بدأت آمال جهات حزبية سورية كردية في فرض إقليم ذي صبغة كردية في شمال سورية وشمال شرقها بالتلاشي، إذ إنه من الواضح أن الجيش التركي ليس بوارد السماح لهذا الإقليم بالظهور حتى لو اضطر لخوض معارك متلاحقة غربي نهر الفرات وشرقه، ضد الوحدات الكردية التي وضعت ثقلها في سلة واشنطن.
وتلقّى المشروع الكردي في سورية ضربة، عقب سيطرة الجيش التركي والجيش السوري الحر على منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية من السكان، ومن ثم بات وجود الوحدات الكردية برمّته غربي نهر الفرات معرّضاً للزوال، في ظل إصرار تركي على طردها من شمال حلب وشمال شرقها، حيث تل رفعت ومحيطها ومنبج وريفها. مع العلم أن حزب الاتحاد الديمقراطي سبق له أن وضع خرائط حول الامتداد الكردي على طول الحدود السورية ـ التركية وصولاً إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. وذهب أبعد من ذلك، مع بدئه تغيير البيئة الديمغرافية العربية.

وحاول الاتحاد الاستناد إلى الأميركيين في المشروع، علماً أن واشنطن تخلت مراراً عن الأكراد في سورية والعراق وإيران وتركيا على مدى العقود الماضية، ما شرّع الأبواب أمام قلق كردي على المستقبل. وسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي تحت غطاء “قوات سورية الديمقراطية” وبدعم أميركي مباشر، على نحو ربع مساحة سورية: كل منطقة شرق الفرات، أي “سورية المفيدة” بثرواتها المائية والزراعية والنفطية، كما انتشرت قواته في معظم مساحة محافظة الرقة، وكامل ريف دير الزور، شمال نهر الفرات، ومعظم محافظة الحسكة، باستثناء مربّعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة.

وباتت “قوات سورية الديمقراطية” مسيطرة على ريف حلب الشمالي الشرقي، شرقي نهر الفرات، ومدينة منبج وجانب من ريفها غربي النهر، وسلسلة قرى جنوب نهر الفرات الممتدة من مدينة الطبقة غرباً وحتى مدينة الرقة شرقاً، على مسافة أكثر من 60 كيلومتراً. المفارقة هي أن الأكراد في سورية أقلية ولا يشكّلون أكثر من 7 في المائة من مجموع السكان، كما أنهم لا يشكّلون أغلبية في محافظة الحسكة، التي تُعدّ أهم أمكنة تمركزهم في سورية. وتشير تقديرات إلى أنهم لا يشكّلون أكثر من 20 في المائة من مجموع سكان محافظة الحسكة، المترامية الأطراف والغنية بالثروات النفطية والواقعة تحت سيطرة “قوات سورية الديمقراطية”.

كما أن محافظتي دير الزور والرقة خاليتان من أي وجود كردي، ما خلا بعض القرى في ريف تل أبيض، في ريف الرقة الشمالي، ولكن للأكراد السوريين وجوداً فاعلاً في منطقة عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي، ويشكّلون غالبية سكانها. ولكن نقطة الضعف الكردية تكمن في أن مناطق انتشارهم الرئيسية في سورية هي امتداد جغرافي لمناطق الأكراد في تركيا، خصوصاً في عين العرب ورأس العين والقامشلي، ومن هنا فإن “منطقة شرقي الفرات هي أكثر خطراً على الأمن القومي التركي”، بحسب وصف أنقرة.

في هذا السياق، من المتوقع لجوء أنقرة إلى سياسة “النفس الطويل” في التعامل مع “قوات سورية الديمقراطية” في سورية، فهي سيطرت على عفرين، وكشفت عن نوايا للسيطرة على تل رفعت ومنبج، غربي نهر الفرات. ويبدو أن أنقرة في طور نسج خيوط تفاهم مع الأميركيين من أجل إنهاء دور “قوات سورية الديمقراطية” في شمال سورية، معوّلة على أن “واشنطن لن تتخلى عن تحالف مع دولة إقليمية فاعلة مثل تركيا مقابل تحالف مع مليشيا” بحسب ما يكرر حكام أنقرة.

من جهة أخرى، وفي مقابل مشروع حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يدفع باتجاه ترسيخ مبدأ الفيدرالية في سورية، والذي ترفضه المعارضة وتعتبره مشروعاً انفصالياً، يبرز مشروع كردي آخر يقوده المجلس الوطني الكردي الذي يضم أحزاباً عدة، وهو مرتبط بالمعارضة السورية ويدعو إلى حلّ سياسي للقضية الكردية ضمن حل أشمل يشمل القضية السورية برمتها.

في هذا الصدد، رأى المعارض الكردي رديف مصطفى، أنه “في سورية ثلاثة مشاريع كردية”، معدداً لـ”العربي الجديد” تفاصيلها، بالقول “هناك مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، والذي لا علاقة له بالقضية الكردية في سورية. وهو مشروع هلامي يتحدث عن أمم ديمقراطية ويعتمد على القوة والسيطرة”.

وأضاف أن “هناك أيضاً مشروع المجلس الوطني الكردي، الذي يتضمن اتحاداً سياسياً، وبالتالي فيدرالية على أسس قومية على افتراض وجود إقليم كردي في سورية. وهذا أيضاً غير قابل للحياة فعلياً لأسباب عدة، منها الجغرافيا التي تفصل بين المناطق الكردية، والوضع الجديد في عفرين، فضلاً عن العوامل السياسية والمحلية والإقليمية، والتوزع السكاني المتنوع للسوريين داخل سورية بشكل عام. وهناك المشروع الوطني الديمقراطي، الذي هو الحل، كما أعتقد، في بناء دولة مدنية ديمقراطية موحدة، وفق عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق الأكراد السوريين وباقي مكونات الشعب السوري من دون أي تمييز، ولأي سبب كان”.

بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن عزل الملف الكردي في سورية، عن أمثاله في العراق وتركيا وإيران، فمن الواضح أن الدول الثلاث مختلفة في ملفات عدة، ولكنها متفقة على ضرورة الحدّ من المساعي الكردية في إنشاء أقاليم، ربما تمهّد لوحدة كردية على الأقل سياسياً، ما يهدّد أمن هذه الدول.

ويؤدي التنافس الروسي الأميركي في سورية دوراً مهماً في تقدم المشروع الكردي أو تأخره، علماً أن للخلاف التركي ـ الروسي تأثيراً على ذلك، إثر إسقاط طائرة روسية بنيران تركية، في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015. إسقاط الطائرة كان سبباً لتمدد “قوات سورية الديمقراطية” إلى مناطق واسعة شمالي حلب. ولكن عودة العلاقات الروسية التركية إلى سابق عهدها سمحت للجيش التركي بالتوغل في الجغرافيا السورية في ريف حلب الشمالي الغربي، حيث عفرين معقل الوحدات البارز، كما أن واشنطن ظلّت على الحياد، سامحة للأتراك بمهاجمة الوحدات الكردية. وهو ما دفع إلى الاعتقاد بأن الورقة الكردية خاضعة للمساومة بيد الأميركيين.

وسبق أن عمدت واشنطن إلى دفع الأكراد لمواجهة تنظيم “داعش” حتى وضعت يدها على الرقة وجانب من دير الزور والحسكة، حيث آبار النفط والغاز والموقع الاستراتيجي الذي أتاح لها مراقبة الإقليم كله عن كثب. عليه، قد تسمح واشنطن لأنقرة بإبعاد “قوات سورية الديمقراطية” من الشريط الحدودي السوري التركي. مع العلم أن النظام لا يزال يأمل في استعادة السيطرة على مناطق الأكراد، وهو ما يفسر إبقائه على مربعات أمنية في القامشلي والحسكة، شمال شرقي سورية، وهو يتحيّن الفرص للعودة إلى الرقة وريف دير الزور، شمال نهر الفرات، ولكن طائرات واشنطن تمنعه.