مركز حرمون للدراسات المعاصرة

أولًا: مقدمة
شكّل انفجار مرفأ بيروت المدمِّر محطة أساسية في تحولات الوضع اللبناني، الذي يشهد ثورة منذ نحو عام، في محاولة من الشعب اللبناني الذي أنهكه الفقر والفساد للخروج بالبلد من أزماته وهشاشته، بحكم حالة التسلط والسيطرة التي فرضها “حزب الله” بقوة السلاح، وجعل فيها لبنان والشعب اللبناني رهينة لمشروع إيران وحرسها الثوري في المنطقة، على الأقل منذ 7 أيار/ مايو 2008 واتفاق الدوحة، الذي دفع بقية القوى السياسية اللبنانية إلى التسليم -تحت تهديد السلاح- لـ “حزب الله” بالسيطرة على لبنان، والتحكم في مفاصل الدولة اللبنانية، والتصرف بقرار الحرب والسلم نيابة عنها، والسيطرة على المعابر والمرافق الحيوية لخدمة مشروعه .
انفجار بيروت غير المسبوق في ضخامته، والدمار الذي خلّفه، سوف تتالى تداعياته، ولن تقف عند تحقيق محلي في الحادث، كما تحاول الطغمة اللبنانية الحاكمة، أو إذا ذهبت الأمور باتجاه تحقيق دولي، كما يصرّ اللبنانيون الموجودون في الشوارع الذين عبّروا عن عدم ثقتهم بأي تحقيق تجريه هذه السلطة، التي تحاول أن تحصر الحادث ببعد جنائي أو إهمال وفساد، والابتعاد به عن التحقيق القانوني والسياسي في جريمة سياسية بامتياز لدولة وأجهزة أمنية وإدارية، لم تستطع أن تقوم بواجبها حيال تخزين مواد خطرة في منشأة مدنية حيوية، بسبب سيطرة “حزب الله” أمنيًا على الميناء، كذلك لن تقف عند استقالة بعض النواب، وتاليًا حكومة حسان دياب التي عجزت عن القيام بأي من الإصلاحات التي وعدت بها أو ادعتها، بحكم الطريقة والتوازنات السياسية التي أتت بهذه الحكومة، والخطوط التي رُسمت لها من قبل الطبقة السياسية المتحكمة في لبنان، وعنوانها الأبرز تحالف “حزب الله” و”تيار الإصلاح والتغيير” الذي يقوده عون منذ العام 2006، الذي عُرف باتفاق “مار مخايل”، ويحظى برعاية إقليمية ودولية لحسابات ومصالح تتجاوز لبنان، وتتعلق بملفات المنطقة المتفجرة وتعقيداتها وصراعات النفوذ والهيمنة على منطقةٍ تشكو من فراغ قوة مزمن. والسؤال الأساسي الذي يفرض نفسه يتعلق بالأبعاد التي يمكن أن يذهب بها الحادث للوضع اللبناني برمته، محليًا وإقليميًا، وهل سيشكل الحادث نقلة نوعية تخلص لبنان من سطوة “حزب الله” ودوره الوظيفي في المنطقة؟ أم أنها ستكون محطة، وإن كانت مهمة، على طريق طويلة وتوسطات تعيد للدولة اللبنانية بعض سيادتها المسلوبة، وهذا هو المرجح، على الرغم من تأثير الثورة المستمرة التي أعطاها الحادث والمآسي التي خلفها دفعًا وتجذرًا لا يستهان به.

ثانيًا: حول الحادث وتداعياته
في الرابع من آب/ أغسطس الجاري، وقع انفجار مدو في ميناء بيروت خلّف دمارًا هائلًا، ودمّر كليًا أو جزئيًا أكثر من خمسين ألف منزل، وشرد نحو ثلاثمئة ألف نسمة، وقتل أكثر من 160ضحية، وجرح أكثر من خمسة آلاف آخرين، وما زال هناك عشرات المفقودين، إنها كارثة غير طبيعية لم يشهدها لبنان، وقد شبهها البعض بكارثتي هيروشيما وناغازاكي المدينتين اليابانيتين اللتين ألقيت عليهما قنبلتين نوويتين نهاية الحرب الكونية الثانية.
المعلومات تشير إلى أن انفجار بيروت نجم عن انفجار كمية 2750 طنًا من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار، كانت مخزنة منذ عام 2014 في أحد عنابر الميناء، وعلى هشاشة الرواية حول الطريقة التي وصلت فيها تلك المواد، فهي تضمر خلفها عملًا استخباريًا، جرى بموجبه جلب هذه المادة بطريقة غير شرعية لصالح جهة متنفذة، لا تكترث بأي بعد قانوني أو أخلاقي، وكان مصيرها الإهمال والتجاهل من قبل كل الجهات الرسمية والأمنية، إلى أن وقع المحظور.
هول الحادث عقد لسان مسؤولي السلطة اللبنانية، وسادت بينهم حالة من الإرباك، لكن بعد يومين تكلّم رئيس الحكومة، ووعد بإجراء تحقيق ومحاسبة المسؤولين عمّا حدث، تبعه بعد يوم رئيسُ الجمهورية، الذي اعترف بحجم الكارثة، لكنه تعامل معها على أنها حادث تسبب به الإهمال وضعف الإحساس بالمسؤولية، ووعد بمحاسبة المسؤولين عنه على ضوء ما سيكشفه التحقيق، رافضًا أيّ حديث عن تحقيق دولي، وواصفًا إياه بمضيعة للوقت بقوله: “كل عدالة تتأخر ليست بعدالة”، وملمّحًا إلى “محكمة الحريري” التي طالت خمسة عشرة عامًا، وكانت ستصدر قرارها الاتهامي النهائي، في السابع من آب/ أغسطس الجاري، لكنه تأجل حتى الثامن عشر منه، بسبب انفجار بيروت، كما اعتبر أن للحادث المروع بُعدًا إيجابيًا، لكونه كسر العزلة التي كان يعانيها لبنان. أما حسن نصر الله الذي أجّل كلمته، أكثر من مرة، بغية استطلاع الموقف الدولي والفرنسي تحديدًا، فقد نفى في كلمته نفيًا قاطعًا علاقة حزبه بالمواد المخزنة، ونفى أي وجود للحزب في الميناء، وقال، على سبيل التهكم واستغفال العقول، إن حزبه يعرف عن ميناء حيفا أكثر مما يعرف عن ميناء بيروت، رافضًا بدوره مطالب اللبنانيين بتحقيق دولي، وتاركًا الخيار لهم بتكليف الجهة التي يقولون إنهم يثقون بها بالتحقيق، وهي هنا الجيش اللبناني، وقد مثل نصر الله في كلمته -كما كان متوقعًا- الهروب من مواجهة الحقيقة والمسؤولية، وتابع سرد رواياته الكاذبة، التي خبرها اللبنانيين في أكثر من محطة..
كان مشهد اللبنانيين مدعاة للفخر بهذا الشعب الحي الذي أذلته طبقته السياسية الفاسدة، حيث نزل إلى الشوارع، حتى قبل أن يلملم جراحه، لتنظيف الشوارع من الركام، والمشاركة في إسعاف المصابين، والبحث تحت الأنقاض عن الأحياء المحاصرين أو الجثث، ثم تابع اللبنانيون تظاهراتهم، ابتداءً من اليوم الرابع للانفجار، محاولين احتلال الوزارات ومجلس النواب، ومطالبين بإسقاط السلطة القائمة، بمرتكزاتها الثلاثة، ومحملين الطبقة السياسية الفاسدة المسؤولية عما آلت إليه حال لبنان، وعن انهياره الاقتصادي والقيمي بفعل الفساد والتسلط والمحاصصة الطائفية.
كان حجم التعاطف الدولي والعربي كبيرًا مع لبنان، حيث سارعت كثير من الدول إلى تقديم مساعداتها الدوائية والغذائية والطبية والمشافي الميدانية والخيم، وكان لافتًا وصول الرئيس الفرنسي إلى بيروت في اليوم الثاني للانفجار، ونزوله إلى الشوارع والتحامه بالناس الغاضبين، واعدًا الناس بمساعدة لبنان والوقوف إلى جانبه، في مشهد عجز الرؤساء اللبنانيون عن القيام به، وقد كسب ماكرون عواطف اللبنانيين، حتى إن البعض، من شدة قهرهم ويأسهم وحقدهم على الطبقة السياسية اللبنانية، طالبه بعودة الانتداب الفرنسي للبنان، في مفارقة تكشف عمق المأزق اللبناني الذي خلقه تسلّط حزب وسلاحه ومن يشاركونه، على الرغم من أن المطالبين بعودة الانتداب يعرفون حق المعرفة، أن القرن الحالي لم يعد زمن استعمار أو انتداب أو وصاية ولا حتى حماية دولية.
لم يكن مستغربًا ما قام به الرئيس الفرنسي، ففرنسا تعدّ نفسها الأم الحنون للبنان، وهي حريصة على استمرار صيغة حكمه حتى بنسخة الطائف من تلك الصيغة، إضافة إلى أنها تعدّ لبنان منطقة نفوذ فرنسي، وهذا أمرٌ لا ينكره اللبنانيون، وقد اجتمع الرئيس الفرنسي بالرؤساء اللبنانيين الثلاثة، وكذلك كان له اجتماع مع قادة الأحزاب وتعبيرات المجتمع المدني، وطالب اللبنانيين بضرورة أن يكون هناك تغيير واتفاق سياسي جديد، وقد أثار ذلك لبسًا لدى البعض بأن الرئيس الفرنسي قصد ميثاقًا جديدًا للبنان، أو تعديلًا في الصيغة القائمة، وأعطاهم مهلة ثلاثة أسابيع لتحقيق ذلك، واعدًا بالعودة إلى بيروت مطلع أيلول/ سبتمبر القادم، كما أنه دعا لاجتماع دولي افتراضي بتاريخ 8 آب/ أغسطس 2020، لتقديم مساعدات طارئة صحية وغذائية للبنان، وتم جمع مبلغ ثلاثمئة مليون دولار، ستُقدم كمساعدات عاجلة، وسوف تشرف فرنسا والولايات المتحدة والأمم المتحدة -كما وعد- على إيصالها إلى هيئات ومنظمات وإدارات خاصة في قطاع الصحة والتعليم والخدمات مباشرة، من دون تدخل الدولة اللبنانية.
ما زالت تداعيات التفجير تتفاعل داخليًا، وتتزايد أعداد المتظاهرين في الشوارع، وتواجههم القوى الأمنية بعنف أشد من ذي قبل، وتحاول منعهم من الوصول إلى البرلمان واحتلاله، كما فعلوا بمقار بعض الوزارات، واضطروا إلى إخلائها لاحقًا، وصارت تتالى الاستقالات، التي بدأت باستقالة بعض النواب ثم بعض الوزراء، وفي العاشر من الشهر الجاري استقالت حكومة حسان دياب، وقد برّر استقالته باكتشافه المتأخر “أن حجم الفساد أكبر منه وأكبر من لبنان”، متنصلًا من المسؤولية، لكن دون أن يشير بحرف إلى من تسببوا بالحادث، ومن المتوقع ألا تقف التداعيات عند هذا الحد، وقد تبلغ رئاسات أخرى ومواقع وأدوار أخرى.
لن تقتصر تداعيات الحدث على الداخل اللبناني، بل ستتعداها إلى الإقليم، وسوف تصل، بهذه الدرجة أو تلك، إلى المشروع الإيراني، وقد ترخي من قبضته على لبنان.
ولعل أكثر المتضررين من تفجير بيروت، سيكون النظام السوري، على عكس ما روّج له بعض مواليه، بأنه سيبطل مفعول العقوبات المفروضة على النظام، التي شددها قانون قيصر، مبررين رؤيتهم باضطرار لبنان والدول التي سوف تقدم له المساعدات وتأمين مستلزماته إلى استخدام ميناء اللاذقية، بحكم أن ميناء طرابلس غير مهيّأ لاستقبال سفن متوسطة الحمولات أو كبيرة، بسبب ضيقه وعمق مياهه التي لا تحتمل سفنًا من هذه الأحجام والحمولات، متجاهلين أن مرفأ بيروت كان مصدرًا للمواد الأولية التي تدخل في الإنتاج الدوائي أو الصناعي، أو حتى السلع الاستهلاكية، وكذلك المشتقات النفطية، ثم تتابع طريقها برًا إلى سورية، كما كان النظام يستفيد من فتح اعتمادات مستنديه، لاستيراد كثير من المستلزمات عن طريق المصارف اللبنانية، قبل أن يحصل الانهيار المالي مقابل عمولات كجزء من طرائق النظام بالالتفاف على العقوبات.

ثالثًا: الموقف الدولي والإقليمي وتأثيره في مستقبل لبنان
ما زالت التظاهرات والاحتجاجات في حالة توسع، وخاصة في بيروت، ولن تخفف من مطالبها الاستقالاتُ التي حصلت حتى الآن، وستصل المطالبة إلى المواقع الأخرى، إلا أن الطلب الأبرز هو إجراء انتخابات نيابية جديدة، بهدف التخلص من الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة على مرحلتين: أولاهما انتخاب نواب جدد منحازين إلى الشارع ومطالبه وفقًا لقانون انتخابي جديد، وثانيتهما ضمان انتخاب رئيس دولة جديد، إذا استقال عون أو مات أو فقد القدرة على ممارسة مهماته أو حتى في نهاية ولايته عام 2023، لكن إن حصلت هذه الانتخابات وفقًا للقانون الانتخابي السائد، الذي أقر بتاريخ 14 حزيران/ يونيو 2017، وتم رسم المحاصصة الطائفية من خلال النسبية والدوائر الانتخابية الخمسة عشرة التي صممت لخدمة هذا الهدف، واعتماد الصوت التفضيلي على مستوى القضاء؛ فلن يتغير الوضع السائد، وستتمكن الطبقة السياسية المتسلطة من إعادة إنتاج نفسها وتسلطها.
هذه الرغبة في الذهاب إلى قانون انتخابي جديد وانتخابات جديدة، قد يختلف عليها المتظاهرون، مع الأسف، لأسباب تتعلق بطبيعة الوضع اللبناني. حيث إن المتظاهرين الذين جمعتهم مواجهة الطبقة الحاكمة وفسادها والانهيار الاقتصادي وتدهور الحالة المعاشية، قد لا تجمعهم بشكل مؤثر عملية الخروج على الصيغة الميثاقية اللبنانية.
إحدى المفارقات في انفجار بيروت كانت حرص كل من “إسرائيل” و”حزب الله” على نفي علاقة “إسرائيل” بالتفجير، مع العلم أن الإعلام الإيراني سارع إلى اتهام “إسرائيل” كالعادة، بالتسبب بالتفجير، لكن “حزب الله” أوقف هذه الأسطوانة، وهذا يدلل على أن كلًا من “إسرائيل” و”حزب الله” غير مستعد لمواجهة عسكرية من أي مستوى، في هذه المرحلة الحرجة لكلا الطرفين.
بعض الدول العربية، كالسعودية المهتمة بالوضع اللبناني، سارعت إلى تقديم المساعدات الإنسانية، بانتظار أن تتغير المعادلات والتوازنات الداخلية، التي أضعفت التأثير والحضور السعودي في الملف اللبناني لصالح إيران وذراعها المحلي، أما جامعة الدول العربية، فموقفها -كعادته- سوف يقتصر على التضامن، إذ ليس لها القدرة ولا الفاعلية على القيام بدور فاعل، واللافت أن الإيرانيين التزموا الصمت، ولم يصرّحوا أو يقدّموا أو يعدِوا بشيء، ولربما هم بانتظار ما ستؤول إليه الجهود الدولية والتفاعلات المحلية، خاصة أن ذراعها المتحكم في لبنان هو المتهم الأول بالتسبب بما حدث، ويمكن وصف موقفها بالصمت الماكر.
من جهة الجهود الدولية، كان متوقعًا ومأمولًا أن يكون التحرك الفرنسي تعبيرًا عن موقف أوروبي أميركي متفق عليه، لكن تبيّن أن الموقف الفرنسي كان خاصًا، وأن هناك موقفًا أميركيًا مغايرًا، وموقفًا أوروبيًا قليل الاكتراث، خلا البعد الإنساني. حيث إن الجهد الفرنسي طالب بتغيير في “الستاتيك” السياسي القائم الذي يتحكم فيه “حزب الله”، لكن هذه المطالبة حددت بحكومة وحدة وطنية شاملة لكل القوى السياسية، والإصلاح التدريجي على المدى الطويل، لجهة تخفيف قبضة “حزب الله” على الوضع اللبناني، وربما يكون من ضمن ذلك إخلاء بيروت ومعبريها الحيويين (المرفأ والمطار) من سلاح “حزب الله”، ومن الواضح أن الموقف الفرنسي لا يريد الذهاب بالأمور إلى نهايتها المنشودة، وذلك بطرح وضع سلاح “حزب الله” على طاولة البحث، وحصر السلاح بيد الدولة، ودعم سيطرتها على أراضيها كاملة، واستعادة قرار السلم والحرب، فقد خاطب الرئيس الفرنسي زعماء الأحزاب وتعبيرات المجتمع المدني، عندما اجتمع بهم خلال زيارته لبيروت، بقوله: “إذا ذهبتم حاليًا إلى انتخابات نيابية؛ فلن تفوزوا بها، وسوف يعودون للتحكم فيكم باسم الديمقراطية”، وطبعًا هذا الموقف الفرنسي دافعه ضمان استمرارية النفوذ الفرنسي في لبنان، كما أنه يأخذ بالحسبان الموقف الدولي من إيران، فليس خافيًا أن فرنسا على خلاف مع التوجه الأميركي الذي ألغى الاتفاق النووي، وفرض عقوبات مشددة على إيران، وليست مستعجلة على محاصرة النفوذ الإيراني في لبنان، وهذا الموقف الفرنسي من غير المتوقع أن يزعج “حزب الله”، وقد يتجاوب بحدود مع التوجه الفرنسي، كونه الأقل سوءًا بالنسبة إلى وضعه اللبناني، ويقبل بتقديم بعض التنازلات لصالح الحراك في هذه المرحلة.
أما الموقف الأميركي، فمن الواضح أنه يريد استغلال التفجير للدخول بقوة أكبر على خط التغيير في لبنان، وإضعاف النفوذ الإيراني، ومحاصرة “حزب الله” بما يدعم جهودها في ملاحقة خلايا الحزب على مستوى العالم، وهناك حتى الآن سبعة وأربعون دولة صنّفت “حزب الله” كحزب إرهابي، ليس منها فرنسا، والتوجه الأميركي يتلخص بالمطالبة بحكومة حيادية وكفاءات، لا علاقة لأعضائها بالأحزاب، تعمل على إجراء انتخابات جديدة، وتتولى مهمة الإصلاح الاقتصادي والمالي وإعادة لبنان إلى حاضنتيه الدولية والعربية، وكان لافتًا أن الرئيس الأميركي الذي حضر مؤتمر باريس لم يعِد بمساعدات محددة، لكنه قال: “إنها ستكون كبيرة”، ومن المتوقع أن التوجه الأميركي لا يريح الطبقة السياسية المتحكمة في لبنان، وكذلك لن يريح القوى السياسية المعارضة التي تعتمد في وجودها على المحاصصة الطائفية المعمول بها.
قد تكون حظوظ التوجه الفرنسي أقوى من التوجه الأميركي، لأسباب تاريخية ومحلية وللتوازنات القائمة، ومن غير المعروف إلى أي مدى ستضغط الولايات المتحدة باتجاه رؤيتها، وعلى هذا الضغط تتوقف إمكانية حرف التوجه الفرنسي بحدودٍ ما، لصالح التغيير في لبنان على المدى المستقبلي، وهذا مرتبط بدرجة كبيرة بمدى انحسار المشروع الإيراني، الذي يواجه رفضًا واستعصاءً في العراق ولبنان، وبدرجات متصاعدة في سورية، فضلًا عن وضعها الداخلي المأزوم بفعل العقوبات وفيروس كورونا وتسلّط الملالي.

رابعًا: خاتمة
يرغب بعض اللبنانيين من أنصار المجتمع المدني خاصة، وهم موجودون في الشوارع، في تحطيم الصيغة اللبنانية التي تنظم الحكم اللبناني وتقوم على المحاصصة الطائفية ونسخته اتفاق الطائف، الذي لا يعترف بها الرئيس اللبناني وحزبه، كإحدى مفارقات الوضع اللبناني، لكن دون تغيير الصيغة اللبنانية صعوبات كبيرة، يأتي في مقدمتها القوى الطائفية اللبنانية، وهي ما زالت قوية، كما تحتاج إلى قرار دولي وإقليمي لا تظهر أي مؤشرات أو ملامح له، كما أن فكرة الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة قد لا تمضي بالسلاسة المرغوبة، كونها تحتاج إلى قانون انتخابي جديد يحتاج التوافق عليه إلى زمن، وهذا متوقف على حراك الشارع واستمرار ضغطه بهذا الاتجاه، لكن مما لا شك فيه أن لبنان ما بعد التفجير لن يكون كما كان قبله، وسوف يتغير الوضع القائم بحدود، فالتغيير كان وما زال طموحًا مشروعًا للشعب اللبناني الثائر، قد تلجمه أو تبطئه توازنات محلية ودولية، فالتغيير الواسع والجذري في لبنان سوف يبقى محكومًا بالملفات الإقليمية التي باتت مترابطة في حركتها وتفاعلاتها وفي حلولها.