
تنعقد هذه الحروب.. بينما تفرض روسيا عطلة إجبارية على مجلس الأمن رهناً بأجندتها التي قرّرت تنفيذها عبر سورية متحالفة مع كل الأطراف؛ لتوسيع نفوذها وبالتالي حصّتها، ومتناقضة معها؛ لإجبارها على خيارات مكروهة فتتنازل عن حقّ لها، لمن ليس له حقّ، والعالم موهوم بإطار الفرجة المسرحيّ. وكأنّما الجميع قد استأجر هذه الحرب، ووظّف كلّ الأدوات لإنجاز حربه لهدفه، بدءاً من توماهوك مروراً بمرتزقة فاغنر وعصائب الحقّ وفاطميّون، وميليشيات PYD- PKK، وانتهاء بمأجوري كلّ المدن السورية! فأولغ الجميع بالدم السوري دون أن يخسر قطرة من دمه.
لقد تورّطت القوى الإقليمية والدولية في بازار الدم أملاً بنصيب أكبر، دون أن تخسر، وفقاً لأسعار البازار، وتبيع وتشتري، بالمفرّق والجملة، بتقسيط مريح حيناً، وأحياناً عدّاً ونقداً، وتارة بتبادل المواقع كما المناطق، على مبدأ حُكّ لي لأحكَّ لك، وثمة مَن يدخل البازار كيلا يكون غير مشترٍ بالدين الآجل طويل الأمد.
فإذا كانت القوى الدولية تريد مناطق لنفوذها، فإن القوى الإقليمية تعمل لاستمرار وجودها، وهنا يكمن أحد محاور التعارض الكبرى، فكلّ الأطراف تعمل على قاعدة فريق نزع الألغام “خطؤك الأول هو الأخير”.. يختلفون في تصنيف ذيولهم وتوابعهم، فما تراه موسكو إرهابياً تراه تركيا معتدلاً وتراه واشنطن صديقاً، بينما إيران تنتظر رسوّ المزاد لتعلن موقفاً بسعر أقلّ أو أكثر.. ويعود الاصطفاف وانتظار رمي النرد لتحديد داخل الحلبة الجديد أو الخارج بلا وصف، ففضّل الهزيمة بالنقاط في منازلة تجاوزت القدرات والمألوف..
لا طرفَ ينتصر إلا ويترك خلفه وحوله أطرافاً ستعاني من استنزاف قد يطول.. واستنزاف حرب كالحروب السورية لا قرار لغوره إلا برفع بعض الأطراف راياتها البيضاء. وسلام المنتصر في أي حرب من حروب سورية يؤسّس لبازار جديد. فالمساومة في بازار اليوم تسمح لبعض اللاعبين نقل بيادقهم، وتعطي غيرهم فسحة البقاء بانتظار سعر أفضل في لعبة الاقتلاع والتهجير، وهو ما حصل منذ باباعمرو، ويحصل في الغوطة الشرقية الآن. فالكلّ سيعمل على وَكْز الكلّ أو نَكْزه إن اضطرّ.. لأن لكلّ طرف إستراتيجيّة يريد تحقيقها.. فأمريكا تَكِز روسيا وإيران وتركيا والسعودية والنظام السوري وتوابعهم من مرتزقة وميليشيات، وتنكز الجميع بذراعها الكردية التي أرستها على الأرض عماداً تبني عليه مرتسمات نفوذها القادم، للتحكّم والسيطرة. وروسيا تَكِز أمريكا وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل والنظام السوري وتوابعهم من مرتزقة وميليشيات، وتنكز الجميع بضربها عرض الحائط بالقرارات الأمميّة، وبتواجدها المباشر وتجارب سلاحها وبنظام لا يمكنه الوقوف دون تواجد الظلّ الروسي. أمّا إيران فتَكِز إسرائيل وأمريكا وروسيا وتركيا والنظام والسعودية، وتنكز داخلها المضطرب. وأمّا تركيا فَتَكِز أمريكا وإسرائيل والسعودية وروسيا والنظام، وتنكز الأكراد” داخلها وخارجها ” من سنجار إلى عفرين مروراً بقنديل وداخلها ما بعد الانقلاب.. وأمّا إسرائيل فلا ينفكّ وكزها ونكزها لجميع اللاعبين يتوقّف؛ لأن مجريات كل الحروب تصبّ في صالحها، ولتجعل منها لاعباً رئيساً، يملك قراراً في سورية كغيره. وأمّا النظام فهو الموكوز المنكوز منذ أول رصاصة أطلقها في مواجهة الخارجين على طاعته، وقرّر إحراق البلد.
والكلّ له استطالاته وأذرعه، فما لتركيا قُرّب من حدودها، وما لإيران تموضع تحت راياتها، وما للروس يستحمّ بحماية مخابراتها وقواعدها، وما لأمريكا تحوفه الرعاية والدعم، وما للسعودية يُرفع على الرفّ انتظاراً، وما لإسرائيل سيستظلّ بفيئها ريثما يرتسم دوره..
الجميع حربه ضدّ الشعب السوريّ وحسب، و يخشى الحرب مع الآخر، فلا أمريكا ولا روسيا ولا تركيا ولا إيران ولا إسرائيل ولا النظام تريد حرباً مع أيّ من الأطراف التي تنفّذت، بل تتجنّبها، وتدفع استطالاتها لتحقيق المكاسب لها غالباً، وتحسين تموضعها، بالدم السوري، وإن اضطرّ طرف لوكز آخر أو نكزه، فغالباً ثمة اتفاق ضمنيّ للتخريج والتسويغ؛ فروسيا تريد النفط والغاز، وإيران تريد طريق طهران لبنان، وتركيا تريد إبعاد الكرد عن تحقيق أحلامهم على حدودها الجنوبية، والثلاثة تراودهم أحلام تاريخ مضى، يعملون على استعادته، وإسرائيل تريد سورية ضعيفة مفتّتة تخلو من نفوذ إيران على حدودها، أمّا أمريكا فتريد ألا يمرّ شيء دون إرادتها والتنسيق معها، وحجّتها الحرب على الإرهاب، وتقليم أظافر إيران، وإعادة روسيا إلى حجمها الطبيعي خالٍ من الوهم، بحرب باردة أو ساخنة.
هي حرب الحروب.. لأن خارطة صراعاتها ومآلاتها أكثر تعقيداً ممّا يُظنّ! فقد وصل الأمر حدّ استعصاء الحلّ، فالقواعد العسكرية التي أقيمت على عجل، وقوات الفاعلين ومرتزقتها في بلاد مزقتها الحرب، وتقسّمت إلى مناطق نفوذ، تدوّر صراعاتها وتفاهماتها وتحالفاتها واتفاقياتها فيما بينها؛ لتنتج صراعات جديدة أوسع، تمهّد لانزلاق قوى جديدة، وفتح مسارات آلام سوريّة لا تنتهي، إذ الجميع أضحى زبوناً دائماً في بازار الدم السوريّ.