مع ازدياد الانقسام في المجتمع السوري نتيجة أعمال القمع الوحشي والسياسات الطائفية لنظام الأسد، يتجدد سؤال الهوية الوطنية السورية، السؤال الذي انطلق من سوريا قبل أكثر من قرن بقليل، منذ أن نادى القوميون العرب الأوائل بفكرة “الأمة العربية” وولدت لأول مرة مشكلة بناء “الهوية الوطنية” في المشرق العربي الجامع للإثنيات والطوائف والعشائر، وهو ما جعل حضور هذه الإشكالية أكبر في دراسات المشارقة مقارنة بالمغاربة نتيجة اختلاف حدة التنوع الإثني والديني بين جناحي الوطن العربي.

وبناءً على رؤية مفادها أنَّ “بناء الهوية الوطنية” من أكبر إشكاليات عملية بناء الدولة-الأمة في الوطن العربي، وأحد معوقات التحول الديمقراطي، باعتبار أن “معوقات عملية بناء الأمة هي بالضبط معوقات الانتقال الديمقراطي في العالم العربي” لم يسعَ العرب في المشرق للتبحر في دراسة آليات صناعة الهوية عبر مؤسسات الدولة، وإنما انصب العمل على الدراسة النظرية لأطروحات التيارات الأيديولوجية وتقلباتها المتأثرة بالأوضاع الدولية، بل كانت تصريحات كبار المنظرين للأحزاب الأممية أحد منابع “التفكّر المشرقي” في مسألة الهوية الوطنية، وهو تفكّر يخضع لتبدل مزاج قادة التيارات السياسية العربية في كثير من الأحيان.

يعد كتاب جوزيف مسعد “آثارٌ استعمارية” حفراً قلَّ نظيره في دراسة الهويات الوطنية، إذ يدرس عملية بناء الهوية الوطنية الأردنية وكيف تطوّرت من خلال مؤسستي القانون والجيش بوصفهما مؤسستين مركزيتين في عملية إنتاج الوطن وتعريف الثقافة الوطنية في المجتمع عموماً. وربما كان “حظ” المملكة الأردنية أنها أقل بلدان المشرق العربي تنوعاً في الهويات، وفي الوقت ذاته الأكثر استقراراً سياسياً مقارنة بمحيطها البركاني.

ولكن حين نأخذ نموذج الدولة الأكثر فسيفسائية في العالم العربي “سوريا” نقف متسائلين عن هوية هذه “الدولة السورية” ونطرح أسئلة من مثل: كيف تشكل الجيش السوري؟ وما هي قطاعات المجتمع التي ضمَّها؟ وكيف تمت عملية دمجهم أصلاً؟ وهل هناك هويات أخرى مهمشة أو تم اقصائها من/في الجيش؟ وهي أسئلة تطرح كذلك على أجهزة التعليم والصحة وغيرها. في العالم العربي أبحاث وإجابات بعدد الخيّرين، وأسئلة جرارة بعدد الأشرار تبحث عن إجابة لمعرفة أصل البلاء، علَّها تفتح نافذة أملٍ بالدواء. وكما قال خالد نعمة: “من لم يفهم ماضيه بكل عجره وبجره، لن يستطيع أن يجد حلولاً لحاضره، فجذور المشاكل الحالية تقبع في الماضي”.

إلا أن تاريخ وحاضر سوريا يتفرد عن غيره فهي لم تشهد استقراراً في نظامها السياسي خلال فترة “حياته” منذ الاستقلال 1946م حتى انقلاب البعث “اللجنة العسكرية في الواقع” 1963م وبداية تشكّل الدولة التسلطية الطائفية، فهي مع كل انقلاب عسكري [ابتداءً من 1949م] تشهد وصول ضابط عسكري يحمل أيديولوجية وارتباطات اقليمية ودولية تختلف عمّن سبقه، ما ينعكس بصورة أساسية على جهاز الدولة، لذلك تُدرس هوية سوريا من خلال تياراتها السياسية، وهو ما تقدمه خلود الزغير في كتابها “سورية الدولة والهوية” الصادر مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إذ تقرأ مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري منذ (1946-1963).

وكما قرأنا عند محمد حرب فرزات ونشوان الأتاسي، ترى الزغيّر أن علة العلل في سوريا الاستقلال هي تشتت “هوية” التيارات السياسية نتيجة اختلاف المرجعية الفكرية (المشروعة) واختلاطها بعلة العشائرية والإثنية على أرض الواقع، وتعارض مصالح البرجوازيات الجديدة الحاكمة والبرجوازية ذات الأصول الإقطاعية، ولا يستثنى من ذلك صراع الكتلتين الدمشقية والحلبية، وبالتالي بقيت مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعاً للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية، وهو ما لم يسمح بالاتفاق على قواعد إدارة العملية السياسية، وبناء مؤسسات دولة جميع المواطنين.

“منزلُ الزعيم” وعصبيتان في مقابل الدولة

الأحزاب السياسية السورية لم تشكل نفسها استناداً إلى قواعد حزبية تنظيمية “مستقلة” بل بقيت أسيرة “النمط الزعامي” المترسخ في أذهان أعضائها

توضح خلود الزغير أن الأحزاب السياسية السورية لم تشكل نفسها استناداً إلى قواعد حزبية تنظيمية “مستقلة”، بل بقيت أسيرة “النمط الزعامي” المترسخ في أذهان أعضائها. فهذا سعد الله الجابري يلقى خطاب افتتاحية أول مكتب للكتلة الوطنية في مدينة حلب من بيت الزعيم إبراهيم هنانو قائلاً: “إن التنظيم الوطني في داخل البلاد هو هذا البيت، بيت الزعيم.. فهو نواة التنظيم المتواضعة، وهو الذي سيكون بيتكم، بيت الأمة، وهو الذي يلم شملكم ويكون واسطة عقدكم فأقبلوا عليه..” وبحسب أكرم حوراني نتج عن خطاب كهذا، أن بيت الزعيم في كل بلدة أصبح هو “بيت الأمة”. ومع تشكل المجالس النيابية بعد الاستقلال لم يكن بمقدور الإرادة الشعبية أن تعبر عن وحدة مصالحها وانتمائها، إذ رسّخ الزعماء تسلط المدينة على الريف، و”تسلط الزعماء المحليين على الشباب الطموح” كذلك، عبر نفوذهم الشخصي ومكانتهم الاجتماعية التي طغت على سلطة المؤسسة. وبحسب الزغيّر فإنَّ الربط بين “الأمة” و”بيت الزعيم” ساهم في بقاء السلطة بيد الزعماء المحليين في كل منطقة، فبدلاً من “أن تصبح نواة الأمة هي مؤسسات الدولة الحديثة، بقيت نواة الأمة ومركزها منازل زعماء المناطق والعائلات والعشائر”.

لم تقتصر الأزمة على هيمنة الزعامة في البرلمان، بل جلبت الزعامات معها عصبياتها العائلية أيضاً، ولكن هذه المرة بغطاء سياسي. “ففي عام 1947م لم ينجح من البعثيين في البرلمان إلا “جلال السيد” الذي حصل على مقعده بدعم من العشائر، وتحديداً عشيرته الخرشان وأبناء مدينته دير الزور، وليس بصفته الحزبية.. فحين نشب عراك بين أفراد من البعث والقوميين في دير الزور وأدى إلى سقوط قتيل، وكُلف جلال السيد بحل المشكلة.. ظهرت عشائرية جلال السيد فقدم مصالح عشيرته على مصلحة حزبه، فقام بحل فرع حزب البعث في دير الزور وأعلنه المسؤول عن المشكلة”.

تأكد الباحثة خلود الزغير على أن العصبيات في سوريا لا تتوقف على معناها الخلدوني فحسب، بل ينضم لهذا النادي العصبوي، عصبية الأيديولوجيا، من خلال تشريح الحزب الشيوعي بزعامة خالد بكداش. “يشرح يوسف الفيصل في مذكراته كيف قررت قيادة الحزب ألا يمارس مهنة الصيدلة التي درسها، واختارت له طريقاً مهنيًا آخر لخدمة الحزب، ثم طلبت منه الزواج قبل سفره” وحين تساءل الفيصل من خلال نقولا شاوي الذي أبلغه الأمر “هل يمكن أن يتم الزواج هكذا بدون معرفة مسبقة وتحضير؟ قال هذا قرار وعليك تنفيذه! وكان علينا أن نمتثل للأمر، فالحزب تنظيم شبه عسكري والانضباط فيه يقوم على هذا الأساس. هكذا كانت تربيتنا الحزبية”. وبعد الزواج سيطلق الفيصل، كما معظم رفاقه، اسم “خالد” على ابنه الأول تيمّنًا بخالد بكداش “الزعيم”. وبحسب الزغير فهذا النمط من العلاقات داخل الأحزاب جعلَ “التقربَ والتزلفَ والطاعةَ للقيادة تحكُمُ ترقي الأعضاء في سلّم المناصب، كما كان أي نقد للقيادة يؤدي إلى الفصل بقرار يصدر عن الأمين العام”.

جذور الأفكار

على النقيض من فكرة القومية عند الإنكليز والفرنسيين، ارتكزت النظرية القومية الألمانية على وحدة اللغة والسعي الدائم للتحرير القومي والتوحّد، بغض النظر عن ضمان تطوير الحكومة أو الحريات الشخصية أو القانون، لذلك كان النموذج الألماني للقومية هو الشائع في أطروحات القومية السورية والمنطقة العربية عموماً، وتعلّل الباحثة خلود الزغير ذلك بأن القومية الألمانية هي “الأنموذج الأكثر تعبيراً عن آمال شعب ونخب سياسية عربية مجروحة الهوية وطموحاتها، فبدا لها هذا الأنموذج رمزًا للقوة والنهوض ولحتمية التغيير وضرورته”.

وتتخذ الباحثة من حزب البعث العربي مثالاً لتفكيك خطاب الحزب ومدى تأثره بالقومية الألمانية، فقد اعترف ميشيل عفلق بفضل الفكر الألماني عليه قائلاً: “لقد تعلمنا من الفلسفة الألمانية بأن هناك شيئاً أعمق من الأحداث الظاهرة أو العلاقات الاقتصادية في تفسير مسيرة التاريخ ونمو المجتمع. وهذا ما عدّل فلسفتنا المادية”. وقد بَيَّنَ المفكر العربي محمد جابر الأنصاري في كتابه المبتكر “الفكر العربي وصراع الأضداد” عمق تأثر عفلق بالفلسفة الألمانية بشكل أوضح، إذ استعرض الأفكار والمفاهيم التي اقترضها عفلق من هيردر، فبلغت ستة عشر فكرة، وخمسة مصطلحات وتشبيهات متماثلة، ذكرها بالتفصيل في دراسته المقارنة.

واعتبرت الزغير بأن وحدة الأمة الألمانية شكلت مثالاً “يحتذى لوحدة أمة عربية متنوعة العقائد؛ وحدة تقوم على أساس اللغة والتاريخ كبديل عن الرابطة الدينية التي شكلت عامل وحدة مع الأمة العثمانية سابقاً، وفشلت في إنجاز المساواة المواطنية بين العرب والأتراك وبين المسلمين وباقي الأديان”.

بين النظري والواقعي:

من خلال ما قدمته الباحثة خلود الزغير من قراءة متميزة وموسعة لا يتسع مقال لمناقشتها، يظهر أنَّها قد قامت بإسقاط مفاهيم الأمة والقومية التي درسها فيلسوفنا ناصيف نصار نظرياً في كتابه “تصورات الأمة المعاصرة” على الواقع السياسي السوري.

ويجدر التذكير بإشكالية يجب الانتباه إليها في قراءة الفكر القومي، وهي الفرق بين مستوى دراسة أطروحات الهوية عند المفكرين، ودراسة تحوّلات الهوية في الواقع والعموم، فالمفكرون قسمان:

– مفكر قومي ينحصر تأثيره في نخبة النخبة من المثقفين، نتيجة اعتزاله السياسة أو ضعف حزبه عن التأثير في سياسات الدولة، وبالتالي فهي أفكار لا تؤثّر على صعيد هوية الدولة.

– ومفكر أو منظر قومي مشتبك في العملية السياسية: كأن يكون زعيم حزب فعّال، كما هي الحال في سوريا، فحين تتجدد أو تتغير مواقف هذا المفكر فهي تنعكس مباشرة على العملية السياسية وخارطة الأهداف والاستراتيجيات، وهي الأخطر.

ختاماً: يقول ابن خلدون: “إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة”.