صرخت بصوت عالٍ اهتزت له جدران البهو ثم أجهشت بالبكاء، بعد لحظات من خروجها لجلب وجبة الغداء على اعتبارها “شاويشة” المهجع.
اقشعرت أبداننا رعباً وتجمّدت كل منا في مكانها، بداية اعتقدنا أن السجان تناولها بضربة من سوطه كما جرت العادة إن تلكأت في إجابتها على سؤال ما، أو تأخرت عن استلامها وجبة الطعام، لم تقوَ أي واحدة منا على النهوض كي ترى ماذا يحدث في الخارج، استجمعت قواي، تجرأتُ ووقفتُ، ثم سرقت خطوة باتجاه الباب، ورحت أختلس النظر بما تبقى لديّ من شجاعة.
كانتا جسدا واحدا يركع على أرض الممر، يبحث بهستيرية الأعمى عن موطئ قبلة ينهشها كالجائع الضائع، أضاف ذهول مدير السجن ودهشة السجانيين على المشهد قدسية نادرة الحدوث في ذاك المكان، لم يطل توقف الزمن انتهت الغفلة بسرعة اللحظة.
صارخاً مسرعاً، متصنعاً عدم الاكتراث، أقدم السجان على كسر توحّد الجسدين، أمر الفتاة أن تدخل مهجعها بسرعة، فيما حملت تغريد وجبة طعامنا وعادت ترتجف وتئن بصوت مخنوق، وأنفاس متقطعة، دخلت ثم انهارت على الأرض كورقة شجرة أسقطتها الريح، عَلا بكاؤها حاملاً كلمات مكسّرة وأحرفا مبعثرة، أوضحها كانت عبارة كررتها عديد مرات..”كنا نظنها ميتة”.
في التاسعة عشرة من عمرها اختفت سلمى، كانت تحضّر لتقديم امتحان الشهادة الثانوية، بحثنا عنها كثيراً، لم نعثر عليها ولم نسمع عنها أي خبر، ظن والداي بعد انقضاء سنة ونصف على اختفائها أنها ميتة، فأقمنا لها مراسم عزاء رسمية.
قضت تغريد في فرع الأمن العسكري بإدلب ثلاثة أشهر، ثم نقلت إلى فرع الأمن العسكري في محافظة حماه، حيث قضت فيه ليلتين، ومن ثم نقلوها إلى معتقل “الباولوني” في الشرطة العسكرية بحمص حيث تعرضت للضرب المبرحـ “كانوا ع الطالعة والنازلي يضربوني”، أسمته تغريد “فرع الشياطين”.
عقب حفل التأبين، رغب زوجها دفن أخيه الضابط في جيش النظام ببلدته ومسقط رأسه في ريف إدلب، البلدة المحررة حديثاً من قوات النظام الخاضعة لسلطة الجيش الحر، وبعد أن أصبح الزوج هناك خشي العودة إلى مدينة إدلب، بعد تلقيه تهديدات بالاعتقال والقتل، فاّثر البقاء فيها من أن يعود.
كانت تغريد وفي عطلة نهاية الأسبوع تصعد إلى البلدة لتزوره هناك، ثم تعود وتكمل عملها كرئيسة لقسم التمريض في المشفى الوطني بمدينة إدلب. وصباح يوم أحد بينما كانت تشرب قهوتها الصباحية في مكتبها، فوجئت بعناصر من الأمن المدججين بالسلاح، اقتحموا مكتبها وطلبوا منها أن تذهب معهم لساعة فقط تستطيع العودة بعدها لتكمل دوامها.
نفت تغريد مراراً اتهامها بنقل المعلومات للجيش الحر، وكانت تكرر لسائليها باستمرار أن زيارتها لزوجها في البلدة بإذن ومعرفة مدير المشفى ولأسباب خاصة اضطرت إلى شرحها لهم بالتفصيل فيما بعد، موضحة سبب الزيارة.
كانت المرأة حبيسة زنزانتها المنفردة، بعد كل تحقيق ولشدة رعبها من المحقق تنزف دماً، ما اضطرها تمزيق خرق من عازل النوم الوحيد المصنوع من الكتان الخشن القذر الملوث واستخدامه لتخفيف نزيف دمها، وحدث في إحدى المرات أن كان نزيفها قوياً، فغابت عن الوعي لمدة لم تستطع إدراكها.
لم يكن جَلدها ودوس المحقق على جسدها المرمي على أرض غرفة التحقيق أصعب من كلماته لها وهي التي لم تنجب حتى الآن: “أنت تحت رحمتي وباستطاعتي أن أحرمك من الإنجاب مدى الحياة، أصلا أنت كبيرة في السن وعقيمة ولا يمكنك الإنجاب بعد الآن”.
عندما دخلت تغريد مهجعنا بفرع فلسطين ليلاً. كانت مبتسمة، قوية، وبدأت تحاول إضحاكنا بأحاديثها الطريفة وأسلوبها المرح، كانت على ثقة بأنها ستخرج بإخلاء سبيل دون أن تعرض على محكمة الإرهاب، وذلك لشدة يقينها ببراءتها.
في لحظة توقف الزمن تلك، شاءت الأقدار أن تُطلب سلمى للتحقيق لحظة خروج تغريد لإدخال وجبة غدائنا الرخيصة، فكانت أثمن لحظات حياتها.
لحظة التقاء تغريد بأختها سلمى، بددت وحشة المعتقلات، وخلقت معنى جديدا لخروجهن من المهجع حتى ولو باتجاه دورة المياة، لم تعد تغريد المرأة الوحيدة التي تحاول استراق النظر نحو مفاجأة ما. فذاكراتنا المشبعة بأسماء أعزاء نحسبهم من الأموات، توقفت أمام احتمال بعثهم من جديد.