اليسار وتحرر المرأة –
حول مصطلح اليسار والتحرر :
مصطلح اليسار مصطلح قديم، عنى في ما عناه أن اليساري يسند ويساند أي تغيير مبني على التحديث ومواكبة روح العصر، وبالتالي يدعو اليسار بداهة الى التحرر والانعتاق من العادات والتقاليد القديمة، يقابله مصطلح اليمين الذي يعني ان اليميني محافظ مشدود الى الماضي، يعاند أي تغيير اجتماعي.
أضافت الفلسفة الماركسية التي ظهرت في القرن التاسع عشر بعدًا طبقيًا جديدًا على المصطلح، حيث أهل اليسار هم المعبرون عن مصالح الطبقات التي لها مصلحة في التطور الاجتماعي ويعملون من أجل تعبيد وتنظيف الطريق من أجل دفع عربة التقدم الاجتماعي الى الأمام، أما أهل اليمين فهم المعبرون عن مصالح الطبقات الرجعية، والذين يعملون من أجل وضع العصي في دواليب عجلة التقدم الاجتماعي. وقد تبلورت قوى اليسار خلال القرن العشرين سياسيًا في تيارين عريضين:
تيار قومي اشتراكي شمل ماسّموه حركات التحرر العالمية.
تيار شيوعي شمل كل الأحزاب الشيوعية التي تتبنى الفلسفة الماركسية.
وقد وصل اليسار إلى السلطة في بلدان عديدة – حيث السلطة في كل مكان وزمان مفسدة للثوار- لنشهد المفارقة بين النظرية والممارسة ولتضيع الحدود بين اليساري واليميني؛ إذ بدا خلال الممارسة العملية وكأن بعض المصنفين في خانة التقدم لعبوا دورًا رجعيًا، في حين لعبت بعض الشرائح الطبقية المصنفة رجعية دورًا تقدميًا أكثر منهم. ظهرت الأزمة بشكل فاقع في أكبر دولة اشتراكية في العالم، لتلتبس الأمور ومعرفة من هو اليساري ومن هو اليميني في حقبة البروسترويكا أيام حكم غورباتشيف، فلم يعد يعرف المتتبع للحدث السياسي في أرض أول ثورة اشتراكية هل يلتسين يساري أم يميني ؟ وهل انقلابيو آب هم يساريون أم يمينيون ؟ محافظون أم مجددون ؟
الجدل حول تصنيف الأحزاب او الشخصيات بين يمين ويسار امتد ليشمل العالم كله بعد فترة البروسترويكا في روسيا. يهمنا هنا الجدل في بلدنا الحبيب سوريا من خلال مثالين فاقعين.
أولهما السؤال الذي طرح نفسه على النشطاء السياسيين في القرن الواحد والعشرين حول تصنيف الزعيم الشيوعي خالد بكداش قياسًا بابن العائلة الاستقراطية المحافظة خالد العظم، أيهما اليساري خالد بكداش الزعيم الشيوعي المعروف والموالي للطبقة العاملة والطبقات الشعبية الذي دعم حائط الاستبداد في بلادنا؟ أم خالد العظم الذي ساهم في فتح ثغرة في حائط الاستبداد السوري لا يستهان بها.
وثانيهما هو صفوان القدسي ,الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الناصري والذي ترأّس مؤخرًا مؤتمر سوتشي في روسيا بوصفه يساريًا ممانعًا ومقاومًا للمشاريع الإمبريالية والصهيونية الرجعية والمعروف بفساده وانتهازيته لدرجة أنه كتب عشرات الكتب وآلاف الصفحات وكل صفحة يرد فيها اسم الأسد مئات المرات وفي كل مرة يجب أن تكتب بحرف بارز من أجل هيبة الزعيم. تمامًا كما يكتب إلى جانب النبي محمد ( صل الله عليه وسلم ) وجميعها سجع وطباق زاد فيها الانحطاط درجات على انحطاط أدب عصور الانحطاط. كل ذلك من أجل أن يضمن لحزبه منصبين وزاريين في كل الحكومات أحدهما لزوجته والثاني لأحد مريديه. فهل هذا الشخص وأمثاله في الجبهة الوطنية القائمة في سوريا حتى الآن هم يساريون أم يمينيون؟.
خلاصة القول: مصطلح اليسار واليمين أصبح بضاعة فاسدة والمفروض العودة إلى مضمونه الحقيقي وهو تحرري مقابل محافظ، أو تقدمي مقابل رجعي.
بهذه المقدمة أردت أن أدخل الى صلب هذه الدراسة المتواضعة لأحدد مفهومي على الشكل التالي:
المناصرون لتحرر المرأة هم مع حقها في العمل خارج المنزل، وحقها في اختيار شريك المستقبل وفي تعاونها مع زوجها ضمن أسرة عصريه للتغلب على صعوبات الحياة.
المعادون لتحرر المرأة هم الذين ينظرون إليها بوصفها ناقصة عقل ودين، ولهذا فهم ضد أن يسمح لها بتقرير مصيرها في اختيار شريكها، بل الحق لولي أمرها الذي يفهم مصلحتها ويضمن مستقبلها أكثر منها ومكانها الطبيعي هو المنزل وتربية الأطفال .
2- الماركسية وتحرر المرأة
يحلو لي أن أصف الماركسية بالدين الرئيسي الثالث مثلها مثل الاسلام والمسيحية. والتشابه مذهل بين أنبياء الأديان الثلاثة: يسوع، محمد، ماركس من حيث إخلاص كل منهم لمبادئه وانحيازهم المطلق إلى جانب الفقراء والمضطهدين الذين يعملون ولا يملكون من إنتاج عملهم سوى ما يسمح بتجديد شروط حياتهم. والمؤسف حقًا أن يرتبط الدينان السماويان ببرنامجيهما أكثر مما يرتبطان باسم نبييهما – حيث نادرًا ما يقال ” المحمدية ” بل الإسلام أو: اليسوعية ” بل المسيحية – في حين يرتبط الدين الأرضي باسم نبيه أكثر مما يرتبط ببرنامجه، فنحن نقول الماركسية أكثر مما نقول الشيوعية. علمًا بأن الإسلام والمسيحية لم يعرفا قبل عيسى ومحمد، في حين قامت الشيوعية كتيار فلسفي وأيديولوجي وسياسي قبل ماركس بكثير.
ترى ما الفرق بين دعاة الإسلام هو الحل ودعاة الماركسية هي الحل؟ أليس كلاهما يريد أن يقيس الشاهد على الغائب ويتطلع إلى الماضي بدلًا من أن يتطلع إلى المستقبل؟
ما الفرق بين المجتهدين ضمن الجهتين ؟ أليس كلاهما ينطلق من أولوية النص على أولوية الواقع ؟. والمأساة أنه يمكن أن تتفهم ببساطة انطلاقة المسلم والمسيحي من دينه وتعاليمه؛ فالمؤمن لديه قناعة مسبقة بأن الدين فوق دائرة العقل، لكن أين العذر لماركسي تقوم عقيدته على العقل؟ وتقدم نفسها بوصفها علمًا؟.
نظرت الماركسية إلى التجمعات البشرية الأولى بوصفها مجتمعًا شيوعيًا بدائيًا قائمًا على العوز والحرمان، يناضل فيه الناس بشكل جماعي لتأمين متطلبات حياتهم من الطعام والشراب والسكن ودرء مخاطر الطبيعة وأطنبت بمديح تلك الحياة الاجتماعية وما رافقها من ديمقراطية سادت في تلك التجمعات التي عرفت في بداية التاريخ بما يسمى العشائر .
(( جميع أعضائها أناس أحرار وملزمون بحماية حرية بعضهم بعضًا، ومتساوون في الحقوق الشخصية – فلا الساخمات ولا القادة العسكريون يدعون بأي أفضليات – وهم يشكلون أخوية تشد لحمتها روابط الدم. إن الحرية والمساواة والأخوة كانت المبادئ الأساسية في العشيرة، رغم أنها لم تتبلور يومًا في صيغة معينة، وكانت العشيرة بدورها وحدة نظام اجتماعي كامل وأساس مجتمع الهنود الحمر المنظم. وهذا ما يفسر الشعور الثابت الذي لايلين بالاستقلال والكرامة الشخصية. )) (1)
وتتمة تلك الديمقراطية هي بالعلاقات الجنسية الحرة بين الرجل والمرأة حيث (( أن كل امرأة تخص كل رجل وبحيث إن كل رجل كان يخص كل امرأة )) (2). ولأن والد الطفل داخل العشيرة في ظل ذلك الزواج الجماعي يستحيل معرفة أبيه، فقد كان النسب يعود للأم وما يتبعه من مركز مشرف للمرأة داخل العشيرة يفوق مركز الرجل بأضعاف وهكذا فـ (( الاقتصاد البيتي الشيوعي يعني سيادة النساء في البيت، كما أن الاعتراف بالأم وحدها؛ نظرًا لاستحالة معرفة الوالد بكل ثقة يعني رفيع الاحترام للنساء أي الأمهات، وإن الرأي الزاعم أن المرأة كانت عبدة الرجل في بداية تطور المجتمع هو من أسخف الآراء التي تركها لنا عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، فإن المرأة عند جميع المتوحشين وعند جميع القبائل في الطورين الأدنى والأوسط وجزئيًا في الطور الأعلى من البربرية، لا تتمتع بالحرية وحسب بل تشغل أيضًا مركزًا مشرفًا جدًا )) (3) .
ولذلك عندما ظهرت الملكية الخاصة وما رافقها من زواج أحادي قائم على العائلة البطريركية خسرت المرأة مركزها المشرف، وما ينسب للزواج الأحادي من فضائل يتم السخرية منها على الشكل التالي: ((فعند الطيور، مثلًا، تفسرها حاجة الأنثى الى المساعدة والحماية في مرحلة حضانة البيض والأفراخ ؛ وإن أمثلة على متانة أحادية الزواج لا تثبت شيئًا فيما يتعلق بالناس لأن الناس لا ينحدرون من الطيور، وإذا كانت أحادية الزواج الصرف ذروة كل فضيلة، فإن قصب السبق في هذا المجال يعود عن حق واستحقاق إلى الدودة الشريطية التي يوجد في كل عقدة من عقدها أو مفاصلها جهاز تناسلي كامل للذكر والأنثى، والتي تقضي حياتها كلها في مضاجعة نفسها بنفسها ))(4)
أقل ما يقال في هذا الكلام أنه يحمل من الأيديولوجيا أضعاف مما يحمل من العلم، أما الحقيقة العلمية فهي أن تلك المجتمعات كانت أقرب إلى القطيع الحيواني، ولم يكن النوع البشري قد قطع حبله السري المتعلق بالمملكة الحيوانية. لم تكن المشاعر والأحاسيس التي تميز هذا النوع قد نمت بعد، وعندما تقدمت تجربته وتطورت مشاعره وأحاسيسه قاد ذلك إلى الغيرة وبالتالي إلى الزواج الأحادي والعائلة المرافقة له، وهذا يعني أن الزواج الأحادي مع كل إشكالياته وسلبياته كان خطوة كبيرة إلى الأمام في تاريخ هذا الجنس، أما الحديث عن الهزيمة العالمية للجنس النسائي بسبب ذلك فما هو سوى محض هراء.
(( إن إسقاط الحق الأمي كان هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي، فقد أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضًا وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستذلت وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد ))(5)
رأت الما ركسية أن البغاء بشقيه العلني والمستتر لن يزول إلا بزوال نظام الإنتاج الرأسمالي (( إن العائلة البورجوازية تضمحل طبعًا باضمحلال تتمتها هذه. وكلتاهما العائلة البورجوازية وتتمتها تتلاشيان بتلاشي الرأسمال ))(6). والحل يكمن في تجاوز النظام الرأسمالي والعمل على إقامة النظام الشيوعي على أنقاضه الذي (( تتحول فيه وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، اجتماعية، لا تبقى العائلة الفردية فيه وحدة المجتمع الاقتصادية، والاقتصاد البيتي يصبح فرعًا من فروع النشاط الاجتماعي، وتغدو العناية بالأطفال وتربيتهم من شؤون المجتمع، والمجتمع سيعنى بالقدر ذاته بجميع الأطفال سواء كانوا شرعيين أم غير شرعيين. وبفضل هذا يزول هم ” العواقب ” الذي يشكل في الوقت الحاضر أكبر سبب اجتماعي أخلاقي واقتصادي يمنع الفتاة من الاستسلام بلا تحفظ للرجل الذي تحبه )). (7)
إن الماركسية دعت بوضوح إلى إشاعة النساء (( ولشد ما يضحكنا هذا الذعر فوق الأخلاقي الذي توحيه إلى البورجوازيين إشاعة النساء الرسمية التي يزعمون أن الشيوعيين يدعون إليها. ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء، فهي تقريبا كانت دائمًا موجودة ….
ليس الزواج البورجوازي في الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات، فقصارى ما يمكن أن يتهم به الشيوعيون إذن هو أنهم يريدون، كما يزعم، الاستعاضة عن إشاعة النساء بإشاعة صريحة واضحة )). (8)
ما من شك عندي أن الرأسمالية ليست خالدة، وليس المجتمع البورجوازي هو نهاية التاريخ، والمجتمع البورجوازي قائم حقًا على الاستغلال والربح والمنفعة الخاصة، وبالتأكيد أيضًا أن مجتمعًا اشتراكيًا قائمًا على الملكية العامة لوسائل الانتاج سيكون متقدمًا عن المجتمع الحالي فيما لو تمّكنا من الوصول إليه لكنني أعتقد أن العائلة فيه لن تضمحل وتتلاشى في ذلك المجتمع؛ فالعائلة من وجهة نظري هي النسيج الاجتماعي المتماسك الذي سيلازم صيرورة الجنس البشري. إن معرفة الأب لأطفاله، والأم لهم ولأبيهم ضمن العائلة القائمة على الزواج الأحادي ستكون ضرورتها أكبر في مجتمع اشتراكي عادت للإنسان فيه ذاته الإنسانية المستلبة منه على مر العصور، ولن يكون في مجتمع إنساني متقدم كهذا ألاد لقطاء لايعرف أحد منهم أباه، ولن يوفر أي مجتمع حنان ورعاية وحضانة للأطفال كما يوفرها الأبوان، فالرعاية العائلية يجب أن تسبق رعاية المجتمع، ومن ثم تكملها الرعاية المجتمعية.
لم تبين الحياة صحة وجهة نظر الماركسية في تحرر المراة حيث كما تقول: (( الشرط الأول لتحرر المرأة هو عودة جنس النساء بكليته إلى الإنتاج الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب بدوره زوال العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع )) (9) .
بكل الأحوال لنترك التبشير بالمجتمع الشيوعي القادم على طريقة تبشير الأديان في الجنة، ونفكر بواقعنا الحالي في ظل نظام راسمالي لا يبدو أنه سيسقط قريبًا بعد أكثر من مائتي عام على وفاة ماركس ودعوته لإسقاطه، بل هو أقوى الآن مما كان عليه آنذاك.
بالنسبة إلي تحرر المرأة عندي هو مساواة المرأة بالرجل في كل النواحي القانونية والسياسية والاجتماعية مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق الفيزيولوجية بينهما، ولقد تمكنت الدول الأوروبية من تحريرها مع أنها دول رأسمالية بامتياز ، أما الدول الضعيفة التطور مثل بلداننا، فما زالت حضارتها ذكورية وما زال أمامنا الكثير لكي تتحرر المرأة عندنا وتتساوى مع الرجل، وهو ما يجب أن نعمل عليه بدون ربطه مع النضال المسمى اشتراكيًا.
ما أحوجنا الآن إلى السجال مع اليساريين لنعود فنحتكم إلى العقل والمنطق أكثر مما ننطلق من العواطف.
أنا لاأنكر هنا أهمية الماركسية كنظرية تعاطفت ومازالت تتعاطف مع كل مضطهد وبشكل خاص المرأة ولا نضالاتها على الأرض من اجل رفع ذلك الاضطهاد، ولكن النضال يثمر أكثر إذا انطلقنا من فهم الواقع وتقدير دور القوى الإيجابية فيه ودور القوى السلبية المعاندة لأي تحرر وتقدم، ومحاولة الإخلال بتوازن القوى لمصلحة دعاة التحرر، أما الانطلاق من الرغبة أو الإرادة فسيجعلنا نهزم بالنهاية كما هزم الاشتركيون واليساريون في البلدان التي كانت تسمي نفسها بلدانًا اشتراكية. على هذه الأرضية سأتناول القسم الثاني من دراستي لنتعلم من تجربتنا ونتقدم إلى الأمام.
……………………………….
الرابطة وتحرر المرأة –
ومع أن الرابطة تقف على نفس الأرضية الفلسفية لكل الشيوعيين وهي الفلسفة الماركسية، لكن فهمها لها مختلف كثيرًا عن فهم الحركة الشيوعية الكلاسيكية، ولها اجتهادات ضمن تلك الفلسفة سنحاول تلمسها هنا فيما يتعلق بتحرر المرأة.
عرفت سوريا أوائل السبعينات من القرن المنصرم ظاهرة مشابهة لظاهرة المنتديات الاجتماعية التي عمّت المدن والأرياف السورية أوائل هذا القرن، سميت آنذاك ظاهرة الحلقات الماركسية، وقد ساهم في انتشار الظاهرتين انفتاح عهد الأسد الأب وعهد الأسد الابن على المجتمع أول استلامهما للسلطة لأسباب براغماتية لسنا بصدد الحديث عنها.
كان الكثير في الحلقات يتبنى وجهة نظر الشيوعي الإيطالي غرامشي التي تقول بغزو المجتمع من أسفل إلى أعلى عبر ما سماه – حرب المواقع – وهي حرب قصد بها غرامشي محاصرة حصون وقلاع المجتمع القديم عبر عمل سياسي عريض ومديد تشد القوى الطليعية فيه الجماهير لتحاصر وتسقط قلاع المجتمع القديم القلعة إثر الأخرى دون ان تطلق رصاصة واحدة في تلك الحرب الطويلة الأمد، وكان هذا يعني بالملموس وعبر ترجمته إلى واقعنا السوري هو البحث عن حزب محاط بجماهير تناصره وهي ضرورية له ضرورة الماء بالنسبة للسمك؛ أي رئته التي يتنقس منها، ومن هنا أتت أهمية المرأة كونها تشكل نصف المجتمع وتعاني أيضًا من اضطهاد مزدوج عندنا. وهذا يعني ضمنًا نقد الماركسية القائمة على اعتبار التحرر الاقتصادي – الذي يبدأ بالاستيلاء على السلطة من أجل البدء بالتحويل الاشتراكي – شرط أي تحرر اجتماعي.
أكثر السجالات حرارة في الحلقات دارت حول العائلة وأهميتها في الشرق لأي حزب ثوري، ومع أن ماركس كان بمثابة نبي عند هؤلاء المنحدرين من حلقات التصق اسمها به، وكانت عصمته عندهم تفوق بكثير النبي الثاني للشيوعيين – لينين – إلا أن مقاربتهم للماركسية -كما يتوافق مع واقعهم- جعلتهم يتطاولون قليلًا على نبيهم بوصفه وافدًا إليهم من الغرب. لم يرق للكثير منهم تحدثه عن اضمحلال العائلة في الطور الشيوعي واستبدال تربية المجتمع للأطفال بتربيتها، ولا تحدثه عن إشاعة النساء الصريحة والواضحة وغير المغطاة بالنفاق والرياء كما هي عند البورجوازيين، ورأوا فيه عندما كان هيغليًا يساريًا ( تكلم عن الاغتراب والانخلاع الإنساني وتحدث عن العلاقة الأحادية بين الرجل والمرأة بوصفها قمة أنسنة الاإسان أقرب لهم ولشرقهم )، لابل رأوا في تنظيره الجديد عندما صار شيوعيًا تناقضًا مع سلوكه الذي كان فيه شرقيًا أكثر مما كان غربيًا، ففي سيرة ماركس العائلية وفي حبه لزوجته وحبها له وإخلاصهما لبعضهما وتعاونهما على كل أصناف الفقر والعذاب والملاحقة والتشرد ما يجعل سيرته مشابهة لقصص الحب والغرام الشرقية.
بل ذهب بعضهم أكثر من ذلك قائلًا: لو أن الله مّد بعمره لعّدل بمفاهيمه عن العائلة في دراسته للشرق كما عّدل بمفاهيمه وتحدث عن طريق خاص في الشرق تحللت به مشاعاته بشكل مختلف عن تحلل المشاعات السلافية والجرمانية الغربية والتي أعطت طريق الغرب المعروف في تشكيلاته الاجتاعية ( رق، إقطاع، رأسمالية) وهو ماعرف برسائله إلى صديق عمره أنجلز باسم( نمط الإنتاج الآسيوي)، والمفروض بنا – نحن خلفاءه- هنا أن نكمل ما بدأه حول الشرق وخصوصيته ودور العائلة فيه.
كثير من الدراسات حول المرأة وتحررها والعائلة والزواج الأحادي والعلاقات الجنسية بين الشابات والشباب قبل وبعد الزواج وضرورة إنتاج فهم نظري يضبط ممارسة أعضاء الحزب الثوري القادم في هذا الجانب عملًا بالمقولة الماركسية – لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية – كانت تلك الدراسات توازي -إن لم نقل تتفوق- على الدراسات عن المسألة الأممية والقضية القومية والقضية الفلسطينية. كثير من الدراسات قامت بها حلقات في حماه وحلب ودرعا واللاذقية ووزعت بين الحلقات، وهي مكتوبة بخط اليد حتى بعد تشكل الرابطة كانت تتمحور حول فهمين متباينين إلى حد ما.
فهم واقعي ينطلق من الواقع ويربط الحب الجنس عن طريق إقامة علاقة أحادية تنتهي بالزواج ضمن القانون وبرضى المجتمع وهو فهم الأغلبية داخل الحلقات.
فهم متطرف -إذا جاز التعبير- يشكل أقلية داخل الظاهرة ويستند إلى “ولهم رايش” وكتابه “الثورة والثورة الجنسية” وهو يفصل بين الحب والجنس ويؤيد إقامة علاقات جنسية مفتوحة ومتعددة بين الشباب والشابات شريطة أن تتم بالرضا والقناعة التامة من دون ضغط أو اكراه.
الفريق الأول رأى ان الطليعي الذي اختار طريق النضال والتضحية من أجل مجتمعه، عليه أن يتكيف مع الوسط حتى يثق به ومن أجل هذا عليه التضحية بالكثير من حقوقه.
والفريق الثاني رأى أن ما نقوم به من صداقة حق طبيعي وبديهي، ويجب ألا نسمح لوسط متخلف وجاهل أن يحرمنا من أبسط حقوقنا الإنسانية. وكلما كانت تلك العلاقة على أسس صحيحة سيتفهمها المجتمع مع الزمن.
هل ننزل بعلاقاتنا إلى مستوى الجماهير، أم نحاول أن نرفع مستوى الجماهير ووعيه ليتقبل تلك العلاقات الانسانية ؟.
أذكر هنا أن منطقية اللاذقية للرابطة قدّمت دراسة أوائل عام 1976 انتهت كما يلي:
(إن الأسرة في المجتمع مثل حجرة البناء في البيت – الخلية الأساسية فيه – وإذا كان الملاط الاسمنتي يربط بين الحجارة، وبه تقوم أعمدة البيوت فإن ملاط أسر النسيج المجتمعي هو التعاون والتعاضد والتآلف والعلاقات الطيبة بين الأسر المتجاورة، ومن يود أن يكون طليعيًا في خدمة مجتمعه فيجب أن يكون ناجحًا في أسرته ومحيطه أولًا، أما من يفشل في العلاقة الأسرية داخل وسطه الاجتماعي الضيق فيصعب عليه أن ينجح في عمله السياسي الموجه لخدمة الطبقات الشعبية العريضة داخل المجتمع ).
ولدت رابطة العمل الشيوعي من رحم الحلقات الماركسية كما هو معروف ولادة قيصرية تحت ضغط المسألة الوطنية ودخول الجيش السوري إلى لبنان، وهكذا عقد الاجتماع الثالث الموسع الذي تحولت فيه الحلقات إلى رابطة، ولم يكن فيه أنثى واحدة وجاءت حملات القمع المتكررة على التنظيم الوليد لتقطع الطريق كليًاعلى ذلك النهج العقلاني في التنظيم الجديد.
إن القمع في كل زمان ومكان يدفع باتجاه الضياع بالنسبة للمجتمع ويجعل رد الفعل عليه قائمًا على الانفعالات والأحاسيس؛ أي إن أول نتاج القمع هو دفع المقموع بالابتعاد عن العقل، وهو ما جرى مع الرابطة التي ابتعدت عن العقل الذي كان سائدًا في مرحلة الحلقات، ودفعتها باتجاه سيادة سلطة النقل على سلطة العقل، وكانت كل حملة قمع تدفع نحو مزيد من رد الفعل القائم على العاطفة أكثر منه على العقل، أول رد الفعل بدأ بإنتاج ما سماه الرفاق الخط الاستراتيجي حيث جمعوا دراسات الحلقات وبوبوها ضمن كراسات غاب عنها مع كل أسف كليًا الدراسات التي تتناول تحرر المرأة بشكل مغاير إلى حد ما لفهم الماركسية الكلاسيكي، وليضيع ذلك الإرث النظري القيم الذي راكمته الحلقات بهذا الاتجاه، لنعود إلى المقولة الماركسية الشهيرة: “التحرر الاقتصادي هو شرط أي تحرر اجتماعي”، والتحرر الاقتصادي يبدأ بالقبض على السلطة، ومن ثم البدء بالتحويل الاشتراكي من خلال السلطة الجديدة الممثلة للطبقات الشعبية، وهو ما ستفعله المنظمة ومن يتحالف معها بعد إسقاط النظام، وحتى كراسات الخط الاستراتيجي التي طبعت بوحي من فهم الحلقات وتعتبر أن الثورة القادمة في سوريا ثورة وطنية ديمقراطية تحررية، وأن المهام الملقاة على عاتقنا في المستقبل هي مهام ديمقراطية تم نسفها وتغييرها بعد الحملة الوحشية الثالثة على المنظمة الوليدة لتستبدل بمقولة: الثورة القادمة في سوريا ثورة اشتراكية وطبيعة الثورة يحددها نمط الإنتاج ونمط الإنتاج في سوريا هو رأسمالي والبديل هو نمط انتاج اشتراكي.
أصبح الرفاق مشغولين بالنضال ضد الأمبريالية والصهيونية وبقضية فلسطين المركزية وبإسقاط إحدى دول الطوق (والمقصود بها سوريا) من أجل تحطيم الكيان الصهيوني أكثر بكثير من تحرر المرأة داخل سوريا. وهكذا غاب الفعل الواعي داخل المنظمة لقضية تحرر المراة كقضية اجتماعية لصالح القضية الوطنية، وترك الفهم النظري والسياسي والعملي من تحرر المرأة بدون حسم وبدون ضبط، ولو أن قيادة المنظمة بتّت في الموضوع لما استطاع النظام تصيدها بهذا الجانب وإشاعته عنها أنها منظمة اباحية ورفاقها يعيشون داخل بيوتهم السرية في كمونات جنسية مفتوحة، ولساعدهم موقفهم هذا كما ساعدهم موقفهم الواضح من الإخوان المسلمين في دحض إشاعة النظام وعدم تصديقه من أحد؛ حيث تمحورت إشاعة المخابرات حول أن رفاق الرابطة موجودون معهم في أوكارهم وينسقون معهم لأجل إسقاط النظام. أكثر من ذلك، لم تبذل قيادة المنظمة أي جهد من أجل مشاركة رفيقاتها في حوارات مؤتمراتها باستثناء مؤتمر الرابطة الأخير الذي عقد في لبنان وحضرته مندوبتان من أصل – 55- عضوًا. في حين حرص المنظمون لهذه المؤتمرات أن تتواجد نسبة تمثيلية للعمال والفلاحين داخلها، وكان بإمكانهم -لو أرادوا- أن توجد نسبة تمثيلية للمرأة في كل المؤتمرات واللقاءات الموسعة بما فيها المؤتمر الأخير لتصبح على الأقل 20% في المؤتمر بدلا من 5 % . ولم يلاحظ وجود عنصر نسائي واحد في هيئات تحرير جرائدها ومجلاتها الشيوعي، البروليتاري، الراية الحمراء، الوحدة الشعبية .
بكل الأحوال فإن إصرار المنظمة على الاستمرار رغم كل القمع الموجه ضدها من أجهزة الأمن جعلها محط احترام في عيون الشباب والشابات السورية، وكانت كل حملة قمع ترفد المنظمة بشابات وشباب جدد يعوضون لها نزيف كادرها بسبب ذهابه إلى السجن ولتتحول المنظمة إلى منظمة محترفين ثوريين مشّكلة ممن استجابوا لطلب المنظمة بعدم تسليمهم أنفسهم لرجال الأمن وتحولهم إلى محترفين ثوريين يتعلمون السياسة من خلال فترة مطاردة الأمن لهم.
لم يكن الشباب وحدهم هم من استجاب للقرار بل الشابات أيضًااللواتي أصبحن محترفات ثوريات.
وإذا كانت قيادة المنظمة قد تركت البت بقضية تحرر المرأة كما بتت بقضية تحرير فلسطين في خطها الاستراتيجي فإن الحوار لم ينقطع، وخاصة بين المحترفين والمحترفات وفي البيوت السرية، ولكن هذه المرة بميلان الكفة نحو المتطرفين في فهم تحرر المرأة، وذلك لأن من يعيش مطاردًا ولا يعرف إن كان الأمر سينتهي به إلى السجن المؤبد أم إلى الموت لم تعد تشغله تشكيل أسرة وغلب على الجميع اللحظة التي يعيشها في حياته، مع ذلك والحق يقال لم تبن علاقة واحدة مبتذلة بين رفيق ورفيقة، بل كان يتم ذلك بالقناعة التامة والرضى بتلك العلاقة من دون ضغط أو إكراه أو تناول مصيرها النهائي. كما إن تلك الأجواء لم تمنع من استمرار الجدل حول الفهم النظري للماركسية في قضية العائلة واضمحلالها وموضوعة الدعارة في سوريا والموقف العملي منها.
والدعارة مهنة معروفة في التاريخ منذ القدم، لكن مفهومها الحديث اختلف عن الماضي، فقد اختصت بها المرأة لأسباب فيزيولجية كونها تلعب دور المستقبل في العملية الجنسية أو الآخذ، وتستطيع أن تمثل دور الشريك الكاذب مئات المرات في اليوم. في حين لو أراد الرجل أن يمنح جسده لنساء غنيات وقادرات على الدفع لما استطاع ذلك أكثر من مرة أو مرتين يوميًا مهما كانت قدرته الجنسية.
والدعارة في عرف الشيوعيين على اختلاف مذاهبهم ومنهم رابطة العمل الشيوعي ملازمة للعائلة البورجوازية، ولن تزول إلا بزوالها؛ أي بمحو علاقات الانتاج الرأسمالية وإحلال علاقات الإنتاج الاشتراكية محلها التي ستؤدي بطبيعة الحال إلى اضمحلال البغاء وتلاشيه بالتدريج سواء أكان رسميا أم غير رسمي.
بالطبع الدعارة منعت في سوريا بشكل رسمي بعد ” ثورة آذار”، وأصبح تعاطي المهنة يتم خارج القانون، ولكن حقيقة الأمر أن تعاطيها كمهنة في سوريا انخفض جدًا منذ عام 1963 حتى عام 1974، ولكنها عادت وازدهرت بعد انفتاح سوريا على الإخوة الخليجيين وما رافق ذلك بعد الحرب من فساد وإفساد داخل السلطة السورية بالترافق مع الاستقطاب الطبقي الجديد وزيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء مما فرض نفسه على المجتمع السوري وقواه السياسية.
وإذا كان الرفاق متفقين حول الأسباب التي أوصلت المرأة إلى ممارسة مهنة الدعارة، فقد انقسموا فيما بينهم حول تنظيم الداعرات داخل المنظمة وإعادة تأهيلهن فيها بوصفهن مسحوقات طبقيًا يمكن أن يلعبن دورًا مهمًا في العملية الثورية.
فريق كان متحمسًا للتفتيش عن تلك الداعرات وتنظيمهن، وفريق آخر رأى ان المرأة التي وصل بها الأمر الى امتهان تلك المهنة أصبحت ساقطة أخلاقيًا وثوريًا ولن يكون همّها سوى جمع المزيد من الدريهمات، ويصعب جدًا تحويلها إلى طليعية. والماركسية حذّرت ممن سمتهم حثالة البرولتاريا أو الرعاع أو قطاع الطرق، كون الطبقات الرجعية أقدر بكثير في استعمالهم لمصلحتها من الطبقات الثورية، والعاهرات أقرب ما يكنّ إلى الحثالة أو الرعاع، ولا يكفي التعاطف الأخلاقي معهن فقط.
أخيرًا : من الإنصاف القول إن رابطة العمل الشيوعي استقطبت إلى العمل السياسي عددًا لايستهان به من النساء في سوريا لم تستقطبه منظمة شيوعية أو يسارية لا في سوريا ولا في جوارها.
………………………………………………..
هوامش :
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، فريدريك انجلز، ص112.
المرجع السابق ص 36
======== ص59
======== ص 37
======== ص 100
======= ص 96
البيان الشيوعي ص 69
أصل العائلة ص 37
====== ص 71